نصّ كلمة رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع للمجلس التشريعي لنيل الثقة بالحكومة التاسعة

الأخ رئيس المجلس التشريعي،

الأخوات والأخوة أعضاء المجلس،

الضيوف الكرام،

السلام عليكم ورحمة الله،  أحييكم أفضل تحية، وأشكر لكم تعاونكم ودعمكم، وأرجو أن يتواصل تعاوننا ودعمكم لنا في هذه الظروف؛ لنتمكن من تحمل المسؤولية الصعبة، التي أُلَقيت مجدداً علينا، وراجياً أن تنال الحكومة التي أتقدم بها إليكم اليوم على ثقة مجلسكم الكريم، للعمل معكم كل في نطاق واجباته؛ لاجتياز هذه المرحلة الدقيقة والصعبة من حياة شعبنا الصامد الصابر، وبلوغ الأهداف التي نتطلع إليها، وفي المقدمة منها إنهاء الاحتلال والاستيطان والجدار، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف على خطّ الرابع من حزيران عام 1967، وحلّ قضية اللاجئين حلاً عادلاً على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 194.

لقد كانت الأسابيع القليلة الماضية، منذ رحيل القائد الخالد ياسر عرفات -رحمه الله- وحتى انتخاب الأخ الرئيس محمود عباس "أبو مازن" رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، وحتى بعد ذلك، أسابيع فلسطينية بامتياز، حافلة بالوقائع والتطورات التي تبعث على الاعتزاز بهذا الشعب، وبمؤسساته وقواه السياسية، عرفنا خلالها كيف نعبر عن احترامناً وإجلالنا وحزننا على رحيل قائدنا الخالد الشهيد ياسر عرفات، وعرفنا خلالها كذلك كيف نواصل المسيرة ونفعل مؤسساتنا، ونرصّ صفوفنا، فاجتزنا جميعاً، وبنجاح غبطنا عليه الأشقاء والأصدقاء، تجربة ملء الفراغ ونقل السلطة بتصميم ويسر شديدين، بدءاً بتنصيب رئيس المجلس التشريعي رئيساً مؤقتاً للسلطة، وإجراء المرحلة الأولى من الانتخابات المحلية بتاريخ 23-12-2004 ، و28-1-2005، وإجراء الانتخابات الرئاسية، في 9-1-2005، وانتخاب الأخ الرئيس محمود عباس "أبو مازن" رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، كان ذلك كله في إطار مشهد ديمقراطي تعددي شقيق، خيـّب فأل كل الذين راهنوا على وقوع فراغ دستوري، واقتتال داخلي، الأمر الذي يدعونا حقاً إلى الفخر بهذه التجربة الديمقراطية، التي منحتنا مزيداً من المنعة والقوة والمضاء والفعالية، على طريق استكمال مشروعنا الوطني الكبير.

وإذ أهنئ شعبنا الفلسطيني كله بنجاحه الذي تحقق خلال هذه المرحلة الصعبة برصّ صفوفه، ووضع القانون الأساسي كله موضع التنفيذ، ونجاح الأخ الرئيس أبو مازن بثقة شعبنا، نؤكد أمامكم أننا سنعمل معكم ومع الأخ الرئيس أبو مازن لاستكمال هذه المسيرة الصعبة، من أجل بلوغ أهدافنا الوطنية الكبرى بالحرية والاستقلال، وتعزيز التقاليد الديمقراطية، وإعادة تعمير الوطن، وفرض سيادة الأمن والقانون ، وتحقيق الحياة الحرة الكريمة لأبناء شعبنا المناضل.

وليس لدي شكّ في أنكم تتفقون معي على أن المهمة التي تنتظرنا جميعاً مهمة ثقيلة وصعبة، وأن الآمال التي يعلقها علينا أبناء شعبنا آمال كبيرة وعريضة، وأن التحديات التي تقف في وجوهنا تحديات صعبةٌُ وشاقةٌ، وفي المقدمة منها التحدي الذي يواجهنا كل ساعة وكل يوم، والذي يتمثل في الاحتلال والاستيطان وجدار الفصل العنصري والحصار والإغلاق، إلا أن لدينا، دون أدنى ريب، الثقة الكاملة بقدرتنا على النهوض بمسؤولياتنا كاملة غير منقوصة، ومواجهة التحديات والمصاعب والمعيقات، بروح وثابة وعزم لا يلين، تماماً على نحو ما تحكيه فصول ملحمة البقاء والصمود والانبعاث الفلسطينية، على مدار العقود الطويلة الماضية.

ودون أن نقلل من وزن كل تلك المعيقات والمصاعب التي يعيد الاحتلال الإسرائيلي إنتاجها على نحو يومي، ومن غير أن نهون من أمر الظروف غير المواتية التي تحيط بنا وبمسيرة عملنا الوطني، فإننا ندرك في الوقت ذاته عمق مسؤولياتنا الذاتية إزاء ما أصاب هذه المسيرة من خلل وإخفاقات، ليست كلها من صنع الاحتلال البغيض، خصوصاً ما اتصل منها بالإدارة الوطنية، وتعلق منها بالرؤية الذاتية، (لا سيما مفردات إعادة البناء والإصلاح، وتحقيق أمن المواطن، وتجويد أداء الأجهزة والإدارات والمؤسسات.

ومن هنا، فإن هذه الحكومة التي أعرضها عليكم اليوم، وبالتعديلات المقترحة لنيل ثقة مجلسكم الكريم، تؤكد على كل تلك الثوابت والمبادئ والمهام التي سبق لحكومتي السابقة أن تعهدت الالتزام بها، لدى تقديم فريقها الوزاري السابق لمجلسكم الموقر، وما زلت مع إعطاء الأولوية والتركيز على القضايا الأساسية الثلاث التي ركز عليها الأخ الرئيس أبو مازن وهي الأمن والإصلاح، والتحضير للانتخابات القادمة:
التشريعية، والمحلية. وتجدد هذه الحكومة أمامكم العهد بمواصلة العمل لتحقيق هذه المهام، بالتعاون الكامل مع الأخ الرئيس ومع مجلسكم الكريم.

وندرك أن المهام التي تنتظرنا جسيمة، وأن طريقنا لبلوغها طويل وشاقّ، وأن ما في أيدينا من مقومات وإمكانيات لهو شحيح، إلا أننا ندرك في الوقت ذاته، أن قدرة شعبنا على العطاء كبيرة وبلا حدود، وأن السنوات الطويلة القاسية التي مرّت بنا علمتنا فنّ البقاء والتكيف والصمود، وزادت من صلابة المعدن الفلسطيني النبيل، ومن قدرتنا على الابتكار والإبداع، الأمر الذي يزيدنا اليوم ثقة، وعلى نحو أعمق من أي وقت مضى، بأننا سوف نجتاز الاختبارات المتبقية أمامنا بنجاح واقتدار، ونحقق الآمال التي اختمرت في صدورنا طويلاً، وألهمتنا كل هذا الصمود الأسطوري، ووضعت أقدامنا على أول الطريق الطويل.

وبناء على ما ورد في خطاب الأخ الرئيس أبو مازن في حفل التنصيب أمام مجلسكم الكريم، لا سيما ما تعلق بتجديد الثقة وتكليفه لي برئاسة الحكومة التي حدد مهامها في ثلاث [ثلاثة] محاور رئيسة هي: الأمن، والإصلاح، والتحضير للانتخابات، فإنني أودّ أن أعرب عن شكري للأخ أبو مازن على ثقته الغالية، وأعبر له ولكم ولأبناء شعبنا عن تصميمنا على العمل بكل جهد ممكن لتحقيق مصالح شعبنا مع التركيز على:

أولاً: تحقيق أمن المواطن، بكل ما يشتمل عليه هذا المفهوم من متطلبات عملية وتدابير وإجراءات قانونية محددة، من منطلق الإدراك التامّ أنه من غير توفر هذا الشرط الأساسي (وأعني به تحقيق الأمن) فإنه لا سبيل أمامنا لمعالجة كل ما يعتور (يعتري) واقعنا الداخلي من مخاطر وأخطاء، إلا بتحقيق الأمن وفرض النظام وسيادة القانون.

من هذا المنطلق، فإن الحكومة ممثلة بوزير داخليتها تتعهد أمامكم، أن تولي الأمن كل اهتمام مخلص وجادّ، وأنها ستتعهد [ستولي] القوى الأمنية الفلسطينية كل رعاية مستطاعة، سواء من ناحية التدريب والتأهيل وإعادة الهيكلة، أو من ناحية تحديد واعتماد الإطار القانوني لعملها، ليصبح عمل المؤسسة الأمنية وعمل كبار قادتها قائماً ومنتظماً وفق قانون واضح، يحدد نطاق المهام والواجبات بكل شفافية، ويوجب المساءلة أمام الأطر التنفيذية المسؤولة وأمام مجلسكم الموقر دون تردد.

وعليه، فإننا نجدد التزام الحكومة أمامكم بالعمل، بكل جهد ممكن، على تحقيق الأمن دون إبطاء، مع التزامنا التامّ بالحفاظ على حرية الرأي والفكر والاجتهاد، وبتجنب أي قتال داخلي أو احتراب، مؤكدين أن الدم الفلسطيني حرامٌ وخطٌ أحمر، ومتمسكين من أول الأمر إلى منتهاه، بوحدانية السلطة وبوحدانية واحترام القانون ومركز اتخاذ القرار الوطني.

ثانياً: إن هذه الحكومة تتعهد أمامكم بأنها ستمضي بخطى أسرع من سابقتها، وبالتعاون معكم ومع الرئاسة ومع القضاء؛ لتفعيل جهاز القضاء ووزارة العدل والنائب العام، وتوفير كل متطلبات قيام هذا المرفق الحيوي، بكل ما هو منوط به من واجبات، وكل ما هو معلق عليه من آمال، [لا] سيما ونحن ندرك جميعاً أنه بدون سلطة قضائية فعالة ومؤهلة، فإنه يستحيل معالجة بواطن الخلل والفساد والفوضى وكل أشكال التعديات، وأنه من غير ذلك لا مجال لفرض القانون والنظام العام، ولا مكان لتنمية اقتصادية أو استقرار اجتماعي؛ الأمر الذي يدفعنا إلى العمل بكل قوة لتعزيز سلطة القضاء، وتوفير الانسجام التام والتنسيق بين وزارة العدل والنائب العام والمجلس الأعلى للقضاء حسب القانون، وتحديد المهام بوضوح دون لبس، بإزالة الغموض من النصوص القانونية، وكذلك بإصدار القوانين اللازمة واعتمادها في أقرب وقت ممكن.

ثالثاً: مواصلة عملية الإصلاح الشامل في كافة المجالات، خاصة منها (المجالات الاقتصادية والمالية والأمنية والإدارة العامة، باعتبارها عملية متواصلة دون انقطاع، بدأتها الحكومات السابقة، وستستمر فيها هذه الحكومة والحكومات اللاحقة بالتعاون التامّ معكم ومع مؤسسات المجتمع المدني).

ونحن اليوم عازمون على المضي قدماً في مسيرة الإصلاح وتنفيذ برنامج الإصلاح الوطني، انطلاقاً من المحاور التي سبق أن حددها الراحل الكبير ياسر عرفات في آخر خطاب له أمام مجلسكم الكريم، واستناداً إلى وثيقة الإصلاح التي كان مجلسكم التشريعي قد صادق عليها عام 2002، وبالمضي قدماً كذلك في تنفيذ الخطة التي أقرتها الحكومة السابقة، وذلك باعتبار أن الإصلاح هو حاجة داخلية فلسطينية ملحة، ومتطلباً أساسياً من متطلبات تعزيز الصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وشرطاً لا بدّ منه لإعادة البناء والإعمار.

رابعاً: التحضير لإجراء الانتخابات التشريعية واستكمال الانتخابات البلدية في مواعيدها المحددة، والإعداد الجيد لها، مع الاستفادة من تجربة الانتخابات الرئاسية والبلدية التي تمت، وبالعمل على تلافي أية أخطاء حدثت خلالها. وذلك بالتعاون معكم ومع الرئاسة ولجنة الانتخابات المركزية.

من هنا فإننا ماضون دون ريب لاستكمال هذه العملية الديمقراطية إلى نهاياتها، واتخاذ كل الإجراءات والتدابير اللازمة لإنجاز هذا الاستحقاق البالغ الحيوية، بكل متطلباته وشروطه، وفي طليعتها عناصر الشفافية والنزاهة، كي نجدد للمؤسسة التشريعية شرعيتها، وكي نفتح طريق المشاركة واسعاً أمام الأجيال الشابة، وإرساء تقاليد تداول السلطة والمسؤولية، على النحو الذي يلبي آمال هذا الشعب، ويلامس تطلعاته في تكريس تجربة ديمقراطية فلسطينية تحاكي أرفع ما لدى المجتمعات الديمقراطية من أعراف.

الأخوات والأخوة، واليوم، ونحن نقف على أعتاب مرحلة هامة وخطيرة تتطلب منا جميعاً بذل الجهود المضاعفة، وإظهار الإرادة القوية، وتحمل المسؤوليات الوطنية بكل أمانة وإخلاص وجدية، فإن هذه الحكومة التي نأمل أن تحظى بثقتكم ومساندتكم، تجدد العهد أمامكم وأمام أبناء شعبنا، أنها ستلتزم بتحقيق المهام المحددة لها، وخاصة في مجال الأمن والإصلاح، وبالاهتمام كذلك بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبطالة المستشرية، والتحضير للانتخابات التشريعية المقبلة، لإجرائها في أجواء من الحرية والنزاهة والشفافية.

ولا يفوتني وأنا أعرض على مجلسكم الكريم أعضاء الفريق الوزاري لنيل ثقة مجلسكم الكريم، أن أنوه عالياً بالجهود الحثيثة التي بذلها الأخ الرئيس أبو مازن وما يزال يبذلها بحرص ودأب شديدين، وفي مقدمتها الحرص على الحوار مع مختلف القوى والفصائل والفعاليات الوطنية، لتصليب جبهتنا الداخلية من جهة، وتعزيز قدرة السلطة الوطنية من جهة ثانية، على النهوض بمسؤولياتها الجسيمة في هذه المرحلة بقوة واقتدار.

وأنوه على وجه خاص بإصرار الأخ أبو مازن على إنجاح الحوار الداخلي، وتمكينه من توحيد الموقف الوطني في مواجهة أهمّ استحقاقات  هذه المرحلة، وأعني بذلك تحقيق التهدئة التي فتحت الطريق أمام إعلان وقف متبادل لإطلاق النار، وكف يد إسرائيل عن مواصلة العدوان علينا، مع ما لحق ذلك من إجراءات بناء ثقة، تقوم بموجبها الحكومة الإسرائيلية بالإفراج عن أسرانا جميعا،ً وتشكيل لجنة مشتركة فلسطينية إسرائيلية لتحديد المعايير الواجبة الإتباع بالإفراج عن أسرانا الأبطال، والانسحاب من المناطق السيادية الفلسطينية، ورفع الحواجز، وتسليم رفات عدد من الشهداء الأبرار، ووقف المطاردات ضدّ إخوتنا المناضلين وعودة المبعدين.

أيها الأخوة أشكركم جميعاً، وأتوجه من على منبر مجلسنا التشريعي بالتحية والتقدير والوفاء لأبناء شعبنا الفلسطيني البطل في داخل الوطن وخارجه، كما أتوجه بالتحية والتقدير إلى أسرانا الأبطال، ونعاهدهم أن تظلّ قضية حريتهم وعودتهم إلينا سالمين غانمين، تحتل الأولوية في سلم اهتماماتنا الوطنية.

وكل التحية وكل التقدير والإجلال إلى شهدائنا الأبرار، أبطال الحرية والاستقلال، يتقدمهم القائد الخالد الرمز الشهيد ياسر عرفات أبو عمار، الذي سنظلّ أوفياء له وللمبادئ التي ضحى من أجلها.

التاريخ: 20 آذار/ مارس 2005