توالى المشاهد الدامية في غزة فصولاً جديدة من الفتك والدمار، حتى تشمل كافة قطاعات الحياة دون استثناء، فهنالك كارثة وجريمة إبادة بكل ما تحمله الكلمة من معنى يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة ليُحدث بذلك كارثة إنسانية، وبيئية، وصحية، وتعليمية، ومعيشية. ومن دون رادع يستمر العدوان الإسرائيلي على غزة بصورة مهولة وسريعة الدمار وشديدة الفتك، متضمناً أبشع الجرائم والانتهاكات بكافة الأسلحة جواً وبراً وبحراً، وقد كان القطاع البيئي أحد القطاعات الرئيسة المستهدفة، فَقُصفت كل مظاهر الحياة في غزة من بيوت ومنشآت ومعالم وموارد بيئية، فالمشهد البيئي تعرض لحالة من النسف المتعمد من قبل قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي التي عملتعلى تحويل غزة من أكبر سجن جماعي في العالم إلى أكبر مقبرة جماعية في العالم، وتعج بالويلات والامراض والاوبئة والجوع، فَرائحةُالفتكِ والدمار والترويع والتشرد تنبعث من كل حدب وصوب في قطاع غزة.
وفي هذا السياق، وفي بيانٍ مشترك صدر بتاريخ 5/3/2024 بين الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وسلطة جودة البيئة، وأكد البيان إن ثلاثة مواطنين من بين أربعة يشربون مياه ملوثة في المحافظات الشمالية بقطاع غزة الأمر الذي تسبب في انتشار الأمراض المعدية والخطيرة. وأشار البيان الذي جاء بمناسبة اليوم الوطني للبيئة تحت شعار"الحق في الحياة .. الحق في البيئة" إلى أن إجراءات الاحتلال الاسرائيلي أدت إلى انخفاض نسبة استهلاك المياه بنحو 92% في قطاع غزة، في حين تعاني المحافظات الشمالية من انعدام تام من الوصول إلى المياه الآمنة. فالمواطنين بالكاد يستطيعون الوصول الى ما بين 1-3 لتر/فرد/يوم فقط، حيث انخفضت نسبة الإمدادات من مصادر المياه بمقدار90%. كما وان 34% من المساحات الزراعية تضررت خلال شهر يناير الماضي، وقد كان الضرر المباشر والأكبر في دير البلح، إذ طال 56% من المساحات الزراعية فيها، و14% من الأراضي الزراعية في خانيونس، ووفق "الأونروا" فإن ما لا يقل عن 40% من سكان قطاع غزة يعانون من جوع كارثي، وهذا ما أدى إلى اعتبار القطاع من أكثر المناطق مجاعة في العالم.كما أدى منع وصول الوقود اللازم إلى توقف 65 مضخة صرف صحي عن العمل، إضافة إلى توقف جميع محطات وأنظمة معالجة المياه العادمة والبالغ عددها 6 عن العمل، وهذا ما أدى إلى تدفق حوالي 130,000 متر مكعب يومياً من مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى مياه البحر الأبيض المتوسط في قطاع غزة.
وكما وأكد البيان، أن هناك كميات ضخمة من النفايات الصلبة البلدية والنفايات الطبية والخطرة تراكمت في الأزقة والشوارع والساحات العامة ومحيط مراكز الإيواء والمدارس، في ظل عدم قدرة البلديات على إزالتها والتخلص منها نتيجة قصف وتدمير المعدات والشاحنات والجرافات. كما ونتج عن هذا العدوان هدم ما يقارب 79,000 وحدة سكنية، وأكثر من 25,010 مبنى، بينما بلغ عدد الوحدات السكنية المتضررة جزئياً حوالي 290,000 وحدة سكنية، إضافة إلى تضرر 25 مستشفى، و99 مدرسة وجامعة قد دمرت بالكامل، كذلك أدى الى إجبار الأهالي على النزوح من أماكن سكنهم وحرمانهم من الحق بالطعام والشراب والمسكن والعلاج، إذ نزح نحو 2 مليون مواطن داخل القطاع بعيداً عن أماكن سكناهم.
كما ويعتبر وجود العديد من الشهداء والمفقودين تحت الركام في ظل غياب المعدات الثقيلة والمناسبة لانتشالهم تتسبب بكارثة إنسانية واجتماعية وبيئية ممتدة ستستمر لعقود وأجيال قادمة.وفي ظل العدوان المتواصل على قطاع غزة سرع الاحتلال من وتيرة بناء وتوسعة المستعمرات في الضفة الغربية، إضافة الى أنه خلال العام الماضي هدم ودمر ما يزيد عن 1200 مبنى ومنشأة بشكل كلي أو جزئي في الضفة بما فيها القدس.ودعا البيان المشترك، المؤسسات الدولية البيئية والصحية والإنسانية للقيام بواجباتها واتخاذ كافة الإجراءات الطارئة لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية والبدء بعملية تقييم الأضرار البيئية ووضع الخطط اللازمة لمعالجتها ووقف تدهور الواقع البيئي واستنزاف وتلوث المصادر الطبيعية.
وفي ذات السياق، أكدت سلطة جودة البيئة في بيانٍ صدر عنها بتاريخ 30/1/2024 بأن العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة لا يشكل كارثة إنسانية فحسب، بل يدمر جميع مكونات التنوع البيولوجي (الحيوي) من نبات وكائنات حية دقيقة. وأشارت سلطة جودة البيئة، إلى أن مكونات الحياة البرية، من تنوع نباتي وحيواني على اليابسة وفي عرض بحر القطاع، تعرضت لأقوى أشكال التدمير على مر العصور، نتيجة استخدام أنواع من المتفجرات والأسلحة، ما أدى إلى تدمير موائل الحيوانات البرية وقتلها وحرق كل أشكال الحياة النباتية، بما في ذلك الأشجار والشجيرات والأعشاب التي منها ما هو متوطن في ظروف البيئة الساحلية وشبه الساحلية، وهذا الأمر الذي أدى ويؤدي إلى خسارة أنواع بعينها وحتى اختفائها بشكل دائم، الأمر الذي يُعرف بالانقراض.وأضافت سلطة جودة البيئة أن العدوان، من خلال تدمير الحجر والشجر والبنية التحتية، أدى إلى تلويث الماء والهواء والتربة، وحرق الأرض بكل تضاريسها، محولاً المكان إلى جبال تتكون من ملايين الأطنان من النفايات الإنشائية المختلطة بالنفايات الطبية والمنزلية ومياه الصرف الصحي ومياه الأمطار، ليصل جزء كبير منها إلى البحر مروراً بمحمية وادي غزة.وقالت إن محمية وادي غزة، التي اعتمدتها السلطة الوطنية الفلسطينية في أواخر التسعينيات من القرن الماضي نظراً إلى أهميتها من منظور بيئي، تحولت اليوم بفعل الأسلحة المحرمة دوليا إلى مقبرة جماعية لكل أشكال الحياة من بشر ونبات وحيوان، ما أدى إلى تدمير أحد أهم مسارات هجرة الطيور العالمية في فصول مختلفة من السنة، وكانت هذه الملايين تستريح للتزود بالغذاء وأحيانا تتكاثر في أراضي غزة وبين أشجارها وتحديداً في منطقة وادي غزة.وبينت سلطة جودة البيئة أن آلة الحرب الإسرائيلية من دبابات وطائرات، تسببت بإحداث إزعاج وترهيب حتى للحيوانات التي كانت قد دخلت في طور السبات الشتوي، ومنها الأفاعي والعديد من أنواع الزواحف، وأدى هذا الأمر إلى خروج تلك الأنواع من جحورها مذعورة لتلاقي حتفها تحت أنقاض المباني المدمرة، أو لتموت متأثرة بالتلوث الناجم عن هذه الإبادة الجماعية لجميع أشكال الحياة.وتابعت أن الآثار الآنية للعدوان أظهرت تغيراً في سلوك الكثير من الحيوانات البرية الناجية من الموت، إذ شاهدنا بعض الحيوانات تهاجم جثث الشهداء نظرا إلى شدة جوعها وعطشها، وهذا يشكل تحولاً خطيرا في السلوك، كما أن الآثار السلبية قد تطال أشكال التنوع الحيوي ممثلاً في النبات والحيوان والكائنات الدقيقة، وهو الأمر الذي قد يحول مستقبلاً دون قدرتها على التكاثر أو إصابتها بطفرات وتشوهات نتيجة للتلوث بكل أشكاله.
كما ودعا مركز التعليم البيئي/ الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الأردن والأراضي المقدسة في بيانٍ له صدر بتاريخ 2/3/2024 إلى تكريس يوم البيئة الفلسطيني، الذي يصادف الخامس من آذار، للتركيز على قطاع غزة، الذي يتعرض لعدوان واسع النطاق منذ السابع من تشرين الأول الماضي، تسبب في كارثة كبيرة، ووصلت إلى حد "الإبادة البيئية"، وفق توصيف القاعدة (45) من القانون الدولي الإنساني العرفي.وقال المركز في بيان له،إنه وقبل أيام قليلة من إحياء يوم البيئة، فإن الأوضاع الإنسانية والصحية والبيئية في قطاع غزة بشهادات منظمة الأمم المتحدة وأذرعها الإغاثية والصحية والعاملة مع النساء والأطفال والبيئة تشير إلى حال بالغ الصعوبة على الصعد كافة.وأشار إلى أن ما يجري هناك يستدعي تخصيص هذا اليوم للحديث عن الآثار البيئية والصحية الخطيرة المتواصلة في غزة منذ قرابة 5 أشهر، والتي ترتقي إلى حد "الإبادة البيئية"، التي نص عليها القانون الدولي الإنساني العرفي، حول التسبب بأضرار بالغة للبيئة الطبيعية، و"حظر استخدام أساليب أو وسائل للقتال يُقصد بها أو يُتوقع منها أن تُسبب أضراراً بالغة، واسعة الانتشار، وطويلة الأمد بالبيئة الطبيعية".وتطرّق البيان إلى المادة (35) من البروتوكول الإضافي الأول التي تحظر استخدام "أساليب أو وسائل للقتال يُقصد بها، أو قد يُتوقع منها أن تلحق بالبيئة الطبيعية أضرار بالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد".ودعا إلى وضع خطط وطنية ودولية عاجلة لإنقاذ غزة من الإبادة البيئية والكارثة الصحية الإنسانية التي تشهدها، تشارك فيها الأمم المتحدة، والمنظمات الإنسانية، والإغاثية الدولية، والوطنية، وتسعى لاستشراف حلول مستقبلية عملية، تحول دون تفشي المجاعة والأوبئة، وتعالج الآثار الكارثية التي خلفها العدوان المستمر على غزة في كافة الصعد.
وفي السياق ذاته، أستجاب برنامج الأمم المتحدة للبيئة لطلب دولة فلسطين بإجراء تقييم بيئي شامل لآثار الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة من خلال دراسة ميدانية واقعية في القطاع، وهذا ما أكدت على القيام به بأسرع وقت ممكن السيدة إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وفي المحصلة النهائية، تُظهر كافة المعطيات والمؤشرات حجم الكارثة البيئية التي حلت في قطاع غزة، وهذا في ظل انتهاك صريح وواضح لحقوق الانسان وحق المواطن الفلسطيني في العيش في بيئة صحية أو الحق في بيئة مستدامة وصحية، هذا الأمر الذي هو مرتبط بحقوق الإنسان الأخرى التي تضع الحق في الصحة على رأسها، مثل حق الإنسان في المياه والصرف الصحي، والحق في الغذاء، والحق في الصحة اذ ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1948 على الحق في الحياة، ومن ثم يأتي العهد الخاص للحقوق المدنية والسياسية ليؤكد أيضاً على الحق في الحياة والحاجة الى ظروف بيئية تضمن استمرار حياة الانسان على الأرض. وهذا ما تشير اليه أيضاً اتفاقية جنيف الرابعة (1949).