في سياق سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بصورة ممنهجة ومنظمة، لم تكتفِ بفرض مئات الحواجز العسكرية التي تقطّع أوصال الضفة الغربية وتخنق حياة الفلسطينيين اليومية، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، حين شرعت في إقامة بوابات حديدية ضخمة وثقيلة على مداخل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، وفي المفترقات المركزية التي تشكّل شرايين الربط الوحيدة بين التجمعات السكانية الفلسطينية. لم تعد الحواجز مجرد نقاط تفتيش، بل تحوّلت إلى أدوات سيطرة محكمة تعيد ترسيم الجغرافيا البشرية الفلسطينية بالقوة، وتحاصر الإنسان الفلسطيني في حدود ضيقة خانقة، تكاد تفصله عن محيطه وتشلّ قدرته على الحياة الطبيعية. هذه البوابات الحديدية، التي يتحكم بها جنود الاحتلال بصورة مطلقة، تُفتح وتُغلق وفق قرارات عشوائية أو أوامر عسكرية غامضة، دون أي التزام بزمن محدد أو مسوّغ قانوني أو إنساني. في كثير من الحالات، تُغلق البوابة لساعاتٍ طويلة، أو لأيام، وقد تبقى موصدة لأشهر أو حتى لسنوات، لتتحوّل إلى جدران عازلة تفصل الإنسان عن عمله، الطالب عن جامعته، المريض عن مشفاه، والأم عن أبنائها. هذا النمط من السيطرة لا يقتصر على تقييد الحركة، بل يخلق واقعًا من الإذلال والترويع الدائمين، حيث يصبح كل تحرّك فلسطيني مشروطًا بإرادة المحتل، وكل خطوة رهينة قرار عسكري قد يصدر أو لا يصدر.
إن فرض هذه البوابات وتحكّم الاحتلال بمفاتيح الحياة اليومية للفلسطينيين يمثّل نموذجًا صارخًا لنظام السيطرة الاستعمارية المبني على العزل والإخضاع، حيث تُحوَّل الأرض الفلسطينية إلى أرخبيل من الجزر المنفصلة، وكأنها "كنتونات" مغلقة تفصلها بوابات حديدية تخضع لسلطة المحتل المطلقة. يُجبر آلاف المواطنين يوميًا على سلوك طرق بديلة، غالبًا ما تكون ترابية، وعرة، وعشوائية، محفوفة بالمخاطر، إن توفرت أصلًا، مما يضاعف مشقة الحركة ويعمّق المعاناة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية. ولا تقتصر آثار هذه البوابات على البعد الجغرافي، بل تتغلغل في عمق الحياة اليومية، فتعيق الحركة الاقتصادية، وتشلّ الوصول إلى الخدمات الصحية والتعليمية، وتفاقم عزلة المناطق الريفية، وتحوّل التنقل البسيط إلى رحلة من العذاب الممنهج. في ظل هذا الواقع، تغدو البوابة الحديدية رمزًا واضحًا للعقاب الجماعي، وجزءًا من سياسة أوسع تهدف إلى تفتيت النسيج الفلسطيني، وكسر إرادته، وتكريس واقع الفصل العنصري (الأبارتهايد) على الأرض. إن استمرار هذا النهج العدواني، المدعوم بصمت دولي مريب، لا يشكّل فقط انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني وللعهود والمواثيق التي تضمن حرية الحركة والتنقل، بل يمثّل أيضًا جريمة مستمرة ضد الإنسانية، وضربًا سافرًا لكل ما تبقى من قيم العدالة وكرامة الإنسان.
ووفقًا لتقرير صادر عن هيئة مقاومة الجدار والاستيطان بتاريخ 22 كانون الثاني 2025 وصل عدد الحواجز والبوابات الحديدية، التي نصبها جيش الاحتلال في الضفة الغربية إلى 898 حاجزا عسكريا وبوابة حديدية، منها 18 بوابة حديدية نصبها الاحتلال منذ بداية العام 2025، منها (146) بوابة حديدية نصبها الاحتلال بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
من جهة أخرى وفي تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلّة في 20 مارس 2025 تحت عنوان آخر مستجدّات الحالة الإنسانية رقم 274 | الضفة الغربية جاء فيه: "وفي الوقت الراهن، ثمّة 849 عائقًا من العوائق التي تتحكّم في قدرة الفلسطينيين على التنقل وتقيّدها وتراقبها بصورة دائمة أو متقطعة في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية والمنطقة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية في الخليل. وخلّص مسح سريع أجراه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2025 إلى أنه أُقيم 36 عائقًا جديدًا للتنقل خلال الأشهر الثلاثة الماضية، معظمها عقب الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة في منتصف كانون الثاني/يناير 2025، مما زاد من عرقلة قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى الخدمات الأساسية وأماكن عملهم. وتم توثيق حالات إغلاق أخرى، يُعتقد أنها أقيمت في العام 2024. ومن الجدير بالذكر أنه تم تركيب ما مجموعه 29 بوابة جديدة في جميع أنحاء الضفة الغربية، إما كبوابات إغلاق جديدة منفصلة أو أضيفت إلى الحواجز الفرعية القائمة، مما يرفع العدد الإجمالي لبوابات الطرق المفتوحة أو المغلقة في شتّى أرجاء الضفة الغربية إلى 288 بوابة، وهو ما يشكل ثلث عوائق التنقل. ومن بين هذه البوابات، تمثل نحو 60 بالمائة منها (172 بوابة من أصل 288) بوابات يتم إغلاقها بشكل متكرر. وبالإضافة إلى الزيادة في عدد العوائق المثبتة، فقد أدى تكثيف القيود المفروضة على التنقل إلى تعطيل الحركة لفترات طويلة عند الحواجز، والإغلاق المتقطع لنقاط الوصول الرئيسية التي تربط بين المراكز السكانية في جميع أنحاء الضفة الغربية، وزيادة عدد العوائق التي يتم إغلاقها بشكل متكرر. وفي الإجمال، شملت العوائق التي تم توثيقها 94 حاجزًا يعمل فيها الموظفون على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، و153 حاجزًا جزئيًا (يعمل فيها الموظفون بشكل متقطع) (منها 45 حاجزًا يغلق بواباته بشكل متكرر)، و205 بوابات طرق (منها 127 بوابة تغلق بشكل متكرر)، و101 حاجزًا من الحواجز الخطية (مثل الجدران الترابية والخنادق)، و180 من السواتر الترابية، و116 من متاريس الطرق. ولا تشمل هذه البيانات الحواجز المقامة على امتداد الخط الأخضر أو غيرها من القيود، كإغلاق مخيم جنين أمام السكان العائدين أو تحديد بعض المناطق على أنها (مناطق عسكرية مغلقة)، وقد لا تنطوي هذه القيود دائمًا على حواجز مادية على الأرض)".
ومما لا شك فيه، فان نصب الحواجز والبوابات الحديدية في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل إسرائيل القائمة بالاحتلال يُعد انتهاكًا صارخاً للقانون الدولي الإنساني، ويشكل عقبة أمام حرية التنقل الأساسية للفلسطينيين، بما في ذلك حقوقهم التي يكفلها القانون الدولي:
حيث جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المادة 13 في البند الأول "لكلِّ فرد حقٌّ في حرِّية التنقُّل وفي اختيار محلِّ إقامته داخل حدود الدولة." وفي البند الثاني "لكلِّ فرد حقٌّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده".
وحسب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) المادة 12 وفي البند الأول "لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم دولة ما حق حرية التنقل فيه وحرية اختيار مكان إقامته" وفي البند الثاني "لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده".
وكذلك اتفاقية جنيف الرابعة لحماية الأشخاص المدنيين في زمن الحرب (1949) نصت المادة 27: على "حماية الأفراد تحت الاحتلال العسكري" و "يجب على الدول الأطراف احترام حقوق المدنيين في حرية الحركة أثناء النزاعات المسلحة".
فهذه البوابات والحواجز العسكرية الإسرائيلية حوّلت المدن والبلدات والقرى الفلسطينية إلى "كانتونات" مغلقة، تفصل بينها قيودٌ من العزل والقهر، لتجعل من حياة الفلسطينيين معاناةً يومية لا تنتهي. فهذه الحواجز باتت أدواتٍ ممنهجة للقمع والتضييق، تعرقل حركة السكان، وتشلّ مسارات الحياة، وتُحيل أبسط الحقوق إلى تحدياتٍ جسيمة. إن هذا الواقع المروع يستوجب تحركًا دوليًا عاجلًا، لوقف هذه الممارسات التي تفاقم مأساة الشعب الفلسطيني، وتُكرّس انتهاكًا صارخًا لأبسط مبادئ العدالة والإنسانية.