تكاد المسافة تقترب من الصفر؛ بين مجزرة الطنطورة عام 1948 والمقابر الجماعية هناك، وبين ما يجري الآن من عدوان همجي فاشي على قطاع غزة ببشره وشجره ومبانيه في 2023-2024؛ فمهما يَرِدُ من شهادات تبقى نقطة في بحر الإرهاب الحاقد والغطرسة الاحتلالية الهمجية التي ترتكبها دولة الاحتلال في الواقع، فلا يمكن الإحاطة بكل تلك التفاصيل المرعبة والجروح الموجعة في متوالية الدم النازف كل يومٍ وساعةٍ ودقيقةٍ دون انقطاع، التي حفرت ندوبها في أعماق الروح بتباريح الألم، والوجع المقيم من فظاعة وفداحة الإبادة المتوالية بلا هوادة، بعد أن قطعت كل أسباب الحياة عن أبناء شعبنا، أطفالاً ونساءً وشيباً وشباناً.
وفي هذا الصدد، تضمنت الشهادات والدلائل وجود مئات المقابر الجماعية والعشوائية في قطاع غزة، والتي تضم جثامين آلاف الشهداء الفلسطينيين منذ بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي المتواصل منذ 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023. وتابعت المؤسسات الحقوقية عن كثب انتشال مئات جثامين القتلى من مقابر جماعية، بعضها تم اكتشافه في مشافي قطاع غزة المختلفة.
ووثقت العديد من الشهادات استخراج جثامين لبعض المرضى، بدليل وجود قسطرات بولية أو جبائر التي كانت ما تزال متصلة بجثامينهم وقت استخراجها؛ فضلًا عن وجود ملفات طبية خاصة بالجرحى والمرضى، دفنت معهم واستخرجت من حفرتين في مجمع الشفاء الطبي؛ فيما كانت غالبية الجثامين المنتشلة بدأت بالتحلل، وبعضها كان واضح أنه تعرض للنهش من القطط والكلاب، بعدما أعاقت القوات الإسرائيلية طوال الأشهر الماضية انتشالها.
ولعل أولى المقابر الجماعية والعشوائية كانت في مجمع الشفاء الطبي في 15 تشرين أول/ أكتوبر 2023، بعد تعذر نقل الجثامين إلى المقبرة الرسمية في مدينة غزة لوجودها شرق غزة؛ ولاحقًا توالى إنشاء هذه المقابر حتى زاد عددها الإجمالي عن 140 مقبرة، بعضها يضم المئات من الجثامين.
وأشارت الشهادات إلى أنه من ضمن المقابر الجماعية التي وثقها في شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر الماضيين؛ المقبرة العشوائية الأولى في حي الدرج وسط مدينة غزة، والتي حُفرت على أرض لعائلة "المصري" في شارع "الصحابة" في مدينة غزة، ومساحتها نحو 500 متر، ويُقدر عدد الجثامين المدفونة فيها بـ150 جثمانًا على الأقل. وكذلك المقبرة العشوائية الثانية في حي "الدرج"، حفرت على أرض بشارع الاستقلال (القوس) قرب مفترق "الشعبية"، وتبلغ مساحتها نحو ألفي متر، ويقدر عدد الجثث المدفونة فيها بأكثر من 200 جثة.
ولعل غالبية الجثامين المنتشلة حديثًا كانت إما في الشوارع أو في بنايات بسيطة مكونة من طابق واحد؛ في حين أن هناك صعوبات كبيرة في انتشال جثامين الشهداء من أسفل المباني متعددة الطوابق. إذ توجد آلاف المنازل المدمرة في بنايات متعددة الطوابق كانت تؤوي عشرات السكان، تحولت هي الأخرى لمقابر جماعية لسكانها لاستمرار تعذر انتشالهم إما لعدم توفر إمكانيات فنية لإزالة الركام، أو لوجود هذه البنايات في مناطق تشهد عمليات للجيش الإسرائيلي.
وفي ذات السياق، أفادت طواقم الإسعاف والإنقاذ التي شاركت في انتشال جثامين الشهداء من المقابر الجماعية المكتشفة في مجمع ناصر الطبي في خان يونس جنوب قطاع غزة، بوجود شبهات بتعرض بعض الضحايا لسرقة أعضاء. وجرى انتشال 392 جثمانًا على الأقل من ثلاث مقابر جماعية تم اكتشافها في مجمع ناصر الطبي، بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من مدينة خان يونس. ومن بين الجثامين 165 لم يتم التعرف عليهم بسبب تغيير الاحتلال مظاهر العلامات الخاصة للتعرف على الجثث وتشويهها. وأظهرت مقاطع فيديو وصور تم توثيقها، بعض جثث ضحايا المقابر الجماعية، حيث بدت عليهم علامات التعذيب والتكبيل بقيود بلاستيكية.
وأكدت الطواقم وجود "بعض الجثث مربوطة الأيدي، والبطن مفتوح ومخيط بطريقة تخالف الطرق الاعتيادية لخياطة الجروح في قطاع غزة؛ ما يثير شبهات حول سرقة بعض الأعضاء البشرية". وأضافت: "تم أيضًا رصد جثة لأحد المواطنين يرتدي ملابس عمليات؛ ما يثير الشكوك حول دفنه حيًا". وأشارت في الصدد ذاته إلى "رصد جثة لطفلة مبتورة اليد والأرجل مرتدية ملابس غرفة العمليات؛ ما يثير شكوك حول دفنها وهي على قيد الحياة". ورصدت الطواقم تكبيل أيدي بعض الشهداء بمرابط بلاستيكية، وارتدائها رداء أبيض مما يستخدمه الاحتلال كملابس للمعتقلين في مجمع ناصر الطبي، وتوجد علامات إصابة بطلق ناري بالرأس؛ ما يثير الشكوك على إعدامهم وتصفيتهم ميدانيًا.
كما رصدت العديد من الجثث تم تغيير أكفانها ووضعها في أكفان جديدة لونها أسود وأزرق، وهي عبارة عن أكياس نايلون بلاستيكية تخالف الألوان المستخدمة في غزة؛ ما يثير الشكوك حول أن هدف الاحتلال من ذلك كان رفع حرارة الجثث من أجل تسريع عملية تحللها وإخفاء الأدلة. وتمت ملاحظة عمليات دفن لأعماق تزيد عن 3 أمتار، إضافة إلى تكدس الجثث فوق بعضها البعض.
واعتبرت الطواقم أن كل الأدلة السابقة تشير إلى أن الاحتلال ارتكب جرائم ضد الإنسانية وقام بالإعدامات الميدانية في حرم مجمع ناصر الطبي، في إطار حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على شعبنا في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وبالإضافة إلى مقابر مجمع ناصر الطبي الجماعية، سبق أن عثر على عشرات الجثامين في مقابر جماعية اكتشفت بعد انسحاب قوات الاحتلال من مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة ومستشفى الشهيد كمال عدوان شمال القطاع.
ولعل مسألة وجود المقابر الجماعية يعد دليلًا قاطعًا آخر على ارتكاب جرائم إبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة وانتهاك حقوقهم، بما في ذلك حقهم في الحياة، وفي عدم التعرض إلى الاخفاء القسري، وفي المعاملة الإنسانية، إلى جانب ما يخص الحقوق الأخيرة للأشخاص المتوفين والمرتبطة بالتعرف الفردي عليهم، ومعاملة رفاتهم معاملة كريمة، وكفالة حقهم وحق ذويهم في دفنهم باحترام وبشكل لائق، وطبقًا لشعائر دينهم، ودفنهم بمقابر فردية، واحترام هذه المقابر، وتمييزها بطريقة تمكن من الاستدلال عليها دائمًا.
وفي هذا السياق، طالبت الجمعيات الحقوقية المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للكشف عن جميع المقابر الجماعية التي حفرها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وتحديد مواقعها، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لمنع قوات الجيش الإسرائيلي من نبشها أو تدنيسها أو تدميرها، أو نهب الجثامين منها، أو تشويهها، أو معاملتها معاملة مهينة، أو معاملة حاطة بكرامة هؤلاء الضحايا بعد قتلهم أو موتهم. وضرورة الكشف عن مصير آلاف المفقودين من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة ممن تحتجزهم قوات الجيش الإسرائيلي، بمن فيهم من ارتكبت بحقهم جرائم الاخفاء القسري والقتل والإعدام غير القانونية في السجون ومراكز الاعتقال الإسرائيلية.
ودعت فرنسا إلى إجراء تحقيق مستقل في المقابر الجماعية المكتشفة عقب انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من مناطق في قطاع غزة. وقالت وزارة الخارجية الفرنسية في بيانٍ لها صدر بتاريخ 25/4/2024: "إن المعلومات التي تشير إلى اكتشاف أكثر من مئتي جثة في مقابر جماعية قرب مستشفيي ناصر والشفاء في قطاع غزّة تُثير قلقًا كبيرًا للغاية. وتدعو فرنسا إلى كشف جميع الملابسات في إطار تحقيق مستقل". وأضافت: "تدعو فرنسا نظرًا إلى حالة الطوارئ المطلقة في قطاع غزّة، حيث أمست حالة المدنيين منذ وقت طويل غير مقبولة، إلى وقف إطلاق نار فوري ومستدام الذي يمثل الحل الوحيد لحماية المدنيين ودخول المساعدات الإنسانية بكميات كبيرة عبر جميع المعابر المؤدية إلى القطاع".
وفي السياق ذاته، قال متحدث المفوضية الأوروبية بيتر ستانو، في تصريح صحفي صدر عنه بتاريخ 24/4/2024: إن الأنباء عن وجود مقابر جماعية في غزة "مثيرة للقلق". وأضاف": "إن الأنباء المعنية تعطي انطباعًا بأن حقوق الإنسان ربما تكون قد انتهكت"، داعيا إلى إجراء تحقيق شامل ومستقل. وجدد ستانو دعوة الاتحاد الأوروبي إلى وقف فوري لإطلاق النار "لوقف القمع والهجمات في غزة".
كما وأكد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان "فولكر تورك" في تصريح له بتاريخ 23/4/2024 بانه يشعر بالذعر من تدمير مستشفيي ناصر والشفاء في قطاع غزة، كذلك التقارير التي تتحدث عن وجود مقابر جماعية هناك. وندد تورك، في كلمة أمام الأمم المتحدة ألقاها متحدث بالنيابة عنه، بالضربات الإسرائيلية على غزة في الأيام القليلة الماضية والتي قال إن معظم ضحاياها من النساء والأطفال. وجدد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان تحذيره من التوغل الإسرائيلي في مدينة رفح، قائلًا: إنه قد يؤدي إلى المزيد من الجرائم البشعة.
بدورها أكدت منظمة العفو الدولية على لسان إريكا جيفارا روساس (كبيرة مدراء البحوث وأنشطة كسب التأييد والسياسات والحملات في المنظمة)، تعقيبًا على اكتشاف مقابر جماعية تضم مئات الجثث في مستشفيَيْن في غزة: " إنَّ الاكتشاف المروّع لهذه المقابر الجماعية يؤكد الحاجة الملحة لضمان الوصول الفوري لمحققي حقوق الإنسان، بمن فيهم خبراء الطب الشرعي، إلى قطاع غزّة المحتل لضمان الحفاظ على الأدلة، وإجراء تحقيقات مستقلة وشفافة بهدف ضمان المساءلة عن أي انتهاكات للقانون الدولي.
"إنَّ عدم تمكن محققي حقوق الإنسان من الوصول إلى غزّة قد أعاق إجراء تحقيقات فعَّالة تغطي النطاق الكامل لانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم بموجب القانون الدولي التي ارتكبت على مدى الأشهر الستة الماضية؛ ما سمح بتوثيق جزء ضئيل فقط من هذه الانتهاكات. "وبدون إجراء تحقيقات مناسبة لتحديد كيفية حدوث هذه الوفيات أو الانتهاكات التي ربما تكون قد ارتكبت، فقد لا نكتشف أبدًا حقيقة الفظائع الكامنة وراء هذه المقابر الجماعية"".
"تعدّ مواقع المقابر الجماعية مسارح جرائم محتملة تقدم أدلة جنائية هامة وحساسة للوقت. ويجب حمايتها إلى أن يتمكن خبراء الطب الشرعي المتخصصون الذين يتمتعون بالمهارات والموارد اللازمة من إجراء عمليات استخراج الجثث بشكل آمن ومناسب وتحديد الرفات والتعرف عليه بدقة.
“إنَّ غياب خبراء الطب الشرعي وتدمير القطاع الطّبي في غزّة نتيجة للحرب والحصار الإسرائيلي القاسي، إلى جانب عدم توفر الموارد اللازمة للتعرف على الجثث مثل اختبار الحمض النووي، تُشكل عقبات هائلة أمام التعرف على الرفات. وهذا يحرم من قُتِلوا من الدفن اللائق، ويحرم العائلات التي لديها أقارب مفقودون أو مختفون قسرًا من الحق في المعرفة والعدالة؛ ما يتركهم في حالة من عدم اليقين والمعاناة.
“إنَّ ضمان الحفاظ على الأدلة هو من بين التدابير الرئيسية التي أمرت محكمة العدل الدولية السلطات الإسرائيلية باتخاذها من أجل منع الإبادة الجماعية".
واختتمت إريكا جيفارا روساس حديثها بالقول: “في خضم الغياب التام للمساءلة، والأدلة المتزايدة على جرائم الحرب في غزّة، يجب على السلطات الإسرائيلية ضمان امتثالها لقرار محكمة العدل الدولية من خلال السماح بالوصول الفوري لمحققين مستقلين في مجال حقوق الإنسان، وضمان الحفاظ على جميع الأدلة على الانتهاكات. ويجب على دول ثالثة الضغط على إسرائيل للامتثال لأوامر محكمة العدل الدولية من خلال السماح بالدخول الفوري لمحققي حقوق الإنسان المستقلين وخبراء الطب الشرعي إلى قطاع غزّة، بما في ذلك لجنة التحقيق المعينة من قبل الأمم المتحدة ومحققي المحكمة الجنائية الدولية. ولا يمكن معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة بدون إجراء تحقيقات مستقلة ومناسبة وشفافة في هذه الوفيات".