التهجير والممرات "غير الآمنة" إبان العدوان الإسرائيلي على غزة

تتوالى جرائم الإبادة فصولاً دموية؛ بين ما يجري من جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، وما يتعرض له السكان هناك كذلك الأمر من تهجير ونزوح داخلي عبر ممرات يدعي الاحتلال الإسرائيلي بأنها آمنة لنزوح السكان، لكنها بالحقيقة ما هي إلا ممرات للموت والتشرد والضياع، وعلى نحو شديد الفتك والترويع يقوم الاحتلال الإسرائيلي بالإضافة الى جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها في غزة على اجبار السكان والأهالي في غزة ولا سيما في شمال قطاع غزة على مغادرة منازلهم وتهجيرهم الى مناطق الجنوب عبر ممرات الموت، وهذه الهجرة وموجة النزوح كانت بفعل نشر قوات الاحتلال تهديدات لما يزيد عن مليون نسمة (غزة وشمالها) وطلبت منهم الانتقال لجنوب المدينة ولملاجئ ولمناطق "آمنة"، علما أن لا ملاجئ في غزة ولم يعد هناك أماكن آمنة، فجيش الاحتلال الإسرائيلي يقوم بقصف قوافل المدنيين العُزل في هذه الممرات والشوارع التي يدعي الاحتلال بانها آمنة ويرديهم ما بين جريح وقتيل، وهذا في حالة شديدة السواد والقتامة والفجاجة، ومنافية كلياً لأية مضامين إنسانية وبشرية، وتضرب بعرض الحائط كل القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية ولا سيما اتفاقية جنيف،  فالكل في غزة على ذات المقصلة يُذبح سواء مهاجرين ام غير مهاجرين.

ولعل مسألة التهجير والنزوح في غزة ابان العدوان الإسرائيلي 2023 ليست مسألة هينة؛ فوفقاً لمعطيات ومؤشرات الأمم المتحدة فان هذه أكبر عملية نزوح داخلي حديثة تضرب فلسطين تبعاً لوضع شديد الخطورة والصعوبة، فهنالك أكثر من 1650000 مُهجر ونازح في غزة وخاصة من مناطق الشمال الى الجنوب، كما وهنالك أكثر من 234000 وحدة سكنية متضررة لم تعد تصلح للسكن في قطاع غزة وهذا وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حتى تاريخ 25/11/2023 والرقم قابل للزيادة، فالأرقام الواردة مهولة وكبيرة جداً وتدل على موجة نزوح ضخمة في ظروف شديدة القتامة، فرائحة الموت تنبعث من كل مكان في غزة، وهذا علاوة على ان النازحين من بيوتهم هم يذهبون الى مناطق ليست جاهزة لاستيعاب أعدادهم، فالمدارس المخصصة لإيواء النازحين هي تتكدس بالأعداد ولا تتسع لكل موجة النازحين، فالبعض باتوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، والبعض الاخر موجودين داخل خيام خفيفة لا تقي من صيف ولا من شتاء، ولا يوجد غذاء كافي لهم، ولا ماء نقي، ولا أية ظروف تدعم بقائهم وصمودهم، فالنازحين معظمهم شربوا الماء المالح الغير مُحلى، وفتكت فيهم الأمراض المختلفة نظراً للحالة الصحية الكارثية التي تضرب قطاع غزة بكل مكوناته وأماكنه، وعلاوة على ذلك لا يوجد وقود لحركة المركبات ولا شوارع صالحة للسير فيها، فالنازحين الى الجنوب يقوموا بالمشي لمسافات طويلة سيراً على الاقدام في ظروف شديدة الرعب وهم معرضون في أية لحظة للقصف والقتل من قبل قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي.

ففي تاريخ 14/10/2023 استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلية عبر الطائرات شاحنة كانت تقل نازحين فلسطينيين من شمال مدينة غزة نحو الجنوب عبر الممر الذي تدعي إسرائيل بأنه آمن، وهذا الممر هو شارع صلاح الدين في غزة، وأسفر استهداف القافلة عن استشهاد نحو 70 شخصاً من النازحين معظمهم من النساء والأطفال وإصابة نحو 200 آخرين، فكانت جثث الشهداء ملقاة في شارع صلاح الدين في غزة والاشلاء متناثرة بصورة شديدة الفظاعة.

وفي تاريخ 3/11/2023 كذلك الأمر قامت قوات الاحتلال بقصف قافلة للنازحين على طريق الرشيد الساحلي في قطاع غزة، وكانت المشاهد صادمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهناك عشرات الشهداء من النساء والأطفال على طول الطريق العام والاشلاء متناثرة في كل الاتجاهات على نحو شديد الإرهاب والفظاعة.

ولم تكن الصورة مختلفة عما جرى في مستشفى الشفاء، فجيش الاحتلال الإسرائيلي بعد حصار مطبق على مستشفى الشفاء وارتكاب المجازر، دعا كل المتواجدين بالمستشفى لإخلائه قسراً وعلى الفور خلال ساعة واحدة عبر ممر يدعي الاحتلال بانه آمن، فالجرحى والمرضى بدأوا بمهمة النزوح سيراً على الأقدام بالرغم من حالتهم الصحية الصعبة، فمنهم من مات على الطريق، ومنهم سقط أرضاً على بعد 100 متر فقط عن المستشفى ولم يستطع السير، فالاحتلال طلب منهم المشي لمسافة تزيد عن 15 كيلو نحو الجنوب سيراً على الاقدام، وهم يحملون الرايات البيضاء، وجرى خلال نزوحهم من الممر والشارع المحدد قنص العديد منهم، والتنكيل بهم، واعتقال عدد منهم، منهم مدير مجمع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية واختطافه من أحدى السيارات التابعة للصليب الأحمر واقتياده الى جهة مجهولة.

الممرات الآمنة في قطاع غزة ما هي الا "ممرات للموت" الاحتلال الإسرائيلي يواصل الكذب بشأن وجود ممرات آمنة للنازحين والكوادر الطبية. احدى النازحات عبر هذه الممرات بأن قالت جثث الشهداء كانت متفحمة داخل السيارات والقناصون يترصّدون من يمر عبر الممرات التي ادّعوا أنها آمنة، وكذلك الامر يوجد عبر هذه الممرات حواجز لجيش الاحتلال الإسرائيلي يقوم بتفتيش الجميع بشكل مُهين يصل الى ان يكون الشخص شبه عارِ من ملابسه بشكل كلي، والتحقق من الهويات، واعتقال العديد من المواطنين بصورة تعسفية واقتيادهم الى أماكن مجهولة وعدم الإفصاح فيما بعد عن هؤلاء المواطنين أية معلومة حتى للصليب الأحمر.

وتؤكد احدى النازحات كذلك بأن ما شهدته في رحلة النزوح عبارة كان عن مناظر مفزعة، الناس مرعوبة، وكل ما تمت مشاهدته سابقاً من رعب خلال الفترة الماضية لا يعادل واحد بالمئة من الرعب الذي شاهدوه النازحين في الممرات التي يدعي الاحتلال بأنها آمنة. كما ويتعمد جيش الاحتلال على إذلال النازحين بشكل واضح أثناء خروجهم من غزة وشمالها، باتجاه الجنوب عبر الممرات الآمنة، فالجيش الإسرائيلي يطلب من المواطنين الخروج عبر الممر الآمن في غضون ساعة واحدة والا سيتم قصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها وعندما يخرجون من بيوتهم نحو الجنوب الذي يدعي الاحتلال بأنها مناطق آمنة يتم قصف المواطنين في الممرات التي ما هي الا ممرات للموت والرعب والاذلال، فجيش الاحتلال يطلب من المواطنين اثناء سيرهم رفع الرايات البيضاء، هذا بعد أن تم تجميعهم والاستهزاء بهم، واطلاق الرصاص نحوهم لبث الرعب في نفوسهم.

وما هو جدير بالذكر بأنه كما لا يوجد ممرات آمنة في غزة، كذلك الأمر لا يوجد مناطق وأماكن آمنة في غزة، فالأماكن الآمنة ما هي الا مصيدة ينصبها الاحتلال للمواطنين في قطاع غزة، فجيش الاحتلال يتعمد استهداف المدنيين خلال نزوحهم من منازلهم بعد قصفها، كما قصف مدارس "الأونروا" والمستشفيات ومحيطها والمساجد، التي لجأ إليها المواطنون ظنًا منهم أنها آمنة. ففي المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) تجمعت مئات العائلات النازحة من مدينة غزة متخذة منه مكانا "آمنا"، إلا أن طائرات الاحتلال استهدفت المستشفى، مرتكبة مجزرة أسفرت عن استشهاد نحو 500 مواطن وإصابة مئات آخرين، وكانت عشرات العائلات الغزية قد تركت منازلها من الأحياء المحيطة بالمستشفى، ولجأت له بعد تهديدات تلقوها على هواتفهم النقالة من جيش الاحتلال تطلب منهم مغادرة منازلهم والتوجه "لأماكن آمنة". وبعد لجوئهم للمستشفى بسويعات، باغتت الصواريخ الإسرائيلية العائلات وحولتهم إلى أشلاء متناثرة لم تستطع الطواقم الطبية ولا الإنقاذ التعامل معها، وما جرى كان حقيقة ماثلة لمن يريد ان يرى، وهذا مثال واحد من عشرات الأمثلة المشابهة والتي تُظهر حجم الفتك والترويع والجرائم التي تُرتكب في غزة.

وفي ذات السياق، أكدت الأمم المتحدة، بأن دعوات اسرائيل لتهجير سكان قطاع غزة ب"الخاوية" وقالت المنظمة على لسان مبعوثتها العليا الى الأراضي الفلسطينية المحتلة لين هاستينغز، ان التحذيرات التي تطلقها إسرائيل للسكان وتطالبهم بمغادرة غزة هي خاوية، مؤكدة "حين لا يكون للناس مكان يذهبون اليه، حين تتعرض المعابر الآمنة للقصف، حين يعاني سكان شمال غزة كما يعاني جنوبه ويستهدفون بشكل يومي، وحين تكون اساسيات الحياة مفقودة بالكامل، فان الناس يتركون مع خيارات مستحيلة، لا مكان امن في غزة الان". ودعت المسؤولة الأممية المجتمع الدولي الى احترام القوانين الدولية مشددة على أهمية حماية المدنيين، معلنة ان الأمم المتحدة "ستقوم بإيصال المساعدات الى المحتاجين في أي مكان في العالم واي وقت"، مشيرة الى رفض المنظمة الدولية التصريحات الإسرائيلية التي منعت خلالها وصول المساعدات الى القطاع المحاصر. وأكدت هاستينغز أيضاً ان "التحذيرات المسبقة للسكان الذين ليس لديهم مكان يتجهون بالإخلاء هي تحذيرات خاوية"، موضحة ان الأمم المتحدة "مصرة" على ان تصل المساعدات الى السكان المحاصرين. 

كما وأكدت المؤسسات الحقوقية الفلسطينية -الحق ومركز الميزان والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان- أنه لا يوجد مكان آمن في غزة وأن "أمر الإخلاء" الذي أصدرته إسرائيل كان يهدف بالفعل إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين/ات قسراً ونقلهم إلى أماكن قريبة من الحدود مع مصر، وهذا ما يعتبر انتهاكاً صارخاً لكل المواثيق والاتفاقيات الدولية وخرقاً واضحاً لكل مضامين القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني.