أبو عمار عشرون عاماً على الرحيل

أبو عمار عشرون عاماً على الرحيل

عشرون عامًا مرّت على رحيل الشهيد ياسر عرفات، الرجل الذي قاد أطول وأصعب ثورة في تاريخ البشر، وأذهل العالم بشجاعته وحنكته وإرادته وصموده طوال أربعين عاماً من المآسي والقدرة المتجددة على تجاوز المحن، من الانتكاسات والانتصارات، من الألم والأمل.. أربعون عامًا تبلورت خلالها هوية الفلسطينيين الوطنية؛ فصاروا شعبًا لا يمكن تخطيه.. شعبًا مصرًا على نيل حقوقه الوطنية المشروعة وتواقًا إلى صنع حريته واستقلاله.

ولد ياسر عرفات في القدس في 4 آب/ أغسطس 1929، واسمه بالكامل 'محمد ياسر' عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني. تلقى تعليمه في القاهرة، وشارك، بصفته ضابط احتياط في الجيش المصري، في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر في 1956.

تخرج من كلية الهندسة بجامعة فؤاد الأول بالقاهرة، وشارك منذ سني صباه في بعث الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال نشاطه في صفوف "اتحاد طلبة فلسطين" الذي تسلم زمام رئاسته لاحقاً.

أسس في الخمسينيات، مع ثلة من الوطنيين الفلسطينيين، حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، والتي وأعلنت انطلاقتها في الأول من كانون الثاني 1965م بتنفيذ عملية فدائية عرفت بـ"عملية عيلبون".

في شباط/ فبراير 1969 انتخب ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد أن صار لفصائل الكفاح المسلح الأغلبية في عديد المجلس الوطني الفلسطيني.

في 1974 ألقى ياسر عرفات كلمة باسم الشعب الفلسطيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك حاملًا بندقية الثائر بيد، وغصن زيتون باليد الأخرى؛ مخاطبًا العالم آنذاك بكلمات قليلة تحمل الكثير من المعاني قائلًا: "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"، وكانت هذه اللحظة، بما تحمله من دلالات بمثابة انعطافة كبرى في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية.

قاد ياسر عرفات خلال صيف 1982 المعركة ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان بصفته قائدًا عامًا لجبهة عريضة هي القيادة المشتركة لقوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وقاد معارك الصمود خلال الحصار الجهنمي الذي ضربته القوات الإسرائيلية الغازية حول بيروت طيلة 88 يومًا، انتهت باتفاق دولي يقضي بخروج المقاتلين الفلسطينيين من المدينة. وحين سأل الصحافيون ياسر عرفات لحظة خروجه عبر البحر إلى تونس على متن سفينة يونانية عن وجهته، عن محطته التالية، أجاب القائد: "أنا ذاهب إلى فلسطين".

حل ياسر عرفات وقيادة وكادر منظمة التحرير الفلسطينية ضيوفًا على تونس، ومن هناك استكمل خطواته الحثيثة نحو فلسطين.

في تونس البعيدة عن فلسطين تم استبدال الحصار الحربي الذي طوق ياسر عرفات ورفاقه في بيروت طيلة 88 يومًا بحصار سياسي ودبلوماسي، شارك فيه حلفاء الأمس من فلسطينيين وعرب. وشهدت الفترة بين 1983 وحتى 1986 فتورًا في النشاط الفلسطيني مبعثه حالة الانشقاق التي دعمتها بعض الدول الإقليمية، بهدف النيل من استقلالية القرار الوطني الفلسطيني.

وفي الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1985 نجا ياسر عرفات بأعجوبة من غارة إسرائيلية استهدفت منطقة حمام الشط بتونس، أدت إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى من الفلسطينيين والتونسيين.

ومع حلول 1987 أخذت الأمور تنفرج وتنشط على أكثر من صعيد؛ فبعد أن تحققت المصالحة بين القوى السياسية الفلسطينية المتخاصمة في جلسة توحيدية للمجلس الوطني الفلسطيني، أخذ ياسر عرفات يقود حروب الشعب على عدة جبهات: يدعم الصمود الأسطوري لمخيمات الفلسطينيين في لبنان، ويوجه انتفاضة الحجارة التي اندلعت في فلسطين ضد الاحتلال وبطشه؛ ويخوض المعارك السياسية على المستوى الدولي من أجل تعزيز الاعتراف بقضية الفلسطينيين وعدالة تطلعاتهم.

بعد إعلان استقلال فلسطين يوم 15/ تشرين الثاني/ 1988 خلال دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، أطلق في 13 و14 كانون الأول/ 1988 في الجمعية العامة للامم المتحدة، التي انتقلت الى جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة منحه تأشيرة سفر الى نيويورك- مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، والتي أسست لقرار الإدارة الأمريكية برئاسة رونالد ريغان في الـ 16 من الشهر ذاته، والقاضي بالشروع في إجراء حوار مع منظمه التحرير الفلسطينية في تونس اعتبارا من30 آذار/ 1989.

أطلق ياسر عرفات وقاد سياسة "سلام الشجعان" والتي أفضت إلى توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل في البيت الأبيض يوم 13 أيلول/ سبتمبر 1993، والذي بموجبه عاد ياسر عرفات على رأس كادر منظمة التحرير الفلسطينية إلى فلسطين واضعًا بذلك الخطوة الأولى في مسيرة تحقيق الحلم الفلسطيني في العودة والاستقلال.

وفي 20 كانون الثاني/ 1996 انتخب ياسر عرفات رئيسًا للسلطة الوطنية الفلسطينية؛ وذلك في انتخابات عامة. وبدأت مسيرة بناء أسس الدولة الفلسطينية بإشراف المهندس ياسر عرفات.

بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، نتيجة التعنت الإسرائيلي وحرص ياسر عرفات على عدم التفريط بالحقوق الفلسطينية والمساس بثوابتها- اندلعت انتفاضة الأقصى يوم 28 أيلول/ سبتمبر2000. وبذريعة اتهام ياسر عرفات بقيادة الانتفاضة؛ حاصرته القوات الإسرائيلية في مقره في سياق اجتياحها المدن الفلسطينية في عملية أطلقت عليها اسم "السور الواقي"، وأبقت الحصار مطبقًا عليه في حيز ضيق يفتقر للشروط الدنيا للحياة الآدمية، هو كل ما تبقى من مقر الرئيس بعد سلسلة من العبث والتهديم والتخريب نفذتها جرافات الاحتلال بتواطؤ أميركي-غربي وصمت رسمي عربي.

في يوم الثلاثاء 12 تشرين الأول/ 2004 ظهرت أولى علامات تدهور صحة ياسر عرفات، فقد أصيب الرئيس، وفق ما قرر أطباؤه بمرض في الجهاز الهضمي، وكان عرفات قبل ذلك بكثير قد عانى من أمراض مختلفة، منها نزيف في الجمجمة ناجم عن حادثة سقوط طائرته في الصحراء الليبية في نيسان/ 1992، ومرض جلدي، ورجفة عامة، عولجت بأدوية في العقد الأخير من حياته؛ والتهاب في المعدة أصيب به منذ تشرين الأول 2003. وفي السنة الأخيرة من حياته تم تشخيص جرح في المعدة وحصى في كيس المرارة، وعانى ضعفًا بدنيًا عامًا.

تدهورت حالة ياسر عرفات الصحية سريعاً مع نهاية تشرين أول/ 2004؛ الأمر الذي استدعى نقله على متن طائرة مروحية إلى الأردن، ومن هناك إلى مستشفى بيرسي في باريس. وظهر الرئيس على شاشة التلفاز وقد بدت عليه معالم الوهن في هيئة لم يعهدها الناس، أثارت الحزن والأسى والقنوط.

وفي 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 توقف قلب الرئيس عن الخفقان إيذانا بانتهاء مرحلة، هي من أهم وأعقد وأغنى مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر. وفي اليوم التالى كانت له ثلاث جنازات رسمية: الأولى في باريس، حيث كان على رأسها الرئيس الفرنسي آنذاك (جاك شيراك)؛ والثانية في القاهرة شارك فيها عدد من زعماء العرب والعالم؛ والثالثة في رام الله؛ إضافة إلى جنازة رمزية في نفس الوقت في غزة. وقد ووري جثمانه الطاهر في رام الله بشكل مؤقت حتى يدفن، حسب وصيته، في القدس الشريف عاصمة دولة فلسطين.

تعددت الآراء والمداخلات في أسباب وفاة ياسر عرفات، إذ يرى كثيرون أن وفاته كانت نتيجة التسميم بتسريب مادة سامة مجهولة إلى جسمه.

وعلى الرغم من كل فرضيات أسباب وفاته، إلا أن ثلاث سنوات من الحصار الجائر الذي فرضته قوات الاحتلال عليه في مقر المقاطعة في رام الله، مارست خلالها عليه كافة أشكال الضغط المعنوي والمادي- كانت كفيلة بالنيل من صحة رجل أقلق سكينتها؛ فأدمنت كراهيته، وامتهنت الرغبة في الخلاص منه.

لقد آمن ياسر عرفات بعدالة قضيته؛ فأشعل، بعدما رأى ما حلّ بأبناء شعبه من كوارث نتيجة المؤامرات والدسائس الاستعمارية- فتيل الثورة المعاصرة، وكرس حياته في خدمتها طوال أربعين عاماً تمكن خلالها القائد أبو عمار ورفاقه من رفع القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث في العالم، بعد أن تجاهلتها السياسات الدولية والإقليمية، واستطاع شحذ همم الفلسطينيين لمواصلة النضال من أجل التحرير والعودة. لقد أوجد الزعيم ورفاقه عبر سنوات الكفاح المرير مكانًا ومكانة للفلسطينيين بين الأمم.

كان الكثير يتوقع، برحيل ياسر عرفات- حدوث انقسامات وتشرذمات في صفوف الفلسطينيين؛ وذلك بسبب شخصية عرفات الكاريزمية الفذة، وقدرته على قيادة السفينة الفلسطينية في كل الظروف. إلا أن الرهان سقط، والتوقعات تبددت بالانتقال السلس للسلطة بدءاً من تولي رئيس المجلس التشريعي زمام السلطة مؤقتًا، استنادا إلى القانون الأساس، وانتهاءً بالانتخابات الرئاسية يوم التاسع من كانون الثاني/ يناير 2005، التي رفعت نتائجها رفيق دربه محمود عباس (أبو مازن) إلى سدة الرئاسة بعملية ديموقراطية شهد لنزاهتها القاصي والداني، والعدو والصديق.

غاب أبو عمار قبل عشرين سنة بجسده؛ لكن إرثه النضالي ومنجزاته الوطنية لا زالت قائمة تنهل منها الأجيال لمواصلة الكفاح من أجل التحرر وبناء أسس الدولة الفلسطينية؛ إذ لم يكن ياسر عرفات خلال سني حياته مجرد مقاتل يحمل بندقية؛ وإنما كان الزعيم الملهم الذي وضع في ظروف هي غاية في التعقيد، أسس الدولة الفلسطينية العتيدة؛ بدءاً بدوائر منظمة التحرير الفلسطينية التي عنيت بمختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والثقافية للشعب الفلسطيني؛ وانتهاءً بتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في الرابع من أيار/ مايو 1994 على أرض الوطن بعد رحلة طويلة من النضال والكفاح المرير.

غاب ياسر عرفات؛ لكن معالم الكيان المستقل التي أرساها لا زالت باقية؛ فها هي المؤسسات الفلسطينية الرسمية والشعبية تواصل المسيرة، يتقدمها الرئيس محمود عباس، قائدًا عنيدًا متمسكًا بالثوابت الوطنية؛ يسير بخطى واثقة نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، متحديًا كل من يقف في وجه ذلك مهما عظمت قوته وجبروته.

 

للمزيد / الاطلاع على ملف الرئيس الراحل ياسر عرفات