النيابة العامة الفلسطينية لمحة تاريخية

إن المتتبع للنظام القانوني في فلسطين على مر العصور يجد أنه قد اختلف من فترة زمنية إلى أخرى نتيجة للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها؛ بحكم اختلاف السلطات والإدارات التي حكمتها؛ حيث خضعت للخلافة العثمانية فترة من الزمن، فطبقت خلالها التشريعات العثمانية التي تلتها فترة الانتداب البريطاني، الذي أصدر العديد من القوانين والأنظمة والمراسيم، باعتبارها مستعمرة من مستعمرات المملكة المتحدة.

واستمر هذا الوضع حتى جلاء الانتداب البريطاني عن فلسطين عام 1948 وإقامة إسرائيل على أرضها؛ حيث أصدرت إسرائيل التشريعات التي تخدم تكريس احتلالها؛ في حين انقسم الجزء الباقي من فلسطين إلى منطقتين: منطقة أخضعت للإدارة المصرية (قطاع غزة)، ومنطقة أخرى (الضفة الغربية) أخضعت للإدارة الأردنية من عام 1948 حتى عام 1950.  ثم طبقت القوانين الأردنية، حتى عام 1967؛ حيث احتلت إسرائيل البقية الباقية من أرض فلسطين (قطاع غزة والضفة الغربية) وأصدرت الكثير من الأوامر العسكرية التي طالت فيها الكثير من القوانين والأنظمة التي كانت سارية المفعول بالإلغاء والتعديل؛ سعيًا منها لتكريس الاحتلال، وبسط نفوذه على فلسطين.

وعند قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، أصدر الرئيس ياسر عرفات القرار رقم 1 لسنة 1994، باستمرار العمل بالقوانين والأنظمة والأوامر التي كانت سارية المفعول قبل تاريخ الخامس من حزيران لسنة 1967 في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) حتى يتم توحيدها (القوانين).

أولاً : فترة الخلافة العثمانية:

خضعت فلسطين، كباقي الدول العربية، إلى الحكم العثماني فترة من الزمن (قرابة أربعة قرون) أصدرت خلالها الكثير من القوانين لتنظيم الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل الممالك العثمانية.

وكان للتشريع الجزائي أهمية خاصة؛ باعتباره مفتاح الأمن والأمان والعدل والإنصاف؛ كونه ينصب على تحديد المسالك والأفعال المحظورة قانونا،ً ويضع العقوبات المترتبة، عليها ويوضح كيفية استعمال السلطة لكافة الإجراءات بشكل يضمن سلامتها وعدالتها في مواجهة الكافة.

ولقد حرص المشرع العثماني على وضع هذه الصلاحيات بيد جهة أمينة قادرة على أدائها بشكل أمين وسليم، وأحاطها بالضمانات اللازمة لمنع توسعها في استعمال هذا الحق، واعتمد نظام التحقيق الاتهامي المتمثل في إناطة صلاحيات التحقيق والاتهام في الجرائم أمام المحاكم لجهة عمومية يتم تعيين أشخاصها وفقاً للقانون للقيام بوظائفهم.

ومما لا شك فيه أن المواد القانونية التي شملها قانون أصول المحاكمات الجزائية العثماني احتوى على أحكام واضحة لا لبس ولا غموض فيها؛ فنصت المادة الأولى من قانون المحاكمات الجزائية في القانون العثماني على) إن الإدعاء بإجراء المجازاة القانونية على الإطلاق، هو من الحقوق العمومية وعليه فإقامة مثل هذه الدعاوى، ترجع إلى المأمورين الذين عينهم القانون فقط …).

ثانياً : فترة الإنتداب البريطاني :-

بعد أن وضعت الحرب أوزارها وبسطت المملكة المتحدة البريطانية سيطرتها على فلسطين عام 1917، أخضعتها للإدارة العسكرية، حتى صدور صك الانتداب؛ فأصدرت مرسوم دستور فلسطين لسنة 1922 الذي احتوى الفصل الثالث منه على أحكام خاصة بالسلطة التشريعية؛ فنصت المادة (17/1/أ) على: "يكون للمندوب السامي السلطة التامة لوضع القوانين الضرورية لتوطيد الأمن والنظام وانتظام الحكم في فلسطين، بدون إخلال بالسلطات المستقرة في جلالته أو المحتفظ بها لجلالته بمقتضى هذا المرسوم مع مراعاة الشروط والقيود التي تنص عليها التعليمات التي قد يصدرها له جلالته، مختومة بختمه وتوثيقه، أو بواسطة الوزير...".

وقد تعدل بالمراسيم الصادرة في السنوات (1923،1933،1935) ثم ألغيت المواد من 18-34 بالمرسوم المعدل لسنة 1939، والتي تضمنت أحكامًا خاصة بتأليف أعضاء المجلس التشريعي وسلطاتهم وصلاحياتهم في إصدار القوانين.

وأوردت المادة 46 منه على التشاريع الواجب تطبيقها بأن نصت على:

 "تمارس المحاكم النظامية صلاحياتها وفقاً للتشريعات العثمانية التي كانت نافذة في فلسطين في اليوم الأول من شهر تشرين الثاني سنة 1914، وسائر القوانين العثمانية الصادرة بعد ذلك التاريخ، والتي أعلن أو قد يعلن باعلان عام سريانها في فلسطين …".  وعلى ضوء صدور قانون تعديل أصول المرافعات رقم 21 لسنة 1934 أعطى المشرع صلاحية إقامة الإجراءات الجزائية أمام المحاكم بالنائب العام أو ممثله، أو أي مأمور بوليسي أو أي شخص يجيز له أي قانون معمول به إذ ذاك إقامة تلك الإجراءات.  وقد أجاز القانون لأي مأمور بوليس المرافعة في أية إجراءات جزائية متى كانت تلك الإجراءات تحقيقات أولية أو محاكمة جزئية؛ وأجاز أيضاً لأي شخص قدم شكوى أو تهمة بمقتضى أحكام المادة الثالثة من أصول المحاكمات بناءً على الشكيات الإخبارية لسنة 1934 أو بمقتضى المادة الثانية من قانون صلاحية محاكم الصلح لسنة 1924 أن يرافع إما بنفسه أو بواسطة محاميه في الاجراءات القائمة أمام محكمة الصلح بشأن الشكوى أو التهمة المرفوعة منه.

ثالثاً : فترة الإدارة المصرية على قطاع غزة :-

خضع قطاع غزة لمراقبة القوات المصرية عام 1948، وأصدر الحاكم الإداري الأمر رقم 6 لسنة 1948 الذي يقضي باستمرار المحاكم بكافة أنواعها، في المناطق الخاضعة لمراقبة القوات المصرية في أعمالها طبقاً للقوانين واللوائح والأوامر والتعليمات التي كان معمولاً بها قبل 15 مايو سنة 1948.  وقد استمر أداء النيابة العامة أعمالها بنفس النظام الذي كان قائماً زمن الانتداب، حتى صدور الأمر رقم 473 لسنة 1956 عن الحاكم الإداري العام لقطاع غزة، والذي حدد فيه اختصاصات النيابة العامة، بأن نصت المادة الأولى منه على: "تختص النيابة العامة بالتحقيق في الجرائم، ورفع الدعوى الجنائية ومباشرتها؛ وللنائب العام تفويض من يشاء من الموظفين، ورجال البوليس للقيام بأي عمل من أعمال النيابة العامة".

بذلك أصبحت النيابة العامة صاحبة الاختصاص في تحريك ومباشرة الدعوى العمومية، بأن أناط بها صلاحية التحقيق في كافة الجرائم، والادعاء أمام المحاكم في الوقائع الجنائية؛ وخول النائب العام تفويض أي شخص من الموظفين أو مأموري البوليس القيام بأي عمل يدخل ضمن أعمال النيابة العامة (التحقيق  والمرافعة)؛ كما أناط الأمر ذاته في المادة الخامسة منه، بممثلي النائب العام، سلطة إصدار أوامر القبض، والتحري (تفتيش المنازل)، طبقاً لما هو وارد في قانون أصول المحاكمات الجزائية (القبض والتحري)، والتي كانت من اختصاص حاكم الصلح.

ثم صدر الأمر رقم 554 لسنة 1957 الذي أعطى النائب العام ومن يمثله صلاحية التحقيق في الوفيات المشتبه فيها، ومنحه الاختصاصات الواردة في قانون الوفيات المشتبه فيها لسنة 1926، والتي كانت من اختصاص قاضي التحقيق.

رابعًا : فترة السلطة الوطنية الفلسطينية :-

نصت المادة (1) من قانون الإجراءات الجزائية رقم (3) لسنة 2001 على:

"تختص النيابة العامة دون غيرها بإقامة الدعوى الجنائية ومباشرتها؛ ولا تقام من غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون.  ووفق هذا النص، استأثر المشرع الفلسطيني النيابة العامة باستعمال الدعوى الجزائية ومباشرتها نيابة عن المجتمع، ولها المطالبة بتوقيع العقاب على المتهم أمام القضاء الجزائي.