في خضم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تتوالى من كل حدب وصوب الفصول الدامية التي يكتنفها كل أنواع الفتك والدمار، لتشمل كافة قطاعات الحياة دون استثناء، فهنالك جريمة إبادة يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة ليُحدث بذلك كارثة إنسانية متكاملة الأركان بحق المواطنين هناك، ومن دون رادع يستمر العدوان الإسرائيلي على غزة بصورة مهولة سريعة الفتك وشديدة الترويع، متضمناً أبشع الجرائم والانتهاكات بكافة الأسلحة جواً وبراً وبحراً، وقد تضمن هذه العدوان قطع امدادات الماء والغذاء على غزة، ليُحدث الاحتلال بذلك كارثة تتمثل في المجاعة التي ضربت المواطنين هناك، فمن لم يُقتل منهم بفعل القصف والمجازر الإسرائيلية، بات يموت بفعل الجوع والعطش، فالجوع في غزة بات يُرسم ملامح الموت على وجوه ساكنيها، وملامح الوجع والألم والقهر والجوع تطفو فوق كل شيء، فأهوال ما يحدث يفوق الخيال، فمهما يتم ذكره من شهادات تشير على واقع السكان هناك وظروف معيشتهم هي نقطة في بحر الإرهاب والغطرسة الاحتلالية الحاصلة، فلا يمكن الإحاطة بكل تلك التفاصيل المرعبة، والجروح الموجعة في متوالية الدم النازف كل يومٍ وساعةٍ ودقيقةٍ من دون انقطاع، وندوبها المحفورة في أعماق الروح بتباريح الألم، والوجع المقيم من فداحة الإبادة المتوالية بلا هوادة وفظاعتها، بعد أن قطعت كل أسباب الحياة عن أبناء شعبنا، أطفالاً ونساءً وشيباً وشباناً.
وبلغت الأوضاع الإنسانية الكارثية في غزة ذروتها في عام 2025 مع تفشي المجاعة وحرمان المدنيين من وصول المساعدات الأساسية، حيث تشير تقارير أممية وحقوقية إلى أن الإجراءات التي تتخذها إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة، قد ساهمت بشكل مباشر في خلق وتفاقم الأزمة الإنسانية من خلال الحصار المفروض على قطاع غزة من قبلها، ومنعها من مرور المساعدات، واستهداف المدنيين عند نقاط توزيع الإغاثة. الأمر الذي يشكّل خرقًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني، ويضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته القانونية والأخلاقية.
وكذلك تُفيد تقارير صادرة عن منظمات دولية مثل برنامج الغذاء العالمي والأمم المتحدة بأن أكثر من 80% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، مع وصول معدلات الجوع إلى مستويات كارثية في منتصف عام 2025. في شهر آب 2025 وحده، استشهد أكثر من 60 فلسطينيًا، بينهم 20 طفلًا، بسبب الجوع. ويُعزى هذا الوضع إلى القيود المشددة التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على دخول الغذاء والمساعدات، بالإضافة إلى استهداف المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على الإغاثة، الأمر الذي يعد إنتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني الذي يعتبر ذلك جريمة حرب.
فحسب المادة 8(2)(ب)(xxv) من نظام روما الأساسي "استخدام التجويع ضد المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، بما في ذلك عرقلة وصول الإمدادات الضرورية" جريمة حرب، علماً بأن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 المادة 55: تنص على أن "تتحمل الدولة المحتلة مسؤولية تأمين الإمدادات الغذائية والطبية للسكان المدنيين في الإقليم المحتل، وإذا كانت الموارد غير كافية، فعليها أن تسمح بمرور المساعدات"، وكذلك المادة 59: تُلزم القوة المحتلة بالسماح بعمليات الإغاثة الإنسانية، خاصة إذا كانت حياة السكان مهددة، وأن تضمن سلامة مرور هذه المساعدات دون تأخير.
أما البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977) وحسب المادة 54: فهي تحظر استخدام التجويع كسلاح ضد السكان المدنيين، وتحظر تدمير الموارد الضرورية لبقائهم، مثل الطعام والمياه والمحاصيل الزراعية، ومن جهتها المادة 70 من ذات البروتوكول تُلزم أطراف النزاع بتسهيل المرور السريع والآمن للمساعدات الإنسانية الموجهة للمدنيين دون أي عوائق لا مبرر لها.
ومن هذا الباب محكمة العدل الدولية وفي 26 يناير 2024 أمرت إسرائيل باتخاذ "جميع التدابير اللازمة" لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وفي 28 مارس 2024 وفي قرار لها شدّدت على التزام إسرائيل باتخاذ خطوات ملموسة لتفادي تفشي المجاعة في غزة، باعتبار أن الإبادة الجماعية تشمل كذلك الأفعال المؤدية إلى تدمير السكان، ومنها الحرمان من الغذاء.
وبناء على ذلك تُعد الإجراءات الإسرائيلية التي تمنع دخول المساعدات وتستهدف المدنيين أثناء بحثهم عن الغذاء، وفقًا للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الجنائي، جريمة حرب. ويُعتبر استخدام الجوع كوسيلة للضغط أو العقاب الجماعي للمدنيين خرقًا صريحًا للقانون الدولي العرفي، وانتهاكًا لكرامة الإنسان وحقه في الحياة، وهذا يتطلب تدخل المجتمع الدولي فورًا لرفع الحصار وضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون عوائق، فالوضع في قطاع غزة لم يعد مجرد أزمة إنسانية عابرة، بل جريمة حرب تتطلب تدخل فوري وفعّال لإنقاذ حياة المدنيين الأبرياء، وتتطلب عدم إفلات إسرائيل من العقاب.
وأكدت منظمة هيومان رايتس ووتش "بأن حرمان السكان في أراضٍ محتلة من الغذاء والكهرباء يشكل عقاباً جماعياً وهو جريمة حرب، مثله مثل استخدام التجويع سلاحاً". وأضافت: "على المحكمة الجنائية الدولية أخذ العلم بهذه الدعوة إلى ارتكاب جريمة حرب". وبحسب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن المدنيين الصادرة في العام 1949، تحت بند "المسؤولية الفردية والعقوبات الجماعية والنهب والانتقام"، "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي على جريمة لم يرتكبها هو شخصياً. وتحظر العقوبات الجماعية، وكذلك جميع تدابير الترهيب والإرهاب. وتُحظر الأعمال الانتقامية ضد الأشخاص المحميين وممتلكاتهم". وقالت الأمم المتحدة إن نحو نصف مليون شخص في غزة نزحوا داخلياً منذ بداية الهجوم الإسرائيلي، معظمهم "بسبب الخوف ومخاوف الحماية وتدمير منازلهم".
وأكد المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك أنه" بموجب المادة الأولى، المشتَرَكة بين اتفاقيات جنيف الأربع، على جميع الدول احترام القانون الدولي الإنساني المنصوص عليه في تلك الاتفاقيات. وعليها كذلك أن تعمل لضمان احترامه بشكل ضروري. تتجلى هذه المسؤولية عندما يكون هناك خطر حقيقي من أن الأسلحة الموردة إلى طرف من أطراف نزاع ما قد تُستخدم في انتهاك القانون الدولي الإنساني. أي تمكين من هذا القبيل لانتهاك القانون الدولي الإنساني يجب أن يتوقف على الفور. هذا هو جوهر العناية الواجبة".
وبشكل فظ وعلني تضرب إسرائيل بكل القرارات الدولية بعرض الحائط، وتخرق القانون الدولي الإنساني دون أن يرف لها رمش، وتنتهك القرارات والمواثيق الدولية والأممية بكل عنجهية وغطرسة وفجاجة. ولعل ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة من حرمان لكل مقومات الحياة من قتل وقصف وقطع للإمدادات الأساسية، هي أفعال تعتبر بمثابة حقائق دامغة ووصمة عار تُعبر عن مدى ديمومة إسرائيل في التنكر لكل القوانين والاحكام والقرارات الدولية بكل عنجهية احتلالية ممكنة وغطرسة، وهذه حقيقة ماثلة لمن يريد أن يرى.