منذ السابع من تشرين الأول من عام 2023 وجيش الاحتلال الإسرائيلي وقيادته السياسية والأمنية وهي تطلق التهديدات بأخلاء العديد من المستشفيات في قطاع غزة، وتعمل على قصفها ومحاصرتها، ومن ضمنها مجمع الشفاء الطبي، ضاربة بعرض الحائط بالقوانين الدولية والمبادئ الإنسانية، وسط صمت تام من المجتمع الدولي الذي يشاهد سفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء في قطاع غزة ودخل مستشفياتها دون أن يحرك ساكناً، وفي هذا السياق كان لمجمع الشفاء الطبي قدراً كبيراً من الفتك والدمار والترويع من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي التي ارتكبت الفظائع في مجمع الشفاء الطبي على مدى فترات وأزمنة مختلفة وهذا في خضم عدوانها الفتاك على قطاع غزة، ففي المشهد الدامي المتوالي قُتل الأطباء والممرضون والمسعفون في مجمع الشفاء، وتم اعتقال العشرات منهم وتعريتهم وتعذيبهم وتجويعهم وتعطيشهم، وتحول المستشفى من مكان لعلاج المرضى والجرحى الى مقبرة جماعية لهم.
وعلى وجه العموم، يعتبر مجمع الشفاء الطبي هو مجمع حكومي تابع لوزارة الصحة الفلسطينية، يعد أكبر المؤسسات الطبية في فلسطين، بني عام 1946 في عهد الانتداب البريطاني في مدينة غزة، وتبلغ مساحته حوالي 42000 م2، يضم المجمع ثلاثة مستشفيات متخصصة، وهي: مستشفى الجراحة، ومستشفى الأمراض الباطنية، ومستشفى النساء والتوليد، مع قسم حضانة للأطفال الخدج، إضافة إلى قسم الطوارئ ووحدة العناية المركزة والأشعة وبنك الدم والتخطيط، ويحتوي على 500-700 سرير. ويعمل فيه حوالي 1500 موظف، منهم أكثر من 500 طبيب، و760 ممرضا، و32 صيدلانيا، و200 موظف إداري.
وفي سياق العدوان على مجمع الشفاء الطبي، اقتحم جيش الاحتلال الإسرائيلي في فجر يوم 15 تشرين الثاني 2023 مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة بعد محاصرته لمدة ستة أيام، تعرض خلالها لعمليات إطلاق النيران والقذائف نحو مبانيه وأرجائه، وقطع الكهرباء والوقود والطعام، الأمر الذي عرض حياة من بداخله من طواقم طبية ونازحين ومرضى وجرحى وأطفال خدج في الحاضنات للخطر، في الوقت ذاته كان المرضى والجرحى لا يستطيعون الوصول إلى مجمع الشفاء الطبي، العديد منهم فقدوا حياتهم إما وهم ينزفون أو بسبب عدم تلقيهم أدويتهم وعلاجاتهم اللازمة، الطواقم الطبية داخل مجمع الشفاء الطبي لا يستطيعون التنقل بين أقسام ومباني المجمع، فيما فسد مخزون الدم الموجود داخل الأقسام بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ولم تعد الطواقم الطبية قادرة على إعطاء وحدات الدم للمرضى والجرحى الذين ينزفون، لا يوجد مياه ولا طعام ولا مستلزمات طبية، ثم جاء اقتحام المجمع بالمجنزرات الإسرائيلية وسط اطلاق نار كثيف الأمر الذي أصاب كل من بداخله من طواقم طبية ومرضى وجرحى والنازحين اليه من المواطنين بحالة من الهلع الشديد، ليجري جيش الاحتلال تحقيقاً ميدانياً معهم واعتقال عدد منهم واقتيادهم لجهات مجهولة.
كما ودعا جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد حصاره المطبق على مستشفى الشفاء، كل المتواجدين بالمستشفى لإخلائه قسراً وعلى الفور خلال ساعة واحدة عبر ممر يدعي الاحتلال بانه آمن، فالجرحى والمرضى بدأوا بمهمة النزوح سيراً على الأقدام بالرغم من حالتهم الصحية الصعبة، فمنهم من مات على الطريق، ومنهم سقط أرضاً على بعد 100 متر فقط عن المستشفى ولم يستطع السير، فالاحتلال طلب منهم المشي لمسافة تزيد عن 15 كيلو نحو الجنوب سيراً على الاقدام، وهم يحملون الرايات البيضاء، وجرى خلال نزوحهم من الممر والشارع المحدد قنص العديد منهم، والتنكيل بهم، واعتقال عدد منهم، منهم مدير مجمع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية واختطافه من أحدى السيارات التابعة للصليب الأحمر واقتياده الى جهة مجهولة.
كما وأكدت منظمة الصحة العالمية، بأن نقل المرضى الأكثر عرضة للخطر من مستشفى الشفاء في غزة مهمة مستحيلة، وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن نقل المرضى الأكثر ضعفاً سيؤدي حتماً إلى حالات وفاة، وقالت الناطقة باسم المنظمة مارغريت هاريس للصحافيين في جنيف "السبب الذي دفعنا للقول إنه لا يمكن إجلاء الناس هو قبل كل شيء أن الناس في المستشفيات معرّضون للخطر بشكل كبير، إنهم يعانون من المرض الشديد، لذا فإن نقلهم مهمة مستحيلة، وذلك سيكون بمثابة الطلب من الأطباء والممرضين نقل أشخاص رغم معرفتهم أن الأمر سيقتلهم، وأكدت انه من البديهي ان لا يكون هناك حاجة لنقل المرضى من مكان لآخر لأن المستشفيات من الأساس يجب ألا تتعرض لأية هجوم، فالمستشفيات مكان آمن يجب عدم المساس به وهو أمر مكفول لا جدال فيه بالقانون الدولي الإنساني وكل الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تُعنى بهذا الشأن.
ولم تكن هذه المرة الوحيدة ابان العدوان الإسرائيلي على غزة التي يشن فيها حصاراً وترويعاً في مجمع الشفاء الطبي؛ بل عادت قوات الاحتلال الإسرائيلي وبدأت عدواناً ومشهداً مروعاً في مجمع الشفاء الطبي، في 18 مارس/ آذار عام 2024، واستمر الحصار المروع لمدة تزيد عن أسبوعين، وارتكبت المجازر بحق المرضى والمتواجدين هناك، وفي هذا الصدد أعرب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عن صدمته البالغة من هول المذبحة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في وضد مجمع الشفاء الطبي ومحيطه في مدينة غزة على مدار أسبوعين من تنفيذه لعملية عسكرية واسعة النطاق تخللها ارتكاب مجازر وجرائم مروعة ضد كل من تواجد فيه، بغض النظر عن صفته المدنية والمهنية وجنسه وعمره وحالته الصحية. وأشار المرصد الأورومتوسطي إلى أن حجم المجزرة الفعلي وأبعادها لم تٌكشف بعد بالكامل، لافتًا إلى أن تقديراته الأولية تفيد بأن أكثر من 1500 شخص وقعوا ما بين قتيل وجريح ومفقود، نصفهم من النساء والأطفال، بفعل المذبحة الإسرائيلية في مجمع الشفاء الطبي ومحيطه، وذلك بناءً على الإفادات الواردة إليه ومشاهداته، حيث أن هنالك مئات من الجثامين داخل المجمع وفي المنطقة المحيطة به، منها جثامين محترقة وأخرى مقطعة الرؤوس والأوصال. وأوضح الأورومتوسطي أن من بين ضحايا المذبحة أكثر من 22 مريضًا على الأقل قتلوا على أسرة المستشفيات بفعل الحصار الإسرائيلي للمجمع وتعمد حرمانهم من الرعاية الطبية والغذاء والطعام، لافتًا إلى أن الجيش تعمد طوال فترة عملياته العسكرية عرقلة وصول الفرق الإغاثية وممثلي المنظمات الدولية إلى المجمع للقيام بمهام إنسانية أو عمليات إجلاء، بالإضافة إلى تعمد الجيش الإسرائيلي تفريغ المجمع من كوادره العاملة، وبخاصة الطبية، سواء بالإعدام أو بالاعتقال أو بالإجبار على النزوح، فيما يبقى مصير بعضهم مجهولًا حتى الآن. وقال الأورومتوسطي إن مجمع الشفاء أصبح الآن خارجًا عن الخدمة بشكل كامل، بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي جميع مبانيه بالتفجير والحرق، بما في ذلك ثلاجة الموتى، وساحاته وممراته الداخلية والخارجية.
وتأتي هذه الجريمة التي نفذها الجيش الإسرائيلي ضد مجمع الشفاء الطبي تأتي في مقدمة الخطة المنهجية والمنظمة والواسعة النطاق التي تنفذها إسرائيل ضد القطاع الصحي في قطاع غزة لإخراجه عن الخدمة بالتدمير والحصار، وإيصاله إلى نقطة اللاعودة، وحرمان الفلسطينيين من في القطاع من فرص النجاة والحياة والاستشفاء.
وفي ذات السياق، أجبرت قوات الجيش الإسرائيلي أكثر من 25 ألف مدني فلسطيني على النزوح بالقوة من مناطق سكنهم في محيط مجمع الشفاء الطبي، بعد أن مارست بحق العائلات في المنطقة العديد من الجرائم، بما في ذلك القتل والاستهداف والحصار والاعتقالات التعسفية والتجويع، فضلًا عن الإضرار الشامل بالمنازل والأعيان المدنية بالتدمير والحرق. وأضاف أن التقديرات الأولية تظهر بأن الجيش الإسرائيلي دمر وحرق أكثر من 1200 وحدة سكنية في محيط مجمع الشفاء الطبي
وشدد الأورومتوسطي على أن المجزرة التي وقعت في مجمع الشفاء الطبي واستهداف المدنيين المحميين والأعيان المدنية المحمية على هذا النحو الخطير والمنهجي والشامل، واستهداف ما تبقى عاملًا من المنظومة الصحية في قطاع غزة، وتعريض حياة آلاف المدنيين من المرضى والجرحى وعائلات النازحين والطواقم الطبية والصحافيين لخطر الاستهداف المباشر، ونزع الصفة المدنية عنه، وتشتيت العائلات عن بعضها البعض، هو دليل آخر على جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة منذ نحو ستة أشهر.
وفي هذا السياق، أكدت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارجريت هاريس، في بيانٍ لها صدر بتاريخ 2/4/2024 ، إن تدمير مستشفى الشفاء يصيب المنظومة الصحية في غزة في مقتل. وأضافت هاريس "لقد كان المكان الذي يذهب إليه الناس للحصول على نوع رعاية يوفرها أي نظام صحي جيد، والتي نتوقع الحصول عليها في مجتمعاتنا حال الحاجة إليها".
وما هو مؤكد بأن الجيش الإسرائيلي نفذ جريمته في مجمع الشفاء دون أدنى احترام لقواعد القانون الدولي الإنساني، وبخاصة مبادئ التمييز والتناسبية والضرورة العسكرية، أو احترام الحماية الخاصة التي تتمتع به المستشفيات المدنية والطواقم الطبية، أو الحماية التي يتمتع بها المدنيون سواء بصفتهم هذه أو كونهم غير مشاركين مشاركة مباشرة بالأعمال الحربية، أو الحماية التي يتمتع بها الجرحى والمرضى، وحظر استهدافهم حتى لو كانوا من العسكريين، وأنه لم يقدم حتى الآن دليلًا يثبت أو يبرر تنفيذه هذه الجريمة وعلى هذا النطاق الواسع والخطير والذي ينتهك على نحو جسيم القانون الدولي الإنساني، وأن جرائمه هذه تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قائمة بحد ذاتها.
ومما لا شك فيه، يُعتبر المساس بالمستشفيات من الأمور التي تتنافى كلياً مع كل القوانين والأعراف الدولية، وهي جرائم حرب مكتملة الأركان، وخروقات وانتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني بِرُمته ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، والبروتوكولين الأول والثاني لاتفاقيات جنيف (1977)، واتفاقية لاهاي (1954). إذ تخالف إسرائيل بشكل مُريب اتفاقية جنيف الرابعة حول مسألة استهداف الطواقم الطبية، وقصف المشافي على رؤوس المرضى والمدنيين.
فان ما يقوم به جيش الاحتلال في محاصرة واقتحام مجمع الشفاء الطبي وغيره من المستشفيات في قطاع غزة، يؤدي إلى حرمان المواطن الفلسطيني من أبسط حقوقه الآدمية المتعلقة بحقه في العلاج وتلقي الخدمة الطبية، وينسجم مع خطاب الإبادة الجماعية واللاإنسانية الواضح الصادر عن كبار المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين، فضلاً عن بعض المجموعات المهنية والشخصيات العامة، الذين يدعون إلى "التدمير الكامل" و"محو" غزة، وضرورة "الإجهاز عليهم جميعاً". ان أعمال حكومة الاحتلال الإسرائيلي وجيشها تمثل إبادة جماعية باتت تتكشف يوماً بعد يوم، وهي التي تعرفها اتفاقية الإبادة الجماعية بأنها أفعال مرتكبة "مع نية التدمير، كليًا أو جزئيًا، جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية"