غسان كنفاني

كان الشهيد (غسان كنفاني) وما زال يُثير دهشة قراءه ومتابعي فنه النثري والفكري والتشكيلي، ومناقبه الشخصية والنضالية، والذي يُمثل استشهاده مع ابنة أخته لميس في بيروت يوم السابع من تموز عام 1972، ذروة هذه الدهشة وإنتاجه الأدبي والسياسي والفني التشكيلي يُشكل محطة مناسبة للغوص في مساحة التذكر، والعبور العاجل في محطات فنية ما زالت مجهولة للكثيرين من حياته غسان كنفاني المولود في مدينة عكا الفلسطينية في يوم التاسع من نيسان عام 1936.

فتح عيونه على جماليات الوطن الفلسطيني طفلاً ويافعاً، وبقيت تلك المشاهد والذكريات مسكونة في جوانحه، مخزونة في مساحات الوعي الداخلي، ومتوارية في خلجات اللحظة الفلسطينية الهاربة عبر يوميات اللجوء القهري، خارج أسوار الوطن وتربته الحنونة، إلى أماكن المنافي القريبة والبعيدة عن فلسطين، عقب هزيمة العرب الكبرى في حرب 1948، لينتقل مع عائلته الصغيرة إلى جنوب لبنان، ومن ثم الإقامة في مدينة دمشق. هو مجموعة رجال مجتمعة في رجل واحد في الثقافة والسياسة، ودورة الحياة الاجتماعية والنضالية وعلى مسافة واحدة من وطنه العربي الكبير، وطن أسمه الحركي دائم التوهج فلسطين فوق تربته وعلى أسوار حصونه وقلاعه وبحره، تفتحت عيناه سابرة أغوار شاطئ مدينة عكا التي لم ولن تخاف البحر أبد الدهر، ولم تأبه لمفاسد نابليون وموبقاته العدوانية وهزمته شر هزيمة.

شكل الفن بالنسبة للشهيد "غسان كنفاني" في عفويته وحدود موهبته المجال الحيوي لمسالك رزقه عبر اشتغاله المهني، كمعلم لمادة التربية الفنية الرسم والأشغال الفنية في مدرسة "معهد فلسطين" في حي الأمين بمدينة دمشق القديمة والتابعة لوكالة الإغاثة الدولية "الأونروا"، ولم يتجاوز حينها السابعة عشر من عمره، تُعد هذه المرحلة المبكرة في حياته، الوعاء الفكري لنمو شخصيته ومدركاته الفكرية والسياسية والنضالية.

توقظ فيه مساحات التأمل والمخيلة والمعرفة في كشف النقاط الخفية من حياة تلاميذه من سكنى مخيمات اللجوء عقب نكبة فلسطين عام 1948، مؤلفة منه ومنهم" توليفة إنسانية متجانسة، وأرضية مناسبة لتفجر مناطق وعيه الداخلي، واندماجه التام في معاناة شعبه ومواطنيه الأطفال القاطنين في مخيمات البؤس والتشرد الذين شكلوا المادة الحية والمباشرة لابتكاراته من خلال تلمسه يوميات حزنهم المرتسمة في الوجوه ومعابر السلوك.

لقد شكل أحد دروسه في مادة الرسم لطلاب المرحلة الابتدائية، حول رسم صحن الفواكه في مسيرة حياته، ووجوده كإنسان فلسطيني مشرد الفيصل القاطع لاختيار دروب حياته الطبيعية في ميادين النضال السياسي والكفاحي المُباشر عبر تنويعات الكلمة المكتوبة مقالة" سياسية، قصة قصيرة، رواية مسرحية دراسات أدبية نقدية ولوحات فنية تشكيلية منتمية لوجوده وحكاية شعبه، أمدته مُخيلته ورسومه المقدرة على رسم معالم شخوصه المعايشة والموصوفة في حدود الرسم بالكلمات.

قصة صحن الفواكه الذي رسمه فوق سبورة أحد صفوفه وضعته وطلابه في مواجهة مكشوفة مع حدة الألم وبؤس الواقع الفلسطيني المعايش لقطعان المشردين من الأطفال، وعدم قدرتهم ومعرفتهم بمسميات الفواكه المرسومة دفعت غسان" "كنفاني بلا أدنى تفكير إلى محي الرسم داعياً تلاميذه أن يرسموا شيئاً يألفونه ويعرفونه ألا وهو "المخيم"، عمله كمعلم فنون مكنه من السفر إلى الكويت عام 1956 والعمل مجدداً كمعلم للتربية الفنية والرياضية في مدارسها الرسمية والتشكل هذه المرحلة سفر البداية لنشر كتاباته الأدبية في الصحافة الكويتية تحت أسماء مستعارة مثل "فارس فارس".

عاد إلى بيروت عام 1960 للعمل كمحرر أدبي لجريدة "الحرية الأسبوعية"، وكتب في جريدة " الأنوار" ومجلة "الحوادث"، ثم أصبح رئيساً لتحرير جريدة "المحرر" اللبنانية حتى عام 1969. وبعدها أسس مجلة "الهدف" الأسبوعية وبقي رئيساً لتحريرها حتى لحظة استشهاده كان متحصناً بحدود هوايته ومجال مهنته كمعلم، رافقته في جميع معابر ابتكاره الأدبي والفكري والسياسي، يجد في ممارستها نوعاً من الحنين والذكريات، وفرصة لتفريغ شحناته الإنسانية المضافة كتعبير حسي مقابل لرموزه وشخصياته التي استحضرها في قصصه القصيرة ورواياته وشخوص مسرحياته.

احتلت "أم سعد حيزاً مميزاً من رسومه ولوحاته راسماً إياها في مواقف تصويرية وتعبيرية متعددة بألوانه الزيتية الحافلة بنشيد البكاء والأمل في أن معاً، تجد فرشاته وسكينه متعة في تفريغ ملامح القسوة المنتشرة فوق تضاريس الوجوه المعانقة لطبقات لونية متراكمة، تفوح منها على الدوام ملونات الأزرق الذي يميل للخضرة مع الأبيض، وجوه امرأة تشي بالمعاناة وحمل هموم السنين تلبس وطناً فلسطينياً بأسره. امرأة من نساء المخيم تتدثر بالغطاء " النقاب" الأبيض، متدل على الكتفين ومغطياً الصدر بأناقة تعبيرية حافلة بأنفاس الاتجاهات الواقعية والانطباعية والرمزية بالفن.

وتأخذ منه قصة السيد المسيح الفلسطيني "الناصري مساحة رمزية متسعة ومفتوحة على المساءلة والتأمل من خلال لوحته الزيتية رجل مصلوب بالوقت وأنه متبصر ومتوقع لمآل مصيره واكتشاف قدره المرسوم شأنه في ذلك كضحية مصلوبة كالسيد المسيح، باختلاف الأدوات والأزمنة والأوقات.

نجد في لوحته "جبال وذاكرة شيئاً من فلسطين في عناق بحرها وجبالها وغناء أشجارها واستدعاء ما تبقى من موطنه مدينة "عكا" المعانقة للبحر السهل والجبل مرسومة بالسكين وبملونات الأزرق المخضر في متواليات متدرجة وبقع ضوئية هنا وهناك، تفسح عن مخيلة جامحة وبقايا ملامح وأشكال منكسرة في قيم لونية "انطباعية" المؤثرات.

بينما تشكل لوحته "فلسطين" مدى فهمه المعاصر للقضية في سياقاتها الوجودية من كونها قضية وطنية قومية عربية ودولية بامتياز، تجمع في طياتها ثراء التراث وغنى الذاكرة البصرية الفلسطينية لمنتجات الأجداد عبر توليفات الزخارف والمطرزات الفلسطينية التي تجمل أثواب النساء الفلسطينيات والرجال والأطفال من كافة الأعمار، وما تحتله الرموز الشكلية خريطة "فلسطين" والدينية من رمزية دلالية ومساحة مفتوحة على التجريد، وعلى تناغم الخطوط والتقاسيم الشكلية من استنهاض للضمير العالمي، ونبش لواحة التاريخ وتوثيق صادق لمفاصل المقاومة ومكانة الفن والإنسان في حروب الوجود.

لوحات الشهيد "غسان كنفاني" لا تفارق" مساحة تفكيره وكتاباته مندمجة في كافة معابره الإبداعية، ولا تقل أهمية عن نصوصه المسرودة والمكتوبة في كافة ميادين الأدب والسياسة والنقد، ولكن قصور كافة المؤسسات الفلسطينية لهذا الجانب الإبداعي عرضها للإهمال وعدم التوثيق وكثيرة هي لوحاته ورسومه التي ما زالت مجهولة حتى على رفاق دربه وجمهوره وأهله ومحبيه وتحتاج لدعوة متجددة لجمعها وإحياء آثاره.