تمثل المباني التاريخية في فلسطين بكل تفاصيلها تاريخاً متصلاً من الحلقات التي تربط الماضي بالحاضر؛ فتعكس عراقة الشعب الفلسطيني وأصالته وتجذره في أرضه، وتعطي صورة دقيقة عن ملامح الحضارات المتعاقبة التي حكمت المنطقة، هذا الإرث التاريخي للشعب الفلسطيني مهدد بالدمار وذلك نتيجة لسياسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي المتمثلة بمصادرة هذه المباني أو هدمها أو تهويدها.
حيث تسعى سلطات الاحتلال الإسرائيلي جاهدة إلى نهب خيرات الشعب الفلسطيني وطمس أو تدمير أو مصادرة موروثه الثقافي، وكل ما يشير إلى حقه في أرضه ومقدساته؛ في محاولة منها لتزوير الحقائق التاريخية.
ونتيجة لهذه السياسات الإسرائيلية وقعت العمارة الفلسطينية بما تحويه من مبانٍ تاريخية، كأحد مكونات الثقافة الفلسطينية، في مرمى استهداف سلطات الاحتلال؛ التي عملت على:
أولا- مصادرة الكثير من المباني التاريخية الفلسطينية، سواء كانت سكنية أو دينية أو معالم أثرية، بإصدار سلسلة من الأوامر العسكرية المدعومة بقوة الجيش والشرطة الإسرائيلية.
ثانيا- إلصاق روايات توراتية مختلقة بهذه المباني؛ لاتخاذها ذريعة تؤدي إلى سيطرتها عليها.
ثالثا- اللجوء إلى سياسة السرقة والتزوير.
رابعا- هدم العديد من المباني التاريخية، باستخدام القنابل والصواريخ والجرافات، لا سيما خلال انتفاضة الأقصى؛ عندما شنت سلسة من الاجتياحات على مختلف المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وظهر ذلك بكل وضوح في اجتياحات البلدات القديمة لمدن نابلس والخليل وحصار كنيسة المهد في بيت لحم عندما دمرت مئات المنازل والقصور التاريخية وبيوت العبادة الاسلامية والمسيحية التي تحمل بين طياتها ملامح العمارة الفلسطينية وأصالتها.
خامسا- سرقة مكونات العمارة الفلسطينية؛ حيث تعمل اسرائيل بالخفاء على نهب مكوناتها، بالسطو على حجارة المباني التاريخية، بما تحمله من مظاهر جمالية لتشييد مبان بطراز قديم للإيهام بتمثيلها رمزًا توراتيا، كما حدث عندما سرقت حجارة خربة عزبة "دير سمعان" لتبنى داخل مستوطنة "عالي زهاف" في محافظة سلفيت.
وانسجامًا مع ما تقدم، ما زالت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تضع في أسلم أولوياتها استهداف المباني التاريخية الفلسطينية؛ فمنذ العام 1967 ومع بداية احتلال مدينة القدس، دمر جيشها حارة باب المغاربة، وسيطر على حائط البراق، ثم أطلق العديد من الخطط التهويدية التي تستهدف البلدة القديمة بكل تفاصيلها، وعلى وجه الخصوص المسجد الأقصى المبارك؛ فكانت وما زالت تحفر الأنفاق التي تهدد المسجد الأقصى والبيوت والأسوق والأسوار بالانهيار؛ بل أن بعضها انهار بالفعل، وبدأت الشقوق تظهر في كل مكان؛ وهي أيضا لا تكف عن محاولاتها تهويد منطقة باب العمود والقصور الأموية، وتحويلها إلى ما يسمى "مطاهر الهيكل" المزعوم؛ بالإضافة إلى بناء مزيد من المعالم اليهودية الدينية في البلدة القديمة للقدس، مثل: كنيس الخراب الذي يمثل حاليًا الرمز اليهودي الأكبر في بلدة القدس القديمة؛ والاستمرار في تزوير المباني من خلال تطعيمها بالرموز اليهودية بحجة صيانتها وإعادة ترميمها؛ إذ أزالت حجراً من أحجار السور القديم، واستبدلته بحجر مرسوم ومنحوت عليه مجسم للهيكل المزعوم، في مقطع يقع إلى اليسار من باب الساهرة (أحد أبواب البلدة القديمة)؛ كما قامت بتغيير عدة أحجار في الجهة الداخلية لباب الساهرة، ووضع حجارة يحمل بعضها رسم "النجمة السداسية" التي ترمز إلى اليهودية والصهيونية.
ولم يكتف اليهود بذلك بل أزالوا حجرًا تاريخيًا من فوق القوس الداخلي لباب الساهرة، وغيروا حجارة أخرى في منطقة الباب الجديد (أحد أبواب البلدة القديمة بالقدس)، واستبدلوها بحجر يحمل "النجمة السداسية" في مقطع يقع يسار الباب.
ما زالت تنفذ سلطات الاحتلال المزيد من الخطط التي تستهدف القدس والمسجد الأقصى، كما حدث عندما أغلقت سلطات الاحتلال بوابات المسجد الأقصى، ونصبت كاميرات المراقبة والبوابات الإلكترونية تهيئة لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا؛ وكذلك عندما أطلقت أسماء جديدة على شوارع وأسواق وحارات القدس العتيقة.
لم تكن مدينة القدس وبلدتها القديمة وحدها في دائرة استهداف سلطات الاحتلال؛ فمدينة الخليل وبلدتها القديمة كانت وما زالت أيضًا رهينة لعمليات التهويد، التي بدأت بالاستيطان في قلب بلدتها القديمة مرورًا بتقسيم الحرم الإبراهيمي الشريف زمنانيًا ومكانيًا، ومنع العديد من المواطنين من ترميم منازلهم ومحلاتهم التجارية في البلدة القديمة، وإطلاق العنان للمستوطنين لاحتلال منازل المواطنين والسكن فيها عنوة؛ وصولًا إلى نية سلطات الاحتلال هدم مباني الحسبة لصالح مشروعها الاستيطاني التهويدي في قلب مدينة الخليل.
لم تقتصر العملية على مدن القدس والخليل بل طالت أيضًا نابلس وبيت لحم والعديد من المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، عبر بسط سيطرتها على مجموعة من المباني والمقامات الدينية والأثرية، متذرعة بارتباطها بالمعتقدات اليهودية، مثل: قبر يوسف في قلب مدينة نابلس، ومسجد بلال في بيت لحم ومقامات بلدتي كفل حارس وعورتا والتي تعمل على تغيير معالمها وتطعيمها برموز دينية تورارتية لتوهم العالم بوجود ارتباط لها بهذه المواقع الفلسطينية العربية الإسلامية.