الاستيطان الرعوي

في سباق محموم مع الزمن تسعى سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحكوماتها المتعاقبة منذ عام 1967 لنهب الأراضي الفلسطينية وبسط سيطرتها عليها، عبر العديد من الوسائل والأساليب، وتسخر كل إمكانياتها لتحقيق ذلك، وتقدّم عبر قنوات رسميّة وغير رسميّة الكثير من الامتيازات والمحفّزات للمستوطنين ومستوطناتهم، وبرز في السنوات الأخيرة أسلوب مصادرة الأراضي لصالح رعاة المستوطنات، وهو اسلوب قديم إلا أن تغييرا جوهريا قد طرأ على مدار السنوات القليلة الماضية في حجم هذه الظاهرة، والتي تعد من أكبر الوسائل التي تستخدمها إسرائيل لسرقة الأراضي الفلسطينية بمساحات واسعة وبتكاليف أقل.

 تنتشر البؤر الرعوية الاستيطانية في جميع الأرضي الفلسطينية وتتركز في المناطق القريبة من المستوطنات ومنطقة الأغور الممتدة من طوباس شمالًا وحتى مسافر يطا في الجنوب.

وحسب "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان" في بيانها لمناسبة ذكري "يوم الأرض" في نهاية آذار 2023: يوجد 83 بؤرة زراعية رعوية تسيطر على أكثر من 270 ألف دونم (يتمركز معظمها في الأغوار والسفوح الشرقية)، بما يعادل ثلاثة أضعاف مساحة المستعمرات القائمة.

تبدأ البؤر الرعوية، بأن يُحضر المستوطن ماشيته وأبقاره ويختار موقعاً يكون قريباً من مصادر المياه، ليقيم عليه بيت وحظيرة؛ وبالتالي يسيطر على المكان ويستغل المراعي المحيطة به لأبقاره ومواشيه؛ ثم يبدأ مسلسل طرد المزارعين والرعاة الفلسطينين من المنطقة بقوة السلاح، وتسارع بدورها سلطات الاحتلال الإسرائيلي (الجيش، وزارة الزراعة، وزارة الاستيطان ...ألخ) إلى  توفير الأمن والهِبات الماليّة والمساعدات المتعلّقة بالبُنى التحتيّة لهذه البؤر، على وجه السرعة، في تقاسم واضح للأدوار في مصادرة الأرض وتضييق الخناق على حياة الفلسطينيين، لإرغامهم على الرحيل، وفتح المجال لبناء بؤرة استيطانية سرعان ما تتحول إلى مستوطنة في المكان.

وتقف حركة "أمانا" المتطرفة وراء أقامة البؤر الرعوية الاستيطانية، وتلعب جماعة "فتيان التلال" دورًا واضحًا في التنفيذ؛ إذ يتنقلون بقطعانهم من منطقة لأخرى بعد تثبيت بؤرهم الاستيطانية، والتي غالبًا ما تبتلع آلاف الدونمات من حقول المزارعين الفلسطينيين، وتحولها لخراب ودمار وساحات عنف مفتوحة ضد الفلسطينيين، كخطوة استباقيّة لغرض تشييد مستوطنات جديدة؛ ففي السنوات العشر الأخيرة، تحولت بؤر الرعاة إلى النوع الأكثر شيوعاً من بين البؤر الاستيطانية في الضفة.  

وحسب تقرير لمنظمة "ييش دين" الإسرائيلية أنشأ المستوطنون بين عامي 2017 و2021 نحو 35 مزرعة ماشية وصادر الاحتلال لصالحها مئات آلاف الدونمات لصالح رعاة هذه المواشي؛ فتمت السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية واستخدمت مراعي لقطعان الماشية؛ ما أدى إلى حرمان الفلسطينيين من الوصول إليها وسرقة مقدراتها المائية بالقوة، بحماية وغطاء من قبل سلطات الاحتلال التي توفر لهم والبنى التحتية والدعم المالي.

وحسب تقرير لمنظمة "كيرم نبوت" بعنوان " قطعان المستوطنين الرعي والنهب الإسرائيلي في الضفة الغربية في أيار 2022 ": تبلغ مساحة الأراضي التي استولى عليها المستوطنون بواسطة الرعي نحو 7% من مجمل مساحة مناطق C.

وفقًأ لتقرير "رعاة في مراعي غيرهم" لمنظمة " ييش دين" في أيار 2022: "إنّ مزارع المَواشي تشكّل أداة بيد إسرائيل لإحداث تغيير كبير وبعيد الأمد على خارطة الاستيطان الإسرائيليّة في الأراضي المُحتلّة. وتُلحق هذه السّياسة الإسرائيليّة انتهاكًا جسيمًا وواسعًا لحقوق الإنسان المكفولة للفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، وتؤدّي إلى عمليات طرد على خلفيّة إثنيّة، وسلب أراضي الكثير من الجماعات الفلسطينيّة".

وينسجم الاستيطان الرعوي ويتكامل مع سياسة سلطات الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى بسط سيطرتها على المناطقc  وفي مقدمتها منطقة الأغوار، إذ تنتشر العديد من البؤر الاستيطانية الرعوية فيها. ويقول سكرتير الحركة الاستيطانية المتطرفة "أمانا" (زئيف حفير): "المزارع الاستيطانية الرعوية وسيلة أكثر نجاعة من البؤر التي تعتمد البناء الاستيطاني التقليدي؛ فبعد مضي 50 سنة استطعنا السيطرة على 100 كيلو متر مربع من مساحة الضفة الغربية، بينما سيطرت المزارع الرعوية الاستيطانية في فترة قصيرة على أكثر من ضعف هذه المساحة"

وبحسب أحدث التقارير الواردة المتعلقة في هذا الموضوع، فإن الحكومة الإسرائيلية تعمل على دفع ودعم المجتمعات الرعوية الصغيرة للمستوطنين بالانتقال من مناطقها إلى مناطق أوسع، وبالتالي تقليص المساحة المعيشية للفلسطينيين بالضفة. وتكشف التقارير بأنه تم بمساعدة من الحكومة الإسرائيلية، تم إنشاء نحو 150 مزرعة رعوية في السنوات الأخيرة، العشرات منها منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية في شرين الأول من العام 2023. ويشمل العدد فروعًا صغيرة، وهي نوع من الفروع الفرعية، التي نشأت من المزارع القديمة.

وبالمجمل فقد سيطر المستوطنون حتى شهر نيسان 2025 على مساحة قدرها 786 ألف دونم، أي ما يعادل 14% من أراضي الضفة الغربية. وبحسب التقارير، فإن الاستيلاء لا يتم فقط من خلال وجود المستوطنين في المنطقة، بل نتاج هجمات ومضايقات متكررة، وتثبت هذه الطريقة فعاليتها عند رؤية المنازل والشقق المدمرة على جانبي الطريق، أثناء التحرك من منطقة مستوطنة ريمونيم قرب رام الله باتجاه أريحا، وقد أدى ذلك حتى الآن إلى طرد أكثر من 60 تجمعًا رعويًا فلسطينيًا.

وتكشف التقارير عن مدى عمق التدخل الحكومي الإسرائيلي في إنشاء مزارع رعوية استيطانية بدءًا من عقود تخصيص الأراضي للرعي التي تمنحها إدارة الاستيطان، وصولاً إلى الميزانيات المتدفقة من مختلف الوزارات الحكومية. وتتضمن الموازنة الإسرائيلية العامة التي تم إقرارها في الكنيست بشهر آذار 2025 بندًا صغيرًا، ينص على رفع ميزانية وزارة الاستيطان التي تقودها الوزيرة المتطرفة أوريت ستروك، من 123 مليون إلى 391 مليون شيكل، أي بزيادة قدرها 320%.  كما تمول وزارة الزراعة الإسرائيلية تحت بند "منح المراعي" تلك المزارع الاستيطانية، وخلال الفترة ما بين 2017 حتى 2024، حولت ما يقارب 3 ملايين شيكل لهذه المزارع، فيما استثمر الصندوق القومي اليهودي فيها ما يقارب 4.7 مليون شيكل، بتمويل من المتطوعين، بمعنى أن الشعب الإسرائيلي بأكمله يمول هذه المزارع الاستيطانية التي تهدف بشكل أساسي الى تهجير الفلسطينيين من ديارهم واقتلاعهم منها بشتى الطرق.

مزارع استيطانية رعوية في الضفة الغربية