مبادئ ونظام التقاضي في فلسطين

مقدمة
من المسائل الهامة التي تجمع عليها التشريعات القانونية المنظمة لإجراءات التقاضي في الدول المعاصرة، وجود مجموعة من المبادئ الأساسية في التنظيم القضائي بهدف حماية الحقوق والدفاع عنها، وإقامة العدل في المجتمع. وأصول النظام القضائي في فلسطين لا تخرج عن هذا الإطار، ولذلك فإن أهم المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها التنظيم القضائي الفلسطيني هي:

أولاُ: مبدأ استقلال القضاء
يقصد بهذا المبدأ: أن يمارس القضاة عملهم بالفصل في الخصومات في ظل سيادة القانون، فلا يخضعون إلا لله ولضمائرهم، ولا يجوز التدخل في شؤونهم أو محاولة التأثير عليهم من أي جهة أو سلطة كانت، تشريعية أو تنفيذية أو غيرها؛ بهدف إقامة العدل وحماية الحقوق والحريات للأفراد في المجتمع. وقد أكد الدستور الفلسطيني على هذا المبدأ في المادة 51 منه فقال: "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضاء أو شؤون العدالة".

ثانياً: مبدأ التقاضي على درجتين
يقصد بهذا المبدأ إتاحة الفرصة للخصم الذي خسر الدعوى أو حكم لغيره ولو في جزء من حقه بأن يعرض النزاع أمام محكمة أخرى أعلى درجة من المحكمة التي فصلت فيها لتفصل فيها من جديد.

 وفي هذه الحالة تقسم محاكم الموضوع في النظام القضائي إلى قسمين أو طبقتين هما: محاكم أول درجة، وتنظر في النزاع لأول مرة، ومحاكم ثاني درجة، وهي تنظر في النزاع نفسه إذا طعن في الحكم الصادر فيه مرة ثانية، والمحكمة التي تنظر فيه تسمى عادة محكمة الاستئناف، ولهذه المحكمة الأخيرة أن تعيد النظر في النزاع من جديد وتحكم فيه بتصحيح العيب أو الخطأ في حالة وجوده، أو تؤيد حكم محكمة أول درجة إذا كان هذا الحكم الأخير سليماً ومحاكم الدرجة الأولى تسمى أحياناً بالمحاكم الابتدائية، وتتألف من قاض واحد خاصة في حالة النظر في المسائل المدنية والتجارية؛ أما محاكم الدرجة الثانية فتسمى المحاكم الاستئنافية وتتألف هيئتها القضائية من ثلاثة قضاة؛ وهذا يعطي فرصة أكبر لتمحيص النزاع للوقوف على الحقيقة

وقد أخذ المشرع الفلسطيني بنظام التقاضي على درجتين، وهما:

محاكم الدرجة الأولى: وتشمل محاكم الصلح والمحكمة المركزية أو محكمة البداية بصفتها الابتدائية، وتتألف محاكم الصلح من قاض واحد او من هيئة مؤلفة من قاضيين أو ثلاثة قضاة للنظر في المسائل المدنية والتجارية طبقاً لأحكام القانون.
 
ومحاكم الدرجة الثانية: وتشمل المحكمة المركزية أو محكمة البداية والعليا بهيئة استئنافية، وتتألف هيئتها القضائية عادة من ثلاثة قضاة.

ورغم أن أحكام محاكم الدرجة الأولى قابلة للاستئناف أمام محاكم الدرجة الثانية عملياً، إلا أن المادة 13/3 من أصول محاكم الصلح لسنة 1947 تقضي بعدم جواز الطعن في حكم محكمة الصلح في بعض الدعاوى الحقوقية إذا كانت قيمة الدعوى أو الحق المدعي به أقل من عشرين جنيهاً. ما لم تمنح المحكمة المركزية أذنا بالاستئناف أمامها.

وتعتبر محكمة الاستئناف العليا بمثابة محكمة قانون عندما تنظر في نقطة قانونية أو نقطة مستحدثة، أو معقدة أو ذات أهمية عامة وفقاً للمادة 14/1 من أصول محاكم الصلح.

ثالثاًُ: مبدأ مجانية القضاء
يقصد بمجانية القضاء: تكفل الدولة بتحمل نفقات التقاضي بدلاً من المتقاضين أو الخصوم، فلا يتحمل هؤلاء شيئاًً من أجور القضاة أو تكاليف تجهيز وأعداد المحاكم بكل متطلبات القضاء وتتحمل الدولة ذلك كله. ولا يغير من ذلك ما يدفعه الخصوم أو الطرف الخاسر للدعوى من نفقات أو مصاريف قضائية، لأنها رمزية من ناحية، ولأن القانون يوفر المساعدة القضائية لمن يحتاجها من الخصوم من ناحية أخرى.
وهذا ما فعله المشرع الفلسطيني حيث قرر إعفاء العمال من الرسوم القضائية في الدعاوى العمالية وفقا للمادة الثانية من قانون العمل الساري في قطاع غزة،وهو القانون رقم 16 لسنة 1964، كما أخذ بمبدأ المساعدة القضائية وإعفاء المعوزين من دفع الرسوم القضائية وفقا للمادة 19/3. من قانون رسوم المحاكم لسنة 1935 الساري في قطاع غزة، والمادة 15/1 من قانون رسوم المحاكم رقم 4 لسنة 1952 الساري في الضفة الغربية.

كما أخذ المشرع بضرورة مساهمة الخصوم، ولا سيما الطرف الخاسر للدعوى منهم بتحمل مصاريف أو رسوم الدعوى، وهي رمزية لكنها تحقق عدة مزايا منها:

- تشجيع الأفراد على عرض خصوماتهم على القضاء.
- المشاركة الرمزية في تحمل المسئولية إلى جانب الدولة لإقامة قضاء يحقق الأمن والعدالة في المجتمع.
- الحد من الدعاوى الكيدية والتافهة.

رابعاً: مبدأ كفالة حق الدفاع للجميع
يقصد بهذا المبدأ: منح الحق أو إتاحة الفرصة لكل خصم بالدفاع عن نفسه، و إعداد أوجه دفاعه بالأصالة عن نفسه أو بتوكيل محامٍ للدفاع عنه، على قدم المساواة بين الخصوم، دون تمييز على أساس اللون أو الجنس أو اللغة أو أي اعتبار آخر.

ويعتبر مبدأ كفالة حق الدفاع للجميع على قدم المساواة من أهم المبادئ التي يقوم عليها النظام؛ لأنه يحقق ثقة الناس بالقضاء واحترامهم له، ولذلك تحرص الدول على تأكيده بالنص عليه في الدستور، (حق الدفاع بالأصالة أو بالوكالة يكفله القانون، وكل متهم في جناية يجب أن يكون له من يدافع عنه)، لأن حق الدفاع يرتكز على الحق في التقاضي، كما كفل القانون للقاصر حق التقاضي والدفاع عن طريق ممثله القانوني أمام القضاء، كالولي أو الوصي أو القيم ولهذا ولأجل ضمان نزاهة القضاء وحياد القاضي وبعده عن شبهة الميل والهوى أجاز القانون للقاضي التنحي عن نظر الخصومة إذا كانت زوجته أو أحد أقاربه إلى الدرجة الرابعة أو صديقه أو دائنه أو خادمه طرفاً فيها، فإن لم يتنح من تلقاء نفسه كان للخصم الآخر أن يطلب تنحيته عن نظرها، ويحل قاض آخر بدلاً منه في ذلك.

خامساً: مبدأ علانية الجلسات
يقصد بهذا المبدأ: فتح أبواب القضاء أو المحاكم أمام جمهور الناس وإتاحة الفرصة لهم بحضور جلسات المحاكمة، والاستماع لمرافعة الخصوم والنيابة العامة والقاضي مباشرة لكل ما يجري في قاعة المحكمة أثناء نظر القضايا أو الفصل في الخصومات.

وتعتبر علانية الجلسات من الضمانات الهامة والأساسية في التقاضي، لأنها تخلق نوعاً من الرقابة الشعبية العامة على أعمال الهيئة القضائية، كما تخلق نوعاً من الاطمئنان لدى الناس ولدى الخصوم بعدالة ونزاهة القضاة، وهذا يدفع بهؤلاء إلى المزيد من التحري والدقة والأناة لحسن أداء العدالة.

ومبدأ علانية الجلسات أكده النظام الدستوري لقطاع غزة في المادة 53 منه فقال:(جلسات المحاكم علنية، إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية مراعاة للنظام العام والآداب)، كما نصت على علانية الجلسات المادة 190 من أصول المحاكمات الحقوقية لسنة 1938، والمادة 1815 من المجلة العدلية أيضا.

ولكن استثناء من هذا المبدأ أجاز القانون للمحكمة أن تأمر بجعل الجلسات أو في جزء منها سرية لاعتبارات المصلحة العامة أو الآداب العامة ولو بناء على طلب الخصوم خاصة في قضايا الشرف والزواج، وهو ما قضت به المادة 24/1 من أصول المحاكمات أمام محاكم الصلح، فقالت يحق لأية محكمة أن تمنع الجمهور من حضور المحاكمة حيث يكون ذلك ضرورياً لحسن سير العدالة.

والجدير بالملاحظة أن جلسة النطق بالحكم يجب أن تكون علنية حتى وان كانت جلسات المرافعة أو المحاكمة سرية.

سادساً: مبدأ شفوية المرافعات
يعتبرهذا المبدأ مكمل للمبدأ السابق علانية الجلسات، حيث يقوم الخصوم بالأصالة أو بالوكالة عن طريق محامييهم بالمرافعة الشفوية أمام هيئة المحكمة، كما تقوم النيابة العامة بذلك أيضا إذا كان تدخلها ضرورياً خاصة في القضايا الجنائية. ويجري سماع الشهود واستجوابهم ومناقشتهم علانية وشفوية في الجلسة أمام جمهور الحاضرين.

 وهذا يحقق نفس المزايا التي يحققها مبدأ علانية الجلسات، بل أن هذا المبدأ الأخير لا يحقق مزاياه أو الهدف منه إذا لم تكن هناك مرافعة شفوية وأسئلة متبادلة بين الخصوم وأعضاء هيئة المحكمة. ومع ذلك فإنه لا يقلل من أهمية هذا المبدأ ما يقضي به القانون من تقديم المذكرات الختامية في القضايا مكتوبة ودون مرافعة شفوية، وفقاً للمادة 102 من أصول المحكمات الحقوقية لسنة 38، والمادة 89 وما بعدها من أصول محاكم الصلح لسنة 1940، ولعل السبب في ذلك هو كثرة القضايا، وضيق الوقت بحيث لا يسمح للمحكمة سماعها، وتكتفي بما سمعته من مرافعة سابقة من أقوال الخصوم وسماع الشهود.