في سياق العدوان الإسرائيلي على غزة بعد السابع من تشرين الأول من عام 2023، أمعن جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل شديد البشاعة بخرق كافة الضوابط الإنسانية والمواثيق الدولية؛ إذ شرع بانتهاج سياسة أشد بطشًا مما درج عليه طوال تاريخه منذ بداية احتلاله فلسطين، إذ ارتكب العديد من المجازر والفظائع بحق كافة المدنيين الفلسطينيين من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، دون أدنى تحرج، ما أسفر عن إبادة جماعية حقيقية مكتملة الأركان في قطاع غزة.
وعلى ضوء ذلك، وعلى وقع الإبادة الجماعية التي يتم ارتكابها، قد بدأت المحكمة الجنائية في الآونة الأخيرة مسارات جادة أدت في نهاية المطاف لإصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الجيش الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، هذا ما وصفته التحليلات الإسرائيلية إجراء دراماتيكي استثنائي يمكن أن يترتب عليه ضرر استراتيجي متعدد الأبعاد، سيلحق بإسرائيل ويؤثر ليس فقط في قدرتها على الاستمرار في الحرب، بل أيضاً في التعاون ما بينها وبين الدول الغربية بصورة خاصة، وليس فقط في المجالات الأمنية والعسكرية.
وبشيء من التفصيل، أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بتاريخ 21/11/2024، بالإجماع، قرارين برفض الطعون المقدمة من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي بموجب المادتين 18 و19 من نظام روما الأساسي، وأصدرت أوامر اعتقال بحق كل من بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت. وحكمت الدائرة في طلبين قدمتهما دولة الاحتلال في 26 أيلول/سبتمبر الماضي، حيث طعنت إسرائيل في اختصاص المحكمة على الوضع في دولة فلسطين بشكل عام، وعلى المواطنين الإسرائيليين بشكل أكثر تحديداً، على أساس المادة 19(2) من النظام الأساسي. وفي الطلب الثاني، طلبت إسرائيل من الدائرة أن تأمر الادعاء بتقديم إشعار جديد ببدء التحقيق إلى سلطاتها بموجب المادة 18(1) من النظام الأساسي. كما طلبت إسرائيل من الدائرة وقف أي إجراءات أمام المحكمة في الحالة ذات الصلة، بما في ذلك النظر في طلبات إصدار أوامر اعتقال لبنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، التي قدمتها النيابة العامة في 20 أيار/ مايو 2024. وتعليقا على الطلبين، قالت الدائرة إن قبول إسرائيل لاختصاص المحكمة ليس مطلوبا، حيث يمكن للمحكمة ممارسة اختصاصها على أساس الاختصاص الإقليمي لفلسطين، كما حددته الدائرة التمهيدية الأولى في تشكيل سابق. وعلاوة على ذلك، اعتبرت الدائرة أنه بموجب المادة 19(1) من النظام الأساسي، لا يحق للدول الطعن في اختصاص المحكمة بموجب المادة 19(2) قبل إصدار أمر الاعتقال، وبالتالي فإن تحدي إسرائيل سابق لأوانه، وهذا لا يمس بأي تحديات مستقبلية محتملة لاختصاص المحكمة و/أو قبول أي قضية معينة. ورفضت الدائرة أيضًا طلب إسرائيل بموجب المادة 18(1) من النظام الأساسي. وأشارت إلى أن الادعاء أخطر إسرائيل ببدء التحقيق في عام 2021. وفي ذلك الوقت، وعلى الرغم من طلب التوضيح من جانب الادعاء، اختارت إسرائيل عدم متابعة أي طلب لتأجيل التحقيق. وعلاوة على ذلك، اعتبرت الدائرة أن معايير التحقيق في الموقف ظلت كما هي، ونتيجة لذلك، لم يكن هناك حاجة إلى إخطار جديد لدولة إسرائيل. وفي ضوء ذلك، وجد القضاة أنه لا يوجد سبب لوقف النظر في طلبات أوامر الاعتقال.
واعتبرت الدائرة أن السلوك المزعوم لكل من نتنياهو وغالانت يقع ضمن اختصاص المحكمة. وأشارت الدائرة إلى أنها قررت في تشكيل سابق أن اختصاص المحكمة في هذه الحالة ينطبق على غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. وعلاوة على ذلك، رفضت الدائرة استخدام سلطاتها التقديرية من تلقاء نفسها لتحديد مدى مقبولية القضيتين في هذه المرحلة، وهو ما لا يخل بأي قرار بشأن اختصاص وقبول القضيتين في مرحلة لاحقة. ووجدت الدائرة، وفق بيان "الجنائية الدولية"، "أسباباً معقولة للاعتقاد بأن القانون الإنساني الدولي المتعلق بالنزاع المسلح الدولي بين إسرائيل وفلسطين ينطبق على هذه الحالة، وذلك لأنهما طرفان متعاقدان ساميان في اتفاقيات جنيف لعام 1949، ولأن إسرائيل تحتل أجزاء على الأقل من فلسطين. ووجدت الدائرة أن السلوك المزعوم لكل من نتنياهو وغالانت يتعلق بأنشطة الهيئات الحكومية الإسرائيلية والقوات المسلحة ضد السكان المدنيين في فلسطين، وبشكل أكثر تحديداً المدنيين في غزة. وبالتالي، فقد تعلق الأمر بالعلاقة بين طرفين في نزاع مسلح دولي، فضلاً عن العلاقة بين قوة الاحتلال والسكان في الأراضي المحتلة. ولهذه الأسباب، وفيما يتعلق بجرائم الحرب، وجدت الدائرة أنه من المناسب إصدار أوامر الاعتقال وفقاً لقانون النزاع المسلح الدولي، وأن الجرائم المزعومة ضد الإنسانية كانت جزءاً من هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين في غزة". ورأت الدائرة أن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأن كلا الفردين حرموا عمدا وعن سبق إصرار السكان المدنيين في غزة من أشياء لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة، بما في ذلك الغذاء والماء والأدوية والإمدادات الطبية، فضلاً عن الوقود والكهرباء، من 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 20 مايو/أيار 2024 على الأقل. ويستند هذا الاستنتاج إلى دورهما في إعاقة المساعدات الإنسانية في انتهاك للقانون الإنساني الدولي وفشلهما في تسهيل الإغاثة بكل الوسائل المتاحة لها". ووجدت الدائرة أن سلوكهما أدى إلى تعطيل قدرة المنظمات الإنسانية على توفير الغذاء وغيره من السلع الأساسية للسكان المحتاجين في غزة. كما كان للقيود المذكورة أعلاه، إلى جانب قطع الكهرباء وتقليص إمدادات الوقود، تأثير شديد على توفر المياه في غزة وقدرة المستشفيات على تقديم الرعاية الطبية.
كما لاحظت الدائرة أن القرارات التي تسمح أو تزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة كانت مشروطة في كثير من الأحيان، ولم تتخذ هذه القرارات للوفاء بالتزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي أو لضمان تزويد السكان المدنيين في غزة بالسلع المحتاجة بشكل كاف، بل كانت في الواقع استجابة لضغوط المجتمع الدولي أو طلبات من الولايات المتحدة الأميركية. وفي كل الأحوال، لم تكن الزيادات في المساعدات الإنسانية كافية لتحسين قدرة السكان على الوصول إلى السلع الأساسية.
وعلاوة على ذلك، وجدت الدائرة "أسباباً معقولة للاعتقاد بأنه لا يمكن تحديد أي حاجة عسكرية واضحة أو مبرر آخر بموجب القانون الإنساني الدولي للقيود المفروضة على وصول عمليات الإغاثة الإنسانية. وعلى الرغم من التحذيرات والمناشدات التي قدمها، من بين جهات أخرى، مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والأمين العام للأمم المتحدة والدول والمنظمات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني بشأن الوضع الإنساني في غزة، لم يتم السماح إلا بالحد الأدنى من المساعدات الإنسانية. وفي هذا الصدد، نظرت الدائرة في فترة الحرمان المطولة وبيان نتنياهو الذي يربط بين توقف السلع الأساسية والمساعدات الإنسانية وأهداف الحرب. وبناءً على ذلك وجدت أسبابا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب". وخلصت الدائرة إلى وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن نقص الغذاء والماء والكهرباء والوقود والإمدادات الطبية المحددة، خلق ظروفا معيشية أدت إلى إحداث "تدمير" جزء من السكان المدنيين في غزة، مما أدى إلى وفاة المدنيين، بما في ذلك الأطفال بسبب سوء التغذية والجفاف.
بالإضافة إلى ذلك، من خلال الحد عمدا من الإمدادات الطبية والأدوية أو منعها من الدخول إلى غزة، وخاصة التخدير وأجهزة التخدير، فإن الشخصين مسؤولان أيضا عن إلحاق معاناة كبيرة من خلال أفعال لاإنسانية بأشخاص يحتاجون إلى العلاج. حيث أُجبر الأطباء على إجراء عمليات جراحية لأشخاص مصابين وبتر أطراف، بما في ذلك على الأطفال، دون تخدير، و/أو أُجبروا على استخدام وسائل غير كافية وغير آمنة لتخدير المرضى، مما تسبب لهؤلاء الأشخاص بآلام ومعاناة شديدة، وهذا يرقى إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في أفعال لاإنسانية أخرى. كما وجدت الدائرة أسبابا معقولة للاعتقاد بأن السلوك المذكور أعلاه حرم جزءا كبيرا من السكان المدنيين في غزة من حقوقهم الأساسية، بما في ذلك الحق في الحياة والصحة، وأن السكان كانوا مستهدفين على أساس سياسي و/أو وطني. وبالتالي وجدت أن الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الاضطهاد قد ارتُكبت.
وأخيرا، قيّمت الدائرة أن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت يتحملان المسؤولية الجنائية باعتبارهما رئيسين مدنيين عن جريمة الحرب المتمثلة في توجيه هجمات عمدًا ضد السكان المدنيين في غزة. وفي هذا الصدد، وجدت الدائرة أن المواد التي قدمتها النيابة العامة سمحت لها فقط بالتوصل إلى نتائج بشأن حادثتين مؤهلتين كهجمات موجهة عمدا ضد المدنيين، وهناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت، على الرغم من وجود إمكانيات متاحة لهما لمنع أو قمع ارتكاب الجرائم أو ضمان إحالة الأمر إلى السلطات المختصة، فشلوا في القيام بذلك.
وما هو جدير بالذكر وللإيضاح، انه وبوقت سابق وتحديداً بتاريخ 20/5/2024 أكد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان بانه يعمل على إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير جيشه يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب. وأوضح خان في بيان صحفي نشر على الموقع الرسمي للمحكمة الجنائية الدولية، أنه "مع الأخذ في الاعتبار بالأدلة التي تم جمعها وفحصها من قبل مكتبه، لديه سبب وجيه للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة على أراضي دولة فلسطين (في قطاع غزة) اعتباراً من 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهي:
- تجويع المدنيين عمداً كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب، في انتهاك للمادة 8-2-ب-25 من النظام الأساسي.
- التسبب عمدا في معاناة شديدة أو إلحاق ضرر جسيم بالجسم أو الصحة، في انتهاك للمادة 8-2-أ-ثالثا، أو المعاملة القاسية باعتبارها جريمة حرب، في انتهاك للمادة 8-2-ج-ط.
- القتل العمد، انتهاكًا للمادة 8-2-أ-ط أو القتل باعتباره جريمة حرب، انتهاكًا للمادة 8-2-ج-ط؛
- تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين باعتبارها جريمة حرب في انتهاك للمواد 8-2-ب-ط أو 8-2-ه-ط.
- الإبادة و/أو القتل كجريمة ضد الإنسانية، انتهاكًا للمادتين 7-1-ب و7-1-أ، بما في ذلك ما يتعلق بتجويع المدنيين المؤدي إلى الوفاة، كجريمة ضد الإنسانية.
- الاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، انتهاكًا للمادة 7-1-ح.
- الأفعال اللاإنسانية الأخرى التي تعتبر جريمة ضد الإنسانية، انتهاكاً للمادة 7-ل-ك.
وأكد مكتب المدعي العام، أن الأدلة التي جمعها، بما في ذلك المقابلات مع الضحايا والشهود المباشرين، والوثائق الصوتية والمرئية الموثقة، وصور الأقمار الصناعية، والتصريحات التي أدلى بها أعضاء المجموعة التي يُزعم أنها ارتكبت هذه الجرائم، تثبت أن إسرائيل ارتكبت عمدا وبشكل منهجي حرمان المدنيين في كامل أراضي غزة من وسائل العيش الضرورية لبقائهم على قيد الحياة. وأشار إلى فرض الاحتلال حصارا كاملاً على غزة، من خلال الحظر الكامل للوصول إلى المعابر الحدودية الثلاثة: رفح، وكرم أبو سالم، وبيت حانون "إيرز" اعتبارًا من 8 تشرين الأول لفترات طويلة، ثم تقييد إيصال الإمدادات الأساسية بشكل تعسفي- مثل الغذاء والمستلزمات الطبية، وإغلاق خطوط المياه التي تربط إسرائيل بغزة – المصدر الرئيسي لمياه الشرب لمواطني غزة – لفترة ممتدة، اعتبارًا من 9 أكتوبر 2023، وانقطاع إمدادات الكهرباء وعرقلة هذا الإمداد اعتبارًا من 8 أكتوبر 2023 على الأقل حتى اليوم.
كما وأكد مكتب المدعي العام أن هذه الأعمال كانت جزءًا من خطة مشتركة لتجويع المدنيين عمدًا، كوسيلة من وسائل الحرب واللجوء إلى أعمال عنف أخرى ضد المواطنين المدنيين في غزة. وشدد على أن استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، إلى جانب الهجمات الأخرى والعقاب الجماعي المطبق على المدنيين في غزة، أدى الى تداعيات حادة وواضحة ومعروفة. وقد أكدها العديد من الشهود الذين قابلهم مكتب الدعي العام، بمن في ذلك أطباء من غزة وأطباء أجانب. وأشار إلى أن أسلوب الحرب هذا، أدى إلى مشاكل سوء التغذية والجفاف والمعاناة المؤلمة، وتزايد عدد الوفيات بين المدنيين الفلسطينيين، بمن في ذلك الأطفال حديثو الولادة والأطفال والنساء. وأوضح خان، أنه منذ العام الماضي، أكد مراراً وتكراراً في رام الله والقاهرة وإسرائيل ورفح أنه بموجب القانون الإنساني الدولي، يتعين على إسرائيل أن تتحرك بشكل عاجل لتمكين إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. وأكد أن استخدام المجاعة كوسيلة من وسائل الحرب وعرقلة المساعدات الإنسانية يشكلان انتهاكا لأحكام نظام روما الأساسي.
وفي ذات السياق، قال المدعي العام للمحكمة: "مكتبي يفي بولايته بموجب نظام روما الأساسي. ففي 5 فبراير 2021، وجدت الدائرة التمهيدية الأولى أن المحكمة يمكنها ممارسة اختصاصها الجنائي على الوضع في دولة فلسطين، وخلصت إلى أن اختصاصها الإقليمي يمتد إلى غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. ولا يزال هذا التفويض ساريا". وأكد خان أن الطلبات المقدمة اليوم لإصدار مذكرات توقيف، هي تتويج لتحقيق أجراه مكتبه باستقلال وحياد كاملين. وقال: نظرًا إلى التزامنا بالتحقيق مع كل من الادعاء والدفاع، فقد عملنا بدقة على فصل الادعاءات عن الحقائق وتقديم استنتاجاتنا بطريقة متوازنة، بناءً على الأدلة المقدمة إلينا. وشدد على أنه لا يمكن لأي دولة أن تتهرب من المعايير التي ينص عليها القانون الدولي وقانون النزاعات المسلحة. مؤكداً: "لا يمكن لأي جندي، ولا قائد، أن يتصرف دون عقاب. ولا شيء يمكن أن يبرر حرمان البشر عمداً، بمن في ذلك العديد من النساء والأطفال، من السلع الأساسية لبقائهم".
وبين خان أن القضاة المستقلين في المحكمة الجنائية الدولية هم الوحيدون الذين يمكنهم تحديد ما إذا كانت الشروط مستوفاة لإصدار أوامر الاعتقال، إذا وافقوا على طلباتي وأصدروا أوامر الاعتقال، فسأعمل على إلقاء القبض على الأفراد المعنيين. ودعا بدوره جميع الدول، ولا سيما الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، إلى النظر في هذه الطلبات والقرار القضائي اللاحق على محمل الجد كما فعلت في حالات أخرى، وفقا للالتزامات المفروضة عليها في النظام الأساسي. وأكد استعداد مكتبه للعمل مع الدول غير الأطراف على تحقيق الهدف المشترك المتمثل في إرساء المساءلة عن الجرائم الدولية. وشدد على ضرورة التوقف فورًا عن محاولات عرقلة مسؤولي المحكمة أو تخويفهم أو التأثير فيهم بشكل غير مبرر، وأن مكتبه لن يتردد في اتخاذ الإجراء المناسب بموجب المادة 70 من نظام روما الأساسي إذا استمر هذا السلوك.
كما وأكد المدعي العام على أنه: "اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يجب علينا أن نثبت بشكل جماعي أن القانون الإنساني الدولي، الذي يملي المعايير التي يجب احترامها في أوقات الحرب، ينطبق بشكل محايد على جميع أطراف النزاع المسلح في جميع الحالات المعروضة علينا وعلى المحكمة. وبهذه الطريقة، سنكون قادرين على إثبات أن حياة البشر جميعا متساوية".
وعلى وجه العموم، تجري المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا مستمرا في الوضع في دولة فلسطين فيما يتعلق بجرائم حرب ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي منذ 13 حزيران/ يونيو 2014. وما هو جدير بالذكر بان دولة فلسطين طرف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية منذ الأول من نيسان/ ابريل 2015، لذا فهي مختصة بالتحقيق في الجرائم الخاضعة لولايتها والتي وقعت على أراضي الدولة الفلسطينية. وقدمت دولة فلسطين عدة طلبات للمحكمة، للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية خلال العدوان على قطاع غزة، وإرهاب المستعمرين في الضفة الغربية، والانتهاكات بحق المعتقلين، وغيرها من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، قدمت جنوب افريقيا، وبنغلادش، وبوليفيا، وجزر القمر، وجيبوتي طلبات للمحكمة الجنائية الدولية، للتحقيق في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، في قطاع غزة والضفة الغربية. وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، انضمت المكسيك وتشيلي إلى الدعوات للمطالبة بإجراء تحقيق من جانب المحكمة الجنائية الدولية في "جرائم حرب محتملة" خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة. وفي آذار/ مارس الماضي، قدم تحالف دولي ملفا قانونيا شاملا مشتركا حول ارتكاب القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، إلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
ويُلزم نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى السوابق القانونية في قضايا تنطوي على مذكرات اعتقال ضد رؤساء دول في الحكم، جميع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية وعددها 124 دولة، باعتقال وتسليم أي فرد يسري ضده أمر اعتقال من المحكمة إذا وطأت قدماه أراضيها. لكن ليس لدى المحكمة أي وسيلة لإنفاذ الاعتقال، وهو الأمر الذي ثبت أنه يشكل عقبة رئيسية أمام الملاحقات القضائية. وعقوبة عدم اعتقال أي شخص هي الإحالة إلى مجلس الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، وفي نهاية المطاف الإحالة إلى مجلس الأمن الدولي.
كما وتسمح قواعد المحكمة لمجلس الأمن الدولي بتبني قرار يوقف أو يؤجل التحقيق أو المحاكمة لمدة عام، مع إمكان تجديد ذلك إلى أجل غير مسمى. وفي الحالات السابقة التي تجاهلت فيها دولة ما التزامها باعتقال فرد يواجه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، كان أقصى ما واجهته هذه الدولة هو التوبيخ.
وبشكل عام، ومن الناحية العملية، تعمل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي منذ العام 2002 وفق "معاهدة روما". ومن صلاحياتها مناقشة المسؤولية الجنائية لأفراد متورطين في ارتكاب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة، وهجمات نُفّذت في أراضي دولة عضو في المعاهدة، أو على أيدي مواطنيها. ومن صلاحياتها إصدار أوامر اعتقال ضد مشتبه بهم، وبموجبها يتعين على الدول الأعضاء الـ124 في المحكمة احترام هذه الأوامر واعتقال الأشخاص المشتبه بهم ضمن حدودها، وإحالتهم على المحكمة في لاهاي. وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، ولا تعترف بصلاحياتها، ففي العام 2021، فُتح تحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في مناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بعد الاعتراف بفلسطين كدولة ذات صلاحيات. ويتطرّق هذا التحقيق إلى كل الأطراف على الأرض، من الإسرائيليين والفلسطينيين، وتحديداً منذ 13 حزيران 2014، ومن دون تحديد موعد الانتهاء منه، ولذلك يسري التحقيق على الحرب الإسرائيلية الحالية ضد قطاع غزة. ووفقاً لتقارير العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية اكتسب هذا التحقيق المستمر زخماً أكبر بعد الحرب الراهنة، وتُمارس على المدعي العام في المحكمة ضغوط كبيرة للمضي به قدماً.
وعلى الرغم من حقيقة أن قرارات المحكمة الجنائية مُلزمة إلا أن المحكمة لا تملك أدوات تنفيذ واضحة وحاسمة، وهنا تكمن الإشكالية في كيفية وقف الجريمة، ووقف الإبادة الحاصلة في غزة واستهداف المدنيين ومحاسبة الافراد المتورطين بهذه الإبادة. فإسرائيل تاريخياً هي دولة تتصرف على أنها فوق القانون؛ إذ تخرق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن دون أن يرف لها رمش وعلى مدار التاريخ، وتزيد من انتهاكاتها الصارخة للقانون الدولي الإنساني دون رادع أو عقاب. ولعل تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عقب اعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بانه يسعى لإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير جيشه يوآف غالانت كانت دليلاً دامغاً على الصيرورة والمجاهرة بالعداء لكل الأصوات التي تنادي بالحق وإعلاء القانون وتنفيذ مضامينه، إذ قال بانه: " كرئيس حكومة إسرائيل أرفض باشمئزاز ما قامت به المحكمة الجنائية الدولية". وأكد نتنياهو أن القرار يشكل نموذجا لمعاداة السامية الحديثة، قائلا:" هكذا بالضبط تبدو المعاداة الحديثة للسامية". مع تعهده التام بمواصلة الحرب على غزة. كما وقال نتنياهو في أعقاب صدور مذكرة الاعتقال بحقه بأن المحكمة الجنائية الدولية هي معادية للسامية، وان اسرائيل لن تعترف بقرار المحكمة وستستمر في حربها. فهذه التصريحات ان دلت فإنما تدل على عدم احترام إسرائيل لكل مضامين القانون الدولي وضرب كل القرارات بعرض الحائط دون حسيب أو رقيب، وهي وصمة عار تُعبر عن مدى صيرورة إسرائيل وديمومتها في التنكر لكل القوانين والاحكام والقرارات الدولية بكل عنجهية احتلالية ممكنة وغطرسة، وهذه حقيقة ماثلة لمن يريد أن يرى.