في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، تتفاقم معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة بصورة غير مسبوقة، حيث يواجهون أوضاعًا إنسانية كارثية نتيجة للأضرار الجسيمة التي طالت البنية التحتية والخدمات الأساسية في القطاع، هذا الدمار الواسع أدى إلى تعطيل المرافق الصحية والتعليمية، وشلّ حركة وسائل النقل، مما زاد من صعوبة حصول الأشخاص ذوي الإعاقة على الدعم والخدمات التي يحتاجونها للبقاء على قيد الحياة. بالإضافة إلى ذلك، يعاني الأشخاص ذوي الإعاقة من ظروف النزوح القاسية، حيث أُجبر العديد منهم على مغادرة منازلهم التي دُمرت أو أصبحت غير آمنة، ليجدوا أنفسهم في مراكز إيواء مكتظة وغير مجهزة لاستيعاب احتياجاتهم الخاصة. في هذه الظروف، يواجهون تحديات كبيرة تتعلق بالحركة، وتوفير الأدوات المساعدة، والحصول على الغذاء والماء والأدوية اللازمة.
ولا تتوقف المعاناة عند هذا الحد، إذ يضاف إلى ذلك الأثر النفسي العميق الذي تركته هذه الأحداث على هذه الفئة الضعيفة. الصدمات النفسية الناتجة عن فقدان الأحباء، وشدة القصف، والخوف المستمر، تجعلهم في حالة من التوتر والقلق المستمرين، مما يزيد من تفاقم حالتهم الصحية ويجعل من الصعب عليهم التكيف مع الظروف الحالية. تأتي هذه الأزمة لتسلط الضوء على هشاشة أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة في مناطق النزاعات، وضرورة توفير تدخلات إنسانية عاجلة وشاملة تضمن حمايتهم وتلبي احتياجاتهم الماسة. إن توفير المساعدات الطارئة من معدات طبية وأدوات مساعدة، بالإضافة إلى خدمات الدعم النفسي والاجتماعي، يعد أمرًا حيويًا لضمان سلامتهم وكرامتهم وسط هذه الكارثة الإنسانية.
أكثر من 26 ألف مصاب خلال العدوان تعرضوا لإصابات غيرت مجرى حياتهم
وفقًا لتقرير صادر في 30 تموز 2024 عن منظمة الصحة العالمية أجرت فيه تحليل لأنواع الإصابات الناجمة عن الحرب، واستخدمت فيه التقارير اليومية الصادرة عن بيانات فرق الطوارئ الطبية (EMT) في الفترة من 10 كانون الثاني إلى 16 أيار 2024 لتقدير عدد الإصابات الخطيرة التي تتطلب رعاية وإعادة تأهيل مستمرين في غزة، حيث قدر عدد الإصابات الجسيمة التي تغيّر مجرى الحياة والتي تتطلب إعادة تأهيل مستمرة بحوالي 25% من إجمالي عدد الإصابات، أي ما لا يقل عن 26,140 شخص حتى تاريخ 24/11/2024.
تتضمن هذه الحالات ما بين 13,455 و17,550 إصابة خطيرة في الأطراف، بالإضافة لـ 3,105 - 4,050 حالة بتر للأطراف، معظمها من الأطراف السفلية. بالإضافة إلى ذلك، أشارت التقديرات في التقرير ذاته إلى حوالي 2000 إصابة في الحبل الشوكي والدماغ، هذا وقدر عدد إصابات الحروق بنحو 2000 إصابة على الأقل. وتتطلب إصابات النخاع الشوكي والحروق لمعالجة فورية ولإعادة تأهيل للوقاية من الآثار طويلة الأمد والتي قد ينتج عنها إعاقات دائمة.
حوالي 10 أطفال يتم بتر أطرافهم يومياً
يلقي العدوان الإسرائيلي أثاره بشكل كارثي على الأطفال في قطاع غزة تتمثل في إصابات جسدية خطيرة تترك آثاراً طويلة الأمد على صحتهم وحياتهم، قد يحتاجون إلى جراحات متكررة وعلاجات طبية مكلفة، كما إن الإصابات قد تؤدي إلى الإعاقة والعجز الدائم. حيث أشارت التقارير الصادرة عن وزارة الصحة أن ما نسبته 70% من إجمالي الجرحى البالغ عددهم 104,567 حتى تاريخ 24/11/2024 هم من الأطفال والنساء. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة "إنقاذ الطفل" ونقلاً عن اليونيسف في كانون ثاني 2024، تم تسجيل بتر أطراف لأكثر من 1,000طفل، أي بمعدل أكثر من10 أطفال يوميًا خلال الأشهر الثلاث الأولى من العدوان.
تدمير القطاع الصحي يضاعف المعاناة
تفاقمت أوضاع المصابين في قطاع غزة إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة التدمير الممنهج للمستشفيات ومراكز إعادة التأهيل، في ظل هجوم متواصل يستهدف بشكل مباشر البنية التحتية الصحية. هذا الدمار لم يقتصر على تعطيل الخدمات الطبية فحسب، بل امتد ليشمل القيود الصارمة المفروضة على إجلاء المرضى، مما يحول دون نقلهم إلى مراكز طبية آمنة خارج القطاع. كما تعاني المستشفيات من نقص حاد في الأجهزة المساعدة الضرورية، مثل الكراسي المتحركة، والعكازات، والمعينات السمعية، فضلاً عن افتقارها إلى المواد الطبية الأساسية مثل أدوية التخدير، والمضادات الحيوية، والإمدادات اللازمة لإجراء العمليات الجراحية.
الهجمات الممنهجة على المنشآت الصحية والكادر الطبي شلت قدرة النظام الصحي بالكامل على تقديم الخدمات اللازمة، خاصة لأولئك المصابين بجروح خطيرة وإعاقات مستدامة. يعاني العديد من المصابين من إصابات النخاع الشوكي، وبتر الأطراف، والحروق العميقة، والتي تتطلب علاجًا فوريًا ودقيقًا وإعادة تأهيل طويلة الأمد. ومع غياب هذه الخدمات، يتفاقم خطر الإصابة بمضاعفات صحية دائمة، كالتهابات الجروح المزمنة، وتدهور الحالة النفسية، أو حتى فقدان الحياة. وفي ظل هذا الدمار المستمر، أصبح الوصول إلى الخدمات الصحية شبه مستحيل. حتى الآن، يعمل فقط 17 مستشفى من أصل 36 بشكل جزئي، بينما تعرضت المستشفيات الأخرى لأضرار جسيمة أو أصبحت غير آمنة تمامًا للعمل بسبب الهجمات العنيفة وأوامر الإخلاء المتكررة. الرعاية الصحية الأولية، التي كانت تشكل العمود الفقري للنظام الصحي في غزة، أصبحت غير متاحة في معظم المناطق بسبب انعدام الأمن ونقص الموارد. أما المركز الوحيد المتخصص في إعادة تأهيل الأطراف الصناعية، والواقع في مجمع ناصر الطبي، فقد توقف عن العمل بالكامل منذ ديسمبر 2023 نتيجة النقص الحاد في الإمدادات الطبية وهجرة الكوادر المتخصصة، ليتلقى لاحقًا ضربات مباشرة أخرجته عن الخدمة تمامًا في فبراير 2024.
الأضرار الجسيمة لم تتوقف عند المنشآت، بل امتدت لتشمل العاملين في القطاع الصحي الذين دفعوا ثمنًا باهظًا لهذا العدوان. وفقًا لتقارير وزارة الصحة الفلسطينية الصادرة حتى 23 نوفمبر 2024، استشهد أكثر من 1000 فرد من الكوادر الصحية، بما في ذلك أطباء، ممرضون، ومسعفون، إضافة إلى استشهاد 39 متخصصًا في العلاج الطبيعي وفق تقرير سابق صدر في مايو من نفس العام. هذه الخسائر البشرية الفادحة فاقمت من أزمة النظام الصحي وأضعفت قدرته على مواجهة التحديات المتزايدة، مما يجعل الوضع الصحي في غزة على شفا انهيار كامل. هذا المشهد المأساوي يعكس كارثة إنسانية متعددة الأبعاد، حيث يتعرض المصابون والأطقم الطبية والمنشآت الصحية لضغط متزايد لا يمكن احتواؤه دون تدخل عاجل وشامل من المجتمع الدولي لضمان حماية المدنيين وتأمين الدعم الطبي الطارئ.
وعلى وجه العموم، يحظى الأشخاص ذوو الإعاقة بحماية خاصة بموجب القانون الدولي، الذي يؤكد على حقوقهم وكرامتهم في جميع الظروف، بما في ذلك أوقات النزاع المسلح، وهذا ما جاء في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (CRPD)، التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 2006، تُلزم الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان حماية الأشخاص ذوي الإعاقة في حالات الخطر والطوارئ الإنسانية والنزاعات المسلحة، مع توفير الدعم اللازم لهم للوصول إلى الخدمات الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، يشير القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، إلى ضرورة توفير الحماية والرعاية لجميع الأشخاص المتضررين من النزاعات، مع إيلاء اهتمام خاص للفئات الأكثر ضعفًا، بما في ذلك الأشخاص ذوو الإعاقة. كما يُحظر في القانون الدولي استهداف المدنيين أو المنشآت التي تلبي احتياجاتهم الأساسية، مثل المستشفيات ومراكز إعادة التأهيل. علاوة على ذلك، تفرض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التزامات على الدول لضمان تمتع الأشخاص ذوي الإعاقة بحقوقهم في الحياة، والصحة، والكرامة، دون أي تمييز، بما في ذلك أثناء حالات الطوارئ أو النزاعات. ورغم ذلك، تواجه هذه الفئة تحديات كبيرة على أرض الواقع بسبب الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، مما يستدعي تعزيز الجهود الدولية لضمان تنفيذ هذه الحماية بشكل فعّال.