لا تتوقف الجرائم والمجازر الإسرائيلية بحق أبناء شعبنا الفلسطيني حتى تستأنف من جديد، على نحو أكثر ترويعاً، وأشد تقتيلاً، باستهداف الأطفال والنساء والشيوخ، فما أن يتوقف القصف الوحشي للاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة؛ حتى يتجدد بشكل متسارع بصورة أشد فتكاً وإرهاباً، وهذا في ظل وجود حالة إرهاب دولة منظم، لا تؤمن سوى بعقيدة القتل، والحرق، والإبادة الجماعية؛ التي طالما جاهر بها من يتولون الحكم في إسرائيل، فهذا العدوان هو واحد من سلسلة طويلة من فصول الفتك والقتل والترويع بحق الفلسطينيين االعزل القابضين على جمر وثرى وطنهم مهما عصفت بهم الأزمان، فما يُحدث في غزة هو ترجمة فعلية للهمجية الاحتلالية القائمة منذ النكبة عام 1948 وحتى يومنا هذا، وجزء لا يتجزأ من العدوان المتواصل على المدن، والبلدات، والقرى، والمخيمات، في الضفة الغربية، والقدس المحتلة وفي الشتات.
فإسرائيل تريد تكريس صورة أن قتل الحجر والبشر واستباحة قطاع غزة بشكل دوري واجتثاث كل ما يُمكن اجتثاثه هو أمر طبيعي وليس مستهجن، وهذا في ظل حالة إمعان واضح بتكثيف البطش تجاه كل ما هو فلسطيني، في ظل وجود بنك أهداف إسرائيلي قائم على قصف الأبراج والعمارات السكنية، والمشافي، والمدارس، والمساجد، والأسواق، واستهداف الأطفال الآمنين العُزل، فهذا هو بنك أهدافهم وهذه هي لغتهم، وما يُحدث في غزة من فتك وتدمير ومجازر هو حقيقة ماثلة لمن يريد أن يرى، فاليوم يتم إعادة إنتاج النكبة من جديد على نحو شديد الإرهاب والفظاعة وكأن هيروشيما قد بُعثت مرة أخرى لكن هذه المرة كانت في قطاع غزة.
وفي خضم البطش الإسرائيلي حيال البشر والحجر في غزة، يطالب أعضاء حكومة الاحتلال الإسرائيلي بشكل علني وصارخ بارتكاب المزيد من جرائم الحرب في غزة، فقطعوا الماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود، ومنعوا كلياً إدخال أية مساعدات إنسانية إلى غزة، في رسالها مفادها الرغبة والإصرار على إحداث إبادة جماعية للسكان هناك وقتل أكبر عدد منهم، وهذا في خرق واضح وصارخ لاتفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" المُتفق عليها عام 1948، وتُشير الاتفاقية: "بأن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن، وتصادق الأطراف المتعاقدة على أن الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها".
كما وتم استخدام الفوسفور الأبيض ضد سكان القطاع، وإلقاءه على شكل قنابل، وما هو جدير بالذكر بأن اتفاقية جنيف تُحرّم استخدام الفوسفور الأبيض ضد السكان المدنيين أو حتى ضد الأعداء في المناطق التي يقطن فيها مدنيون، وتعتبر استخدامه جريمة حرب، وتعرّف الاتفاقية الأسلحة الحارقة بأنها كل سلاح أو ذخيرة تُشعل النار في الأشياء أو تحدث لهباً أو انبعاثاً حرارياً يسببان حروقاً للأشخاص، وهذا ما حرمه القانون الدولي بشكل قاطع. وبشكل فظ وعلني تضرب إسرائيل بكل القرارات الدولية بعرض الحائط، وتخرق القانون الدولي دون أن يرف لها رمش، وتنتهك القرارات والمواثيق الدولية والأممية بكل عنجهية وغطرسة وفجاجة، ومن هذا المنطلق يصدح الكل الفلسطيني دائماً وأبداً بضرورة تحميل إسرائيل كامل المسؤولية عما ترتكبه من جرائم وفظائع، مطالبين المجتمع الدولي بتوحيد المعايير، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها المروعة وانتهاكاتها المستمرة ضد أبناء شعبنا، وعدم السماح لهم بالإفلات من العقاب، فإسرائيل تنتهج نهج العقوبات الجماعية تجاه الفلسطينيين ولا سيما الإبادة التي ترتكبها في غزة وهذا ما يعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق الانسان، ولاتفاقية جنيف الرابعة ولمضامين القانون الدولي الإنساني برُمته.
وفي سياق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2023 المنافِ كلياً للقانون الدولي والاعراف والمواثيق الدولية والإنسانية، أعلنت إسرائيل قطع الإمدادات الأساسية من كهرباء وماء ووقود ومواد غذائية عن غزة، وأعلن وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي يوآف غالانت الإجراءات العقابية قائلاً: "لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق"، مضيفاً بكل همجية ممكنة: "نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك". وأمر وزير البنية التحتية الإسرائيلي بالقطع الفوري لإمدادات المياه عن قطاع غزة الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 2.2 مليون نسمة.
وردت الأمم المتحدة على القرار الإسرائيلي مؤكدة أن الحصار الكامل "محظور" بموجب القانون الدولي الإنساني، ويرقى العقاب الجماعي للسكان المدنيين، إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي".
وقال مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان "فولكر تورك" في بيان: "إن فرض حصار يعرّض حياة المدنيين للخطر من خلال حرمانهم من السلع الأساسية للبقاء على قيد الحياة محظور بموجب القانون الدولي الإنساني". وأكد بأن القانون الإنساني الدولي واضح بهذا الشأن حيث تشير النصوص إلى: "وجوب الالتزام بالعناية المستمرة لتجنب إيقاع خسائر في أرواح السكان المدنيين".
كما وانتقدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تصريحات وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي حول فرض الحصار على غزة، واصفةً إياها بأنها "مروعة مقززة" وقالت إنها تمثل "دعوة لارتكاب جرائم حرب".
وقالت المنظمة: "بأن حرمان السكان في أراضٍ محتلة من الغذاء والكهرباء يشكل عقاباً جماعياً وهو جريمة حرب، مثله مثل استخدام التجويع سلاحاً". وأضافت: "على المحكمة الجنائية الدولية أخذ العلم بهذه الدعوة إلى ارتكاب جريمة حرب".
وبحسب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن المدنيين الصادرة في العام 1949، تحت بند "المسؤولية الفردية والعقوبات الجماعية والنهب والانتقام"، "لا يجوز معاقبة أي شخص محمي على جريمة لم يرتكبها هو شخصياً. وتحظر العقوبات الجماعية، وكذلك جميع تدابير الترهيب والإرهاب. وتُحظر الأعمال الانتقامية ضد الأشخاص المحميين وممتلكاتهم". وقالت الأمم المتحدة إن نحو نصف مليون شخص في غزة نزحوا داخلياً منذ بداية الهجوم الإسرائيلي، معظمهم "بسبب الخوف ومخاوف الحماية وتدمير منازلهم".
وفي هذا السياق تقول الأونروا: "بأن غزة تشهد كارثة إنسانية غير مسبوقة، فَلم يُسمح بدخول قطرة ماء واحدة، ولا حبة قمح واحدة، ولا لتر من الوقود إلى قطاع غزة خلال الأيام الماضية" فيما قالت منظمة الصحة العالمية: " بأن غزة تشهد كارثة صحية، فهناك إبادة لأسر بكامل أفرادها، كما وتضطر طواقم الاسعاف في غزة لأخذ قرارات رهيبة بشأن من يساعدوه ومن يتركوه وراءهم".
كما ويشير المقررين الخاصين لمجلس حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية بأن اسرائيل تنتهج نهج العقوبات الجماعية تجاه الفلسطينيين وهذا ما يعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق الانسان، كما ويتم التأكيد على ضرورة المساءلة لإسرائيل لأن الإفلات من العقاب سيجعلها تتغطرس أكثر فأكثر، وهذا ما يقابله التزام فلسطيني كلي بمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وعدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، كما وتؤكد اتفاقية جنيف الرابعة 1949 على حماية المدنيين في الدول الواقع عليها الاحتلال، وضمان عدم إحداث أية تغيير عليهم من قبل سلطات الاحتلال.
كما يؤكد المقررين الخاصين لمجلس حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية بأن إسرائيل تسير وفق مسالك دولة الفصل العنصري، وهذا محظور في القانون الدولي لحقوق الانسان، ووفق قرارات الأمم المتحدة، ووفق اتفاقية جنيف الرابعة، فإسرائيل تمارس الحرمان من الحق في الحرية والحياة تجاه الفلسطينيين، وتُمأسس لسطوة مجموعة عرقية على أخرى، وتقود عملية احلال واحباط ديمغرافي، وتساهم في الحرمان من المشاركة الكاملة في جميع مميزات المجتمع، وتنفذ اعتقالات دورية، وتقصف المنازل على رؤوس ساكنيها، فهو نظام احتلال وإحلال يسير نحو نظام الفصل العنصري.
وفي السياق ذاته تخالف إسرائيل بشكل مُريب اتفاقية جنيف الرابعة حول مسألة استهداف الطواقم الطبية، وقصف المشافي على رؤوس المرضى والمدنيين كما حدث عندما قصفت المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" في حي الزيتون بمدينة غزة، حيث تُشير الاتفاقية في المــادة (16) إلى ما يلي: "يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين. وبقدر ما تسمح به المقتضيات العسكرية، يسهل كل طرف من أطراف النزاع الإجراءات التي تتخذ للبحث عن القتلى أو الجرحى، ولمعاونة الغرقى وغيرهم من الأشخاص المعرضين لخطر كبير ولحمايتهم من السلب وسوء المعاملة". وتُشير المــادة (17) إلى ما يلي: "يعمل أطراف النزاع على إقرار ترتيبات محلية لنقل الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال والنساء النفاس من المناطق المحاصرة أو المطوقة، ولمرور رجال جميع الأديان، وأفراد الخدمات الطبية والمهمات الطبية إلى هذه المناطق. وتُشير المــادة (18) إلى ما يلي: "لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات".
وفي الخلاصة يظهر بأن المسافة تكاد تقترب إلى الصفر؛ بين ما حدث في الطنطورة، ودير ياسين، من مجازر عام 1948، وبين ما يجري من جرائم إبادة جماعية، في بيت حانون، وبيت لاهيا ، وغزة، ودير البلح، وخانيونس، ورفح، وفي جميع المدن، والقرى، والمخيمات، والبلدات؛ الممددة تحت قصف الطائرات، وقذائف الدبابات، وما تتعرض له جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلة وطوباس وأريحا وسلفيت والقدس وبيت لحم والخليل من جرائم. فأحفاد هؤلاء المجرمين الإرهابيين القتلة يعيدون اليوم إنتاج ما ارتكبه أجدادهم من العصابات الصهيونية، التي يفاخر هؤلاء المجرمون بما ارتكبوه من فظائع بحق أبناء شعبنا الذين قتلوا، وهجروا من مدنهم، وقراهم، وبلداتهم، عام 1948، دون أدنى التفات للقانون الدولي ومضامينه، ودون أدنى التزام أخلاقي أو إنساني.