تتوالى المشاهد الدامية في غزة على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي عبر فصولٍ جديدة من الفتك والدمار، تشمل كافة قطاعات الحياة وميادينها دون استثناء؛ فهنالك كوارث يومية متلاحقة مستمرة، وجرائم إبادة متتابعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فقد حلت بأهل غزة كارثة شملت الحياة الإنسانية، والصحية، والتعليمية، والغذائية، والمعيشية، والاجتماعية، دون أن يوقف هذا العدوان رادع؛ فقد استمر هذا العدوان بصورته البشعة العنيفة محدثًا أبشع المجازر والجرائم، ومرتكبًا أفظع الجنايات والانتهاكات بكافة الأسلحة التي تنشر الدمار من طائرات المحتل في السماء، ومن دباباته وجرافاته وآلياته في البر، ومن زوارقه ومراكبه في البحر. وقد أصيب قطاع التعليم والأكاديمي، كغيره من سائر قطاعات الحياة الغزية بالدمار المقصود المتعمد إذ فجع بالعديد من الأكاديميين الفلسطينيين الذين ارتقوا شهداء على ثرى غزة، هؤلاء الثلة الطليعية المستنيرة التي كانت تشكل نخبة علمية ومعرفية خلاقة، والتي لها اسهاماتها العلمية والأكاديمية الكبيرة في كافة المحافل الدولية العلمية والمعرفية.
وفي هذا السياق، رصدت الحملة الأكاديمية الدولية في تقرير صدر عنها بتاريخ 10/8/2024 جوانب من انتهاكات وملاحقة الاحتلال للقطاع الأكاديمي الفلسطيني في ظل استمرار جرائم الإبادة الجماعية. وأشار التقرير الى أنه في الأسابيع الأخيرة ارتفع عدد الشهداء الأكاديميين من باحثين ورؤساء جامعات ودكاترة ومحاضرين إلى أكثر من 115 شهيدا، بينهم 15 دكتورة وأكاديمية، وذلك مع رصد وتسجيل كوكبة جديدة من بينهم استشهاد الدكتور أسامة نوفل، مدير عام السياسات والتخطيط في وزارة الاقتصاد في غزة، بمجزرة مواصي خان يونس. كما تم كشف النقاب عن استشهاد الدكتورة إسلام جميل الطهراوي في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وكانت محاضرة ورئيسة قسم الإشراف الميداني بالجامعة الإسلامية في غزة، والدكتورة البروفيسورة ختام الوصيفي رئيسة قسم الفيزياء في الجامعة الإسلامية في غزة، ونائبة عميد كلية العلوم فيها، صاحبة 60 بحثا في الكهرباء المغناطيسية والكثير من الأبحاث في البصريات الالكترونية، وكانت حازت على لقب امرأة فلسطين في المجال الفكري عام 2022، وقد استشهدت في غارة مع زوجها وعدد من أبنائها خلال تموز الجاري، كما استشهد الدكتور بجامعة القدس المفتوحة أنور نصار في 15 تموز الماضي، مع نجله أحمد بعد القصف المدفعي شمال مخيم النصيرات، وفي اليوم ذاته تم الإعلان عن استشهاد الدكتور إياد زكي عقل من النصيرات متأثرا بجروحه إثر قصف الاحتلال لمنزله.
وتم الكشف عن استشهاد الأستاذ سمير أحمد حسين الترتوري في 29/4 بمدينة غزة، أستاذ ورئيس قسم بمعهد الأزهر الديني، ويوم 22/7 تم الإعلان عن اغتيال واستشهاد الناشط الإعلامي والباحث السياسي الدكتور حيدر إبراهيم، جراء قصف الاحتلال لخيمة داخل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، فيما أعلن عن استشهاد د. ممدوح أبو الحسنى أستاذ القانون في جامعة فلسطين ووالده واثنين من أبنائه في قصف استهدف منزله في شارع غزة القديم بمدينة جباليا في 15 أيار الماضي. وفي 13 تموز الماضي، تم الإعلان عن استشهاد الدكتورة وهيبة آيت مزغات، المنحدرة من ولاية البليدة الجزائرية في قصف إسرائيلي على قطاع غزة، والشهيدة تعمل أستاذة جامعية وهي زوجة الأستاذ الفلسطيني ماهر أبو مطلق، فيما استشهد المرشد التربوي جهاد شلالدة من سكان بلدة سعير يوم 22 تموز الماضي.
وأكدت الحملة الأكاديمية الدولية في تقريرها، إنه بسبب العدوان الإسرائيلي والإبادة الجماعية فقد حرم الاحتلال حوالي 39 ألف طالب وطالبة من التقدم لامتحانات الثانوية العامة، وتم استهداف قرابة (278) مبنى للمدارس، وتم تدميرها بشكل كامل أو جزئي وخرجت عن أداء رسالتها التعليمية، وإلحاق أضرار بها من أصل (309) مدارس، فيما خرجت مؤسسات التعليم العالي وجميع الجامعات عن الخدمة، حيث دمرها الاحتلال بشكل كلي أو جزئي، والمدارس المتبقية أصبحت مراكز إيواء لعشرات آلاف النازحين قسرا، وهناك أكثر من 630 ألف طالب وطالبة حرموا من العملية التعليمية منذ بداية العدوان، في حين يواصل الاحتلال اعتقال 55 من طلبة الثانوية العامة في الضفة الغربية. وأشار التقرير إلى تعطل الحياة الأكاديمية في الجامعات، طالت نحو 88 ألف طالب وطالبة ملتحقين في مختلف الجامعات في قطاع غزة، سواء أكانت الجامعات خاصة أم حكومية، وتم تدمير أكثر من 31 مبنى لهذه الجامعات، وأكثر من 80% منها أصبحت غير صالحة لمواصلة مسيرة التعليم الجامعي.
وذكر التقرير انه وبحسب بيان لوزارة التربية والتعليم العالي، فإن عدد الطلبة الذين استُشهدوا في غزة منذ بداية العدوان نحو 10000 بينما أصيب أكثر من 14600 طالب إضافة إلى 400 معلم، وفي الضفة الغربية، استُشهد 103 طلاب وأصيب 511 آخرون، كما تم اعتقال نحو 400 طالب. وتأتي حملات الاعتقال المستمرة إلى جانب استشهاد 430 من طلبة الثانوية العامة في غزة، و20 آخرين من الضفة خلال العام الدراسي الحالي، فيما لا تزال القدس مستهدفة بكل مكوناتها الوطنية ومنها أسرلة المناهج، واستهداف المعلم، والطالب، والمدرسة.
وتناول التقرير مواصلة سلطات الاحتلال سياسة ملاحقة الطلبة بالاعتقالات، والتي شملت اعتقال المئات منهم والتنكيل بهم ومن ثم تحويلهم مباشرة للاعتقال الإداري العنصري، واستهدفت النقابيين وأبرز القيادات الطلابية في كل من جامعة بيرزيت، والنجاح، والخليل، والبوليتكنيك، والقدس، والعربية الأمريكية، وخضوري، وبيت لحم، وفلسطين الأهلية، وغيرها بينهم منسقو كتل طلابية، وأعضاء مجالس اتحاد الطلبة، وطالت حملات الاعتقال ثلة من طالبات الجامعات بعضهن أسيرات محررات، حيث يخضعهم الاحتلال لظروف اعتقال قاسية، وتسبب ذلك في خسارة أكاديمية كبيرة تتراوح ما بين فصل دراسي وثلاثة فصول لعدد من الطلبة، ويتعرضون للتنكيل والتعذيب بما يتنافى مع الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية.
وعلى ضوء ذلك، لعل ما يعزز احتمالية تعمد استهداف إسرائيل لكافة مقومات الحياة في قطاع غزة ما أقدمت عليه القوات الإسرائيلية من تدمير منهجي وواسع النطاق للأعيان الثقافية، ومنها التاريخية؛ فعلى مدار فترة العدوان دمرت إسرائيل بشكل مباشر جميع الجامعات في قطاع غزة، عبر مراحل، تمثلت المرحلة الأولى في عمليات قصف استهدفت مبانٍ في جامعتي "الإسلامية" و"الأزهر"، ثم امتد الأمر لبقية الجامعات، وصولاً إلى تفجير بعضها ونسفها بالكامل بعد تحويلها إلى ثكنات عسكرية، كما حدث في جامعة "الإسراء" جنوبي غزة، التي نشر الإعلام الإسرائيلي بتاريخ 17 كانون ثانٍ/ يناير عام 2024 مقطع فيديو يوثق نسفها على أيدي جيش الاحتلال، والذي جاء بعد 70 يوماً من تحويلها ثكنة عسكرية ومركز اعتقال مؤقت.
ومما لا شك فيه أن تدمير الجامعات وقتل الأكاديميين والطلبة سيزيد من صعوبة استئناف الحياة الجامعية والأكاديمية بعد توقف الهجوم؛ إذ قد يحتاج الأمر إلى سنوات حتى تتمكن الجامعات من استئناف الدراسة في بيئة مدمرة بالكامل. وما هو جدير بالذكر أن شن الهجمات العسكرية ضد الأعيان المدنية، وبخاصة تلك التي تتمتع بحماية خاصة، كالأعيان الثقافية والتاريخية، لا يشكل فقط انتهاكاً جسيماً لقواعد القانون الدولي الإنساني وجريمة حرب وفقا لميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بل يأتي أيضاً في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة، والتي تهدف من خلالها إلى تدمير الفلسطينيين بدنياً ومعنوياً.