القضاء العشائري في فلسطين

استمد المجتمع الفلسطيني قيمه وعاداته التي شكلت تاريخه المشرف حقب تاريخية سابقة، لكل منها ظروفها الخاصة، ومعطياتها التي تميزها عن غيرها من الحقب. وقد امتزجت هذه القيم في بوتقة واحدة قد تتشابه في بعض جزئياتها مع ما هو في بغض الدول العربية الأخرى نتيجة التاريخ المشترك ووحدة الدين واللغة والقيم، ونتيجة لعلاقات القرابة والنسب. 

ويمر مجتمعنا الفلسطيني بالعديد من مظاهر العنف، والإساءة، والتباغض، والكراهية الطارئة، نتيجة العديد من الظروف التي يزرعها العابثون أو المستهترون أو أصحاب المصالح وأذرع الاحتلال؛ رغم أن البنية الاجتماعية الفلسطينية عبر تاريخها الموغل في القدم تؤكد طبيعة هذا المجتمع السلمية التعاونية المتحابة.  

وقد نسج لنا أجدادنا منذ أقدم الأزمان أسلوب الحياة المناسب لنا والذي يتكفل بحل معضلات الحياة وما يشوبها من غرائب البغضاء والحقد والكراهية؛ فرسم لنا أسس وقواعد القضاء العشائري الذي وقف بلسمًا شافياً للعديد من المشاكل ليضمن استمرار قوتنا ووحدتنا الوطنية، ويوفر أسباب الأمن والاستقرار. 

إنَّ مجتمعنا بشيوخه وشبابه ووجهائه كان على الدوام أبرز أعمدة الاستقرار في مواجهة الأزمات الاجتماعية الداخلية؛ لما يتصفون به من الحكمة والنوايا الصادقة للإصلاح. 

إلى جانب دور القضاء العشائري بقيمه وأعرافه الضابطة ينبغي احترام المحور الآخر الذي يضمن السلم المجتمعي، وهو سيادة القانون؛ فهذان المحوران هما توأمان لا يقوى أي منهما على القيام بدوره بمعزل عن الآخر، لحفظ حقوق الناس وممتلكاتهم. 

إنًّ هذه الثنائية التي تتمثل في دور قيادات المجتمع بموازاة قوة القانون هي السبيل للخروج من دوامة العنف المجتمعي والمشاكل والمعيقات الطارئة التي تهدد الأمن والأمان المجتمعي الفلسطيني. 

إن المزاوجة بين قوة الردع الاجتماعي وقوة القانون تعد صمام الأمان الذي يكفل أمن المجتمع وصونه من ما يتربص به من الأيدي العابثة بأمنه وأمانه. 

ويلجأ العديد من المتخاصمين في فلسطين إلى القضاء العشائري في حل خلافاتهم؛ نتيجة لما يتمتع به من سهولة الإجراءات، وسرعة البت في القضايا، وسرعة الحلول ونجاعتها؛ فضلا عن توفيره درجة عالية من الحماية والأمن للمتخاصمين، بوجود الكفلاء العشائريين؛ كما إنه يوقف التعديات والمشاكل المشتعلة بشكل سريع قد يعجز عنه القضاء النظامي بمفرده؛ إضافة إلى أن القضاء العشائري أثبت نجاعته في معالجة الآثار النفسية ونزع الضغائن الدفينة من نفوس المتخاصمين؛ إذ يعمل على إنهاء الخلافات ماديًا ونفسيًا ومعنويًا؛ مع الإشارة إلى أنه يقوم بدور المكمل والمساند للقضاء المدني. 

وتعدّ نزاهة رجال الإصلاح والقضاء العشائري وكفاءتهم، والأخلاق الحميدة التي يتحلون بها وقدرتهم على الإقناع، أساس استمرار ثقة المواطن في هذا النوع من القضاء.  

لقد نجح القضاء العشائري في كثير من الأحيان في حل قضايا معقدة، لها علاقة بالقتل والعرض والعديد من الظواهر السلبية الخطيرة التي باتت منتشرة في المجتمع الفلسطيني، ولم  يكن يعهدها الفلسطينيون إلا كحالات شاذة ونادرة سابقًا. 

تاريخ القضاء العشائري في فلسطين

فترة الحكم العثماني

تركز القضاء العشائري في هذه المرحلة في منطقة بئر السبع بشكل خاص؛ نتيجة لوجود العشائر البدوية في هذه المنطقة؛ واعتمد القضاة في حل المنازعات المعروضة عليهم على الأعراف والتقاليد المتوارثة. 

 ولم تصدر الدولة العثمانية أي تشريعات لتنظيمه؛ ولكن كان هناك مجلس إدارة متخصص في النظر في النزاعات الواقعة ضمن منطقة بئر السبع، يتولى إدارته شيوخ عشائر بئر السبع. 

فترة الاستعمار البريطاني

أصبح للقضاء العشائري في فترة الانتداب البريطاني أساسًا قانونيًا متينًا؛ حيث صدرت في هذه الفترة مجموعة كبيرة من القوانين التي تنظم القضاء العشائري، وعلى رأسها مرسوم دستور فلسطين لسنة 1922، وخصوصًا المادة (45) منه؛ حيث نصت هذه المادة على أن: " للمندوب السامي أن يشكل بمرسوم محاكم منفصلة لقضاء بئر السبع ولما يستنسبه من المناطق الأخرى؛ ويسوغ لهذه المحاكم أن تطبق العرف المألوف لدى العشائر إلى المدى الذي لا يتنافى فيه مع العدل الطبيعي أو الآداب". 

 غير أن مرسوم دستور فلسطين لم يكن أولى التشريعات التي نظمت القضاء العشائري؛ إذ كان قانون أصول المحاكمات العشائرية الذي تم نشره في الجريدة الرسمية سنة1918  في العدد (9) قد نظم أصول المحاكمات أمام المحاكم العشائرية.  

ومن القوانين التي لها علاقة بالقضاء العشائري والتي تم إصدارها في الحقبة البريطانية "مرسوم تشكيل المحاكم لسنة 1939"، وقانون المحاكم رقم31)) لسنة 1940، و"قانون أصول محاكم العشائر لسنة 1937"، ناهيك عن "قانون منع الجرائم بين العشائر والحمائل رقم (47) لسنة 1935"،  وقانون المخالفات المدنية رقم(36) لسنة  1944.  وقد نشر هذا القانون في العدد (1380) من الجريدة الرسمية لسنة 1944.  

فترة الحكم الأردني والمصري

لم يبق على حاله في الفترة التي خضعت فيها الضفة الغريبة للحكم الأردني، وقطاع غزة للإدارة المصرية؛ فقد تضاربت الأقوال حول وضع القضاء العشائري في فترة الحكم الأردني للضفة الغريبة؛ إذ يرى البعض أن القوانين العشائرية لم تكن مطبقة في تلك الفترة؛ باستثناء العشائر البدوية التي بقيت خاضعة لقانون خاص بها، وهو "قانون الإشراف على البدو لسنة1936؛ أما البعض الآخر فيرى أن القضاء العشائري كان حاضرًا بقوة ومحميًا من الحكومة؛ إلا أن القضاة في تلك الفترة لم يكن يتم تعيينهم كما في فترة الانتداب البريطاني، ولم يتقاضوا رواتب من الحكومة الأردنية؛ بالإضافة إلى أن عدد القضاة والامتيازات الممنوحة لهم كانت قليلة جدًا، مقارنة مع وضعهم في فترة الانتداب البريطاني.  

أما في قطاع غزة فلم تقم الإدارة المصرية بتغيير النظام القانوني الذي كان سائدًا؛ وأبقت على كل القوانين التي كانت سارية زمن الانتداب البريطاني، بما فيها القوانين الخاصة بالقضاء العشائري.

فترة الاحتلال الإسرائيلي

في فترة الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عاد القضاء العشائري وانتشر مرة أخرى؛ خصوصًا بعد أن قاطع الفلسطينيون المحاكم النظامية التي يديرها الاحتلال اعتقادًا منهم أن الجهاز القضائي ليس سوى أداة لتكريس الاحتلال؛ حيث كان يطبق قوانين فرضها المحتل.  
وفي العام 1979، صدر قرار عن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في عمان بتاريخ 22/1/1979 يحمل رقم 924/م/912، بموجبه قرر المجلس  لوطني الفلسطيني تأسيس "الإدارة العامة لشؤون العشائر والإصلاح".

فترة السلطة الوطنية الفلسطينية.

وجدت السلطة الوطنية الفلسطينية أنه لا مجال للاستغناء عن القضاء العشائري، وأنه والقضاء الرسمي يسيران في طريق واحد، لدعم سيادة القانون والوصول للعدالة وإحلال السلم الاجتماعي. فمنذ 14 أيلول 1994، ومع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية، أعيد تشكيل "إدارة شؤون العشائر" بمرسوم رئاسي، نشر في مجلة الوقائع الفلسطينية الرسمية؛ حيث صدر  بتاريخ 9/11/1994 قراراً من  الرئيس ياسر عرفات، يقضى بإنشاء إدارة  شؤون العشائر، بحيث تكون تابعة  لمكتب الرئيس.

وبتاريخ  15/3/2005، تم إلحاق "دائرة شؤون العشائر والإصلاح" بوزارة الداخلية.  وتتولى هذه الدائرة تقديم الخدمات التالية:

1- تلقي الشكاوي من المواطنين حول المشاكل والأمور العشائرية؛ للعمل على حل جميع خلافاتهم، وتوجيه المواطنين إلى جهات الاختصاص،  للمساهمة في حل أي خلاف عشائري أو قانوني.

2- تعمل الإدارة على رقابة ومتابعة كافة لجان الإصلاح،  ورجال العشائر للعمل في إطار القانون والعرف العشائري.

3- تتدخل الإدارة مباشره في عمل أي لجنة أو رجل من رجال العشائر، في حال حدوث أي خرق أو تمادٍ على الحق والقانون.

4- إصدار بطاقات خاصة برجال العشائر والإصلاح؛ لتسهيل عملهم أمام كافة الجهات الرسمية وغير الرسمية.

5- تعمل الإدارة على تطوير القانون العشائري بما يناسب الشرع والقانون. 

6- تعمل "الإدارة العامه لشؤون العشائر والإصلاح" على تشكيل لجان الإصلاح في كافة محافظات الوطن، وتقوم بكل ما من شأنه إحلال السلم الأهلي، والتواؤم بين كافة افرد المجتمع، والتدخل في جميع القضايا والخلافات العشائرية، سواء كانت شخصية أو اجتماعية أو أي خلاف أو إشكال؛ وذلك تماشيًا مع القانون والأعراف العشائرية.