بسم الله الرحمن الرحيم
(وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)
أخي رفيق الدرب الطويل الرئيس ياسر عرفات،
رئيس الدولة، رئيس منظمة التحرير، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية،
أخي أحمد قريع رئيس المجلس التشريعي،
الأخوات والأخوة أعضاء المجلس التشريعي،
الأخوات والأخوة أعضاء السلك الدبلوماسي، أيها الضيوف الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يملؤني الشعور بالثقة والاعتزاز وأنا أقف أمام مجلسنا التشريعي المنتخب، أحد التعبيرات السيادية لشعبنا، والمرجعية الدستورية للحكومة، والذي يشكل أعضاؤه المنتخبون جزء لا يتجزأ من مجلسنا الوطني، وحاضنة نظامنا السياسي، منظمة التحرير الفلسطينية.
ومن هذا المكان، أبدأ حديثي بتوجيه تحية إجلال وإكبار لشعبنا الفلسطيني في كل مدينة وقرية ومخيم، داخل الوطن وفي الشتات، شعبنا الصامد المكافح، الذي نعتز بالانتماء إليه ونفخر بكبريائه الذي لا حدود له، وعطائه المتواصل عبر الأجيال، والذي تجسد بمئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين، والذي حمى هويته الوطنية، رغم كل محاولات التزييف والإلغاء، وصان حقوقه غير القابلة للتصرف، وأقام سلطته الوطنية على الأرض كمقدمة حتمية لقيام دولته المستقلة العتيدة، وعاصمتها القدس الشريف بإذن الله، شعبنا الذي صمد في انتفاضته الباسلة أمام العدوان الإسرائيلي على مدى العامين والنصف الماضيين، على الرغم من القتل والتدمير في جنين ومخيميها البطل ونابلس وطولكرم، وقلقيلية، والخليل وكافة مدننا وقرانا ومخيماتنا، والتدمير في الضفة الصامدة ورفح وخانيونس ودير البلح وغزة وبيت حانون وجباليا وكافة أرجاء قطاعنا الباسل وأخص هنا بالذكر؛ الأسرى والعائلات التي قدمت الشهداء والجرحى والأسرى والتي عانت على المستوى الشخصي، بالإضافة إلى مشاركتها شعبنا كله في معاناته العامة. إن أي إنجاز فلسطيني وطني يظل منسوباً لتضحيات هؤلاء الأبطال وعطاء أسرهم وشعبهم ووطنهم.
إن هذا الشعب المبدع المليء بالطاقات والإمكانات المميزة، أضحى في نظر العالم بأسره جديراً بدولة حقيقية ذات سيادة، مثل سائر الشعوب والدول: دولة عصرية ديمقراطية، تكون بيتاً آمناً للفلسطينيين، وشريكاً فعالاً وبنّاءً في تكريس الأمن والاستقرار في المنطقة، وما أراه من ضمن مسؤوليات الحكومة؛ هو الإعداد الجدي لاستكمال بناء أساسات هذه الدولة، بما في ذلك الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية، على أساس القانون الانتخابي الذي نأمل من مجلسكم الموقر الانتهاء منه في أسرع وقت ممكن.
السيد الرئيس،
أيتها الأخوات، أيها الإخوة،
إن جذر معاناتنا ومبعث الألم الدائم في حياتنا، هو الاحتلال وسياسته القمعية البغيضة. إن رسالتنا الوطنية التي نلتزم بها جميعاً هي إزالة الاحتلال بكل أشكاله ومظاهره، وهذا يتطلب أول ما يتطلب، بذل جهدنا الأساسي لترتيب أوضاعنا الداخلية، ملتزمين في ذلك بأحكام القانون الأساسي الذي وضعه المجلس التشريعي، وأصدره الرئيس ياسر عرفات. وتتعهد الحكومة بالسهر على تطبيق هذا القانون، على كل هياكل وإطارات السلطة الوطنية؛ كي لا نرى أي خروج عنه، وأي مظاهر فوضى في المجتمع، ذلك أن طريقة تطبيقنا للقانون الأساسي هي الصورة الواقعية لمصداقية جدارتنا بالدولة والامتثال لدستورها، وحكومتنا لن تتساهل مع كل من يحاول تجاوز هذا القانون.
إن الحكومة تدرك أن ترتيب وضعنا الداخلي لا يمكن أن يتم على أفضل وجه، دون التزام جماعي بمبدأ سيادة القانون. وسيادة القانون لن تكون ذات مغزى فعلي وتطبيقي دون وجود قضاء مستقل فاعل ونزيه، ومؤسسات قانونية فاعلة، ووزارة عدل تدعم استقلال القضاء والعملية التشريعية، وأداة تنفيذية قادرة على فرض الأحكام.
وتتعهد الحكومة بالعمل جنباً إلى جنب مع السيد الرئيس والمجلس التشريعي لإعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى، وفق أحكام قانون استقلال القضاء، وكذلك تطوير أوضاع المحاكم، وسد كافة الثغرات المزمنة في إمكانياتها وقدراتها على أداء عملها على أكمل وجه، كما تلتزم الحكومة بالعمل على إعداد مشروعات القوانين واللوائح اللازمة لاستكمال البناء القانوني للسلطة الوطنية.
إن مؤسسة القضاء هي الوجه الحقيقي لأي مجتمع، وهي المؤشر الأدق على مستواه الحضاري، ووتيرة تطوره وتقدمه، وسنوليها جل اهتمامنا.
السيد الرئيس،
السيدات والسادة،
إن الحكومة ستولي الأمن اهتماماً مركزاً، ومفهومنا للأمن أنه أمن المواطن الفلسطيني وأمانه في وطنه، وهو أمن الوطن الفلسطيني، عبر شعور المجتمع بكافة شرائحه، بزوال أي تهديد لحياة الإنسان وحريته وممتلكاته.
وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الحكومة ستعمل بدأب، على تطوير بنى وهيكليات المؤسسات والأجهزة الأمنية، وفق اللوائح والقوانين المنظمة لهذا الأمر. وستولي اهتماماً خاصاً بالكفاءة المهنية لقادة ومنتسبي الأجهزة الأمنية، ولن تتهاون في أمر الانضباط والامتثال الكامل للقوانين، إن الحكومة لن تسمح بل ستضع الضوابط الصارمة لعدم تدخل الأجهزة الأمنية في حياة المواطنين وشؤونهم وأعمالهم، إلا وفق ما يحدده القانون، وسوف تنطلق الحكومة في عملها على هذا الصعيد، مما أنجزته الحكومات السابقة من ترتيبات في مجال تنظيم عمل وصلاحيات ومسؤوليات أجهزة الأمن، تلك الترتيبات التي منحت وزير الداخلية صلاحيات واسعة في مجال الأمن ووفرت له إمكانيات فعلية لضبط الأوضاع وتطوير الأداء.
إن الحكومة تدرك أن شعور المواطن بالأمن والأمان هو أحد أهم مقومات الصمود الوطني، وأحد أهم شروط النمو والتطور في نواحي حياة الفرد والمجتمع كافة، لذا؛ فإن إنهاء مظاهر فوضى السلاح بما تحمله من تهديد مباشر لأمن المواطنين، ستكون إحدى مهماتنا الأساسية التي لم نتهاون في تنفيذها، فلا وجود لسلاح غير السلاح الشرعي الذي سيستخدم فقط لحفظ الأمن والنظام العام وتطبيق القانون، ولا وجود لمراكز قرار غير مركز القرار الشرعي، فعلى هذه الأرض ولهذا الشعب سلطة واحدة، وقانون واحد، وقرار وطني ديمقراطي يلزم الجميع.
وهنا، يجب أن لا يفهم من هذا التوجه أننا سنسمح لأي طرف كان، وتحت أي تفسير أو تبرير، بالمساس بحق المواطن في التعبير واختيار اجتهاد فكري أو سياسي معين، وممارسة هذا الاجتهاد بكل حرية، وضمن ما يكفله القانون، كما ولن نسمح لأي كان بالمساس بأي من حقوق الإنسان التي كفلها القانون الأساسي والمواثيق الدولية.
إن الحكومة تدرك أهمية وحيوية المعارضة في الساحة الفلسطينية وتدرك كذلك حق هذه المعارضة في التطلع إلى السلطة وتداولها، ولكي نوفر أفضل السبل لذلك؛ فإننا ندعو فصائل وقوى المعارضة إلى تطوير إطاراتها ومؤسساتها وحواراتها، وإلى التوقف عن لغة التحريض والتعبئة السلبية، وإلى استغلال الصحافة الحرة والمساحات المحددة في القانون لممارسة وحواراتها وطرح وجهات نظرها. كما ندعو شرائح وقطاعات المجتمع الفلسطيني إلى الاستفادة من قانون الأحزاب في إنعاش الحياة السياسية الداخلية وتطوير فعالياتها. وأكرر هنا أن حكومتنا ستكون مع التعددية السياسية في إطار الوحدة الوطنية، تحت سقف القانون، ولكن ضد التعددية الأمنية.
وفي هذا الإطار؛ نضع أقدامنا على الطريق الأسلم والأكثر حداثة وفاعلية لترسيخ الوئام الداخلي، وضمان حقوق القوى والأحزاب والفعاليات في الوجود والعمل.
ومن هنا أناشد الجميع المشاركة في انتخابات المؤسسات التمثيلية بما في ذلك النقابات، وخاصة وإننا اخترنا الانتخابات كوسيلة لا تراجع عنها في تكوين هذه المؤسسات وتفعيلها.
السيد الرئيس،
السيدات والسادة أعضاء المجلس التشريعي،
إن الحكومة تدرك حجم المعاناة والضائقة الاقتصادية التي يرزح شعبنا تحتها؛ نتيجة استمرار وتصعيد الإجراءات الإسرائيلية، من ارتفاع معدل الفقر ومستويات البطالة، وتراجع المؤشرات الاقتصادية. وفي ظل الدمار الهائل الذي أوقعه الاحتلال في بنيتنا التحتية، وفي ممتلكات مواطنينا ومصادر رزقهم. وتدرك كذلك أن المواطن الفلسطيني تواق لرؤية نافذة أمل للتخلص من هذه المعاناة وتأثيرها المدمر على الحياة، لذا؛ فإن الحكومة تتعهد بالعمل الحثيث لمعالجة الوضع الاقتصادي عن طريق اتخاذ الإجراءات السريعة اللازمة، ضمن إمكانياتها لتحسين ظروف المعيشة، خاصة للعاطلين عن العمل وغيرهم من الفئات التي تعيش في ظروف بالغة الصعوبة، إلى حين استكمال قانون للتكافل الاجتماعي.
كما ستعمل الحكومة على إعادة بناء البنية التحتية التي دمرها الاحتلال، وضمن هذا الإطار؛ تلتزم الحكومة أمامكم بالقيام بحملة عالمية لجمع التعويضات، عن الدمار الاقتصادي الذي أحدثه البطش الإسرائيلي توغلاً وقتلاً وخراباً، وستعمل الحكومة على وضع خطة تنموية شاملة على المستوى الوطني، والقدس في المقدمة، خطة تولي القطاع الاقتصادي ما يستحق من الاهتمام، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية والإعلامية والثقافية والزراعية اللازمة للمواطنين، ويجري تنفيذها ومتابعتها بكل مهنية وشفافية، وفي هذا السياق، ستحرص الحكومة على استمرار التواصل مع القطاع الخاص، وسن وتفعيل التشريعات والأنظمة؛ لتقوية نظام اقتصاد السوق وتطوير الاقتصاد الوطني وحماية الاستثمار والمستثمرين. وكذلك، فإن الحكومة ستولي اهتماماً أكيداً بوضع المرأة الفلسطينية المناضلة، نصف المجتمع الفلسطيني، وصاحبة الدور الأساسي والفعال في حياتنا، كما ستتابع العمل على حماية حقوق الطفل والعائلة، وتطوير قطاع الشباب؛ لضمان مستقبل أفضل لشعبنا.
وفيما يتصل بالموضوع المالي، فإن الحكومة تلتزم باستمرار العمل على تطبيق السياسة المالية الجديدة التي قدمها لكم وزير المالية عبر قانون الموازنة، وكافة الإجراءات والترتيبات التي تعهد بها أمامكم، مع التأكيد مجدداً على المضي قدماً في تنظيم استثمارات السلطة، والتي ستخضع تماماً للإشراف الحكومي والرقابة الدائمة، بحيث يتم توحيد كافة موارد السلطة الوطنية ضمن وزارة المالية، بما يتفق مع أفضل المنهجيات المعتمدة الدولية في إدارة المال العام.
ولن تسمح الحكومة باستغلال النفوذ الوظيفي في ممارسة التجارة والاستثمار، وستضع الضوابط الصارمة للحد من ذلك.
إن المال العام هو حق للمواطن والوطن، وصيانته واجب وطني وأخلاقي، يؤدى من خلال المؤسسة والقانون والشفافية والمتابعة الدؤوبة.
وفي هذا السياق، لن تتوانى الحكومة عن إحالة المتهمين بالفساد وسوء استخدام المال العام إلى النيابة العامة، معتمدين في ذلك على الحقائق المثبتة والآليات النزيهة الموصلة إليها.
إن الحكومة على استعداد لتلقي الشكاوى وما يتوفر من قرائن وإثباتات في هذا المجال، لتحال وبشكل قانوني إلى الجهات المختصة.
إن الحكومة وهي تدرك حجم الخلل في بنائنا الإداري، لتدرك بالمقابل ضرورة عدم التباطؤ في معالجته، ولذلك؛ ستستمر في تنفيذ وتطوير خطة الإصلاح (وعلى وجه الخصوص خطة الإصلاح التي تبناها المجلس التشريعي) وذلك عبر لجنة مشتركة بين المجلس والحكومة، وبالتعاون مع جميع مؤسسات المجتمع المدني. وستقوم الحكومة ببناء مؤسسة مجلس الوزراء، وإرساء أساليب عمل عصرية وتقاليد وقيم عمل تنهض بالمهام في جميع مؤسسات السلطة التنفيذية خدمة للمواطنين والمصلحة العامة، ولعل الخطوة الأهم في سياق المعالجة، وهذا هو العمل بقانون الخدمة المدنية بشقيه المالي والإداري، وكذلك تطمين جموع الموظفين الذين جاوز عددهم مئة وعشرين ألفاً إلى حاضرهم ومستقبلهم، وإلى أن هناك راتباً تقاعدياً كافياً ينتظرهم بعد نهاية الخدمة من خلال نظام تقاعدي شامل سيتم العمل بموجبه خلال الأشهر القليلة القادمة. إن الحكومة لن تسمح بتكريس أي مظهر من مظاهر الفوضى والهدر والازدواجية في بنائنا الإداري، وعليه ستقوم بمتابعة العمل على إعادة هيكلية الوزارات والمؤسسات والهيئات الحكومية ودمج أو إلغاء ما يلزم لتمكينها من القيام بمهامها في خدمة الوطن والمواطن على أكمل وجه، كل ذلك في إطار قانون إداري عصري شامل، تعمل الحكومة على إنجازه لتنظيم جميع مناحي عمل السلطة التنفيذية.
السيد الرئيس،
أيتها السيدات والسادة أعضاء المجلس،
لقد تعمدت بدء بيان الحكومة أمامكم برؤيتنا للوضع الداخلي، ومحاور اهتمامنا ومعالجتنا لقضاياه.
وهذه الرسالة نبعث بها إلى المواطن الفلسطيني، الذي يتطلع لرؤية عملية إصلاحية واسعة في كل النواحي التي تتصل بحياته وحقوقه. غير أن الوضع الداخلي لا ينفصل عن الواقع السياسي الذي نعيش ونواجه، وهو واقع جعله الاحتلال الإسرائيلي البغيض وسياسته القمعية والاستيطانية شديد القسوة والألم.
ومرة أخرى أجدد القول أن الاحتلال العسكري والاستيطاني وممارساته من اغتيالات واعتقالات وحواجز وحصار وتدمير للبيوت والممتلكات -هو جذر معاناتنا، وهو السبب الرئيس في تفاقم مشاكلنا، وتعميق عذاباتنا، وتعطيل وتيرة نمونا، لذا؛ فإن التخلص من الاحتلال بكافة أشكاله، ومن على جميع الأراضي التي احتلت عام 1967، بما فيها عاصمتها الأبدية القدس الشريف، هو المهمة الوطنية الأولى التي تتطلب تضافر وتكاثف جميع القوى الفلسطينية لإنجازها تحت قيادة منظمة التحرير، المرجعية الوحيدة لشعبنا، وصاحبة شرعية النطق باسم هذا الشعب والتفاوض نيابة عنه، وإبرام الاتفاقات بتخويل من مؤسساتها الرئيسة.
إن الحكومة، التي هي جزء من نظامنا السياسي الوطني، نظام منظمة التحرير، ملتزمة تمام الالتزام ببرنامج وقرارات مجلسينا الوطني والمركزي على الصعيد السياسي والاستراتيجي. إن النضالات الشعبية والثورية المجيدة التي خاضها شعبنا الفلسطيني عبر عقود وأجيال، والتي نعيش الآن إحدى محطاتها المفصلية، ينبغي أن تكون رصيداً يترجم إلى إنجازات سياسية تقربنا من الهدف، وتمكنا من إقامة دولتنا المستقلة، وتوفر إمكانية فعلية لحل قضية اللاجئين على أساس الشرعية الدولية.
وانطلاقاً من فهمنا الواقعي والعملي لمضامين وآليات وأهداف كفاحنا الوطني، فقد قاتل شعبنا بشرف مثلما اتخذ مبادرات سياسية بكل الوعي والجدية. إن لكل وسيلة وقتها وآلياتها ومردودها المحسوب. وانطلاقاً من ذلك، تقدم شعبنا الفلسطيني وعبر قيادته الشرعية بمبادرات سلام جدية واحدة تلو الأخرى، ولم يتردد شعبنا في طرح خيار السلام كخيار استراتيجي لا رجعة عنه، وإذا كانت عملية السلام قد منيت بانتكاسات جوهرية وانهيارات كبرى، أوصلتنا إلى ما نعيشه الآن من صراع دامٍ ومرير، إلا أن ما نحن فيه يجب ألا يدفعنا إلى اليأس من مزايا السلام ومن جدوى الوسائل السلمية لتحقيقه، وإلى عدم إدارة الظهر للمبادرات العربية والدولية الهادفة إلى إعادة المحاولة من أجل تحقيقه، شريطة الاستفادة من الدروس والعبر التي أفرزتها مرحلة السلام وتعثرها.
وأمامنا الآن مبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت، والتي جسدت إجماعاً قومياً على ضرورة حل مسألة الصراع العربي الإسرائيلي بالطرق السلمية، ووفق قرارات الشرعية الدولية، بما يضمن نقل منطقتنا كاملة من حالة الصراع إلى حالة الاستقرار والعلاقات الطبيعية بين كافة الدول. وأمامنا كذلك خارطة الطريق، كخطة دولية تهدف إلى بلوغ حل دائم ونهائي للقضية الفلسطينية. إن الحكومة تلتزم بما التزمت به القيادة الفلسطينية، حين أعلنت مواقفها الرسمية على هذه الخطة، بعد دراستها بكل تمعن وتدقيق، غير أنني أود الإشارة إلى بعض الأمور المتعلقة بهذا الشأن:
يحاول الجانب الإسرائيلي تحويل خارطة الطريق، بنصها الذي أطلعنا عليه، إلى مجال صراع تفاوضي مرير ومعقد عن طريق إرسال إشارات واضحة تحدد فهمه الخاص لبنود هذه الخطة، وطريقته الخاصة في التعاطي معها.
إن تعاملنا مع خارطة الطريق لن يتأثر بالإشارات الإسرائيلية، ولن نقبل طرحها للتفاوض، فخارطة الطريق هي للتنفيذ وليس للتفاوض، لذا؛ فإن الحكومة تدعم إصرار القيادة الفلسطينية على عدم القبول بما وصف بالتعديلات الإسرائيلية، وتدعو اللجنة الرباعية صاحبة الخطة إلى الإسراع في إعلانها، كما اطلعنا عليها، وضمان تنفيذ بنودها والتحقق من ذلك وفق التسلسل الموضوعي والزمني لها، على أن تكون آليات التنفيذ والرقابة فاعلة ومضمونة.
وفي هذا السياق، فإن الحكومة تجدد التعهد الفلسطيني بتنفيذ كافة الالتزامات المترتبة علينا في إطار هذه الخطة، سواء على الصعيد السياسي أو الأمني، وبديهي أن نصر بالمقابل على التزام الطرف الإسرائيلي بما يترتب عليه.
غير أن كل ما تقدم لن يكون ذا مغزى مع استمرار سياسة فرض الأمر الواقع، فإن الاستيطان الذي يخالف الشرائع والقوانين الدولية، كان ولا يزال التهديد الأكبر أمام إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية، وبالتالي، فإن الاستيطان هو العقبة الأساسية لأي عملية سلمية. وبشكل خاص، فإن الاستيطان في القدس وما حولها وهدم البيوت ومصادرة الأراضي والممتلكات والتضييق اقتصادياً واجتماعياً وإدارياً وثقافياً على حياة الفلسطينيين فيها، بما يشكله ذلك من محاولة الحل الدائم في هذه المدينة المقدسة بطريق غير طريق المفاوضات، لن يؤدي إلا إلى إذكاء نار الصراع وقتل فرص السلام.
وجاء البدء بإقامة ما يسمى بالجدار العازل استمراراً نوعياً خطيراً للمشروع الاستيطاني؛ فبالإضافة إلى مصادرة أراضي المواطنين الفلسطينيين وقطع أرزاقهم، فإن الإجراء الإسرائيلي بما يتضمنه من ضم مساحات واسعة من الأراضي ومصادرة مياهنا الجوفية وعزل مدننا وقرانا وتطويق مدينة القدس، إنما هو محاولة أخرى لتدمير فرص السلام وقتل أية إمكانية للتوصل إلى حل دائم ومقبول للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسيكون إلغاء هذا المخطط في مقدمة المسائل التي سوف تتعامل معها حكومتنا لأنه بدون هذا الإلغاء سوف تقضي الحكومة الإسرائيلية عملياً على خارطة الطريق وأية مشاريع سلام أخرى.
وهنا أود توجيه كلمة خاصة للشعب الإسرائيلي وقواه الاجتماعية والسياسية وإلى الحكومة الإسرائيلية، كلمة مباشرة وصريحة: إننا نريد سلاماً معكم، ومن خلال المفاوضات، على أساس الشرعية الدولية؛ لتنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و338، والاتفاقات الموقعة. إننا نرفض الإرهاب من أي طرف كان وبكافة صوره وأشكاله؛ انسجاماً مع تقاليدنا الأخلاقية والدينية، وليقين منا بأن هذه الأساليب لا تنصر قضية عادلة كقضيتنا، بل تدمرها، ولا توصل إلى السلام الذي ننشده جميعاً. إننا نفهم السلام على أنه رسالة ووعي وسلوك، أساسه الرغبة المتبادلة فيه، ومضمونه الإقرار بالحقوق، وغايته العيش بأمن وسلام على قاعدة التكافؤ.
إننا إذ نمد يد السلام إليكم، فإننا نؤكد أن السلام لن يتم مع استمرار الاستيطان، ولن يكون ممكناً من خلال التوسع وضم الأراضي. إن الخيار لكم: إما سلام حقيقي دون استيطان أو استمرار الاحتلال والقهر والكراهية والصراع.
ولكي يكون خطابنا واضحاً، فإن الشعب الفلسطيني لن يقبل بأقل من ممارسة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، دولة حقيقية متصلة الأجزاء خالية من الاستيطان على جميع الأراضي التي احتلت عام 1967.
وإنني على يقين من أنكم تدركون مكانة وموقع قضية اللاجئين ليس فقط في مجال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما كذلك على الصعيدين العربي والإقليمي؛ لأننا نتحدث عن ملايين الفلسطينيين اللاجئين في جميع أنحاء العالم. وإدراككم لهذه القضية، هو الذي دفعكم لقبول مبدأ وضعها على جدول أعمال قضايا الوضع الدائم. لذا؛ فإن حلاً عادلاً ومتفقاً عليه ومنصفاً ومقبولاً للاجئين، يطبق قرارات الشرعية وخاصة القرار 194- سيكون أحد أسس السلام الدائم بيننا والتعايش المأمول في المستقبل. تلك هي أسس الحل في مفهومنا، وليس مقدور أحد أن يفرط في أحدها.
وإلى الجماهير العربية داخل إسرائيل، أهلنا وأحبائنا، أتوجه إليكم بتحية الإجلال والتقدير لما تبذلونه من دعم متواصل لأبناء شعبكم في الأراضي المحتلة، وإنني لعلى يقين بأنكم ستستمرون في ممارسة دوركم الإيجابي ضمن الأحزاب والإعلام والمؤسسات المدنية الشعبية لدعم توجهات السلام، ولخلق رأي عام إسرائيلي يشاطرنا التزامنا بحل سياسي عادل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة. إننا لا نتجاهل عذابات اليهود عبر التاريخ، وبالمقابل إننا نتطلع إلى أن لا يدير الإسرائيليون ظهورهم لعذابات الفلسطينيين التي لا جدال في أن التهجير والاحتلال والاستيطان والقمع المتواصل هو أبلغ تعبيراتها ومظاهرها.
وللحكومة الإسرائيلية أقول: (وبعد أن وجهت لنا النصيحة باستخلاص العبر مما حدث في العراق ...)
إن الشعب الفلسطيني هو الذي يختار قيادته، وقيادته تقرر سياسته على أساس قرار فلسطيني مستقل، وشرعيتنا نستمدها من إرادة شعبنا المتمثلة في المؤسسات الوطنية.
إن من يحتاج إلى استخلاص العبر من الحروب وويلاتها هو من لا يزال يظن أو يعتقد بأن الآلة العسكرية كفيلة بفرض الحلول السياسية، وإن التهديد المباشر والمبطن، كفيل بثني الشعوب عن المطالبة بحقوقها. أقول وأؤكد: لا يوجد حل عسكري للصراع، فشعبنا يقبل ويرحب بالسلام للجميع والأمن للجميع والتقدم للجميع، السلام الذي يضمن انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة الأخرى، ووفق قرارات الشرعية الدولية. لقد سمعنا منكم الكثير عن رغبتكم في السلام، ولكننا رأينا منكم الحصار والاغتيال والتوغل والتدمير واستمرار الاستيطان، نرجو أن تترجم أقوالكم إلى أفعال.
السيد الرئيس،
أيتها السيدات، أيها السادة،
إن قلوبنا تمتلئ حزناً وألماً لما حل بأهلنا في العراق، ولما أصاب شعباً شقيقاً لم تحل المسافات بينه وبين الشهادة على أرض فلسطين، نرجو لأخوتنا في العراق استقرار الأمور وإنهاء الاحتلال الأجنبي لهذا البلد الشقيق، والبدء بإعادة إعمار بلدهم في القريب العاجل في ظل حكومة عراقية تعبر عن إرادة هذا الشعب العريق وتمثله. إننا نفهم ما حل بالعراق على أنه تعبير عن سياسة جديدة وصريحة تجاه الشرق الأوسط يقودها تفرد القطب الواحد، لإعادة رسم حدود الخريطة السياسية للمنطقة بأسرها، وعبثاً استثناء فلسطين من تطوراتها العاصفة، كما أنه ليس واقعياً عدم التخوف من تفاعلاتها وتأثيراتها على وضع شعبنا وقضيتنا. إن مواجهة هذا التحول الخطير لا تتم بلغة الشعارات والطروحات الحماسية، بل بمنطق سليم ووعي للمصالح الوطنية العليا وكيفية صيانتها، ونحن في قلب عاصفة عاتية، كيف نجنب شعبنا الخسارة أو نقلل من حجمها، وكيف نوفر إمكانيات واقعية وعملية للتقدم نحو الهدف.
أيتها الأخوات أيها الإخوة،
إن طريق المفاوضات هو خيارنا، واستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، تحت رعاية ومتابعة اللجنة الرباعية (التي نقدر جهودها) (وبالتنسيق الوثيق مع الأشقاء في مصر والأردن والسعودية) هو مطلب فلسطيني ثابت. وخلال مسيرة المفاوضات الطويلة، كانت هناك ملاحظات على أدائنا التفاوضي، إلا أن هذه الملاحظات لا تلغي حقيقة تراكم تجربة غنية يجدر الإفادة منها. لذا؛ فإن الحكومة ستعمل جنباً إلى جنب مع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واللجنة العليا للمفاوضات التي تنبثق عنها، وبتوجيه من الرئيس ياسر عرفات، رئيس الدولة، والمنظمة والسلطة لتصويب أدائنا عبر إعادة ترتيب هيكلية إطارنا التفاوضي، وتوفير إمكانية تفرغ فريق مفاوض لهذه المهمة الكبرى والحساسة والحيوية.
وإنني إذ أشكر الأشقاء العرب على دعمهم الثابت والمتواصل لشعبنا وقضيتنا، لأؤكد التزام الحكومة المطلق ببعدها العربي وبميثاق جامعة الدول العربية وقراراتها، وبالعمل لاستمرار التنسيق والتعاون مع الأشقاء نحو تأكيد الإجماع العربي.
إن الحكومة ستكون حريصة على متابعة وتطوير علاقتنا الإستراتيجية مع باقي الأصدقاء في العالم، الذين نشكرهم على دعمهم ونشاطرهم الالتزام بعلاقات دولية متوازنة، قائمة على احترام القانون الدولي والشرعية الدولية وقراراتها، كما وندعو مجلس الأمن الدولي لتحمل مسؤولياته في حفظ الأمن والسلام في منطقتنا، وتأمين تنفيذ قراراته بعيداً عن ازدواجية المعايير، لحماية شعبنا ومساعدته على نيل استقلاله وحريته.
السيد الرئيس،
أيتها الأخوات أيها الإخوة،
إنني اشغل موقعاً يستحدث لأول مرة في فلسطين. وقد سمعت وقرأت الكثير من الاجتهادات والتفسيرات والرهانات على هذا الموقع وما يراد منه. وهنا أحب أن أضع النقاط على الحروف بشكل جلي لا يحتمل أي التباس.
إن رئيس الوزراء كموقع وبصرف النظر عن شاغله، وكذلك مجلس الوزراء والمجلس التشريعي وكافة مؤسسات السلطة الوطنية، هي جزء لا يتجزأ من النظام السياسي الفلسطيني وإطاره منظمة التحرير. إنه موقع دستوري أقرته جميع مؤسساتنا الوطنية، وهو في الجوهر محاولة جدية لتطوير أداء سلطتنا الوطنية والإعداد لبناء الدولة بما في ذلك التحضير للانتخابات القادمة، بعد زوال العقبات التي يضعها الاحتلال لتكريس نظام سياسي ديمقراطي. إنه موقع سأعمل من خلاله وباستخدام كافة الصلاحيات التي يمنحها القانوني الأساسي لهذا المنصب- لتطبيق برنامج حكومتي الذي عرضته على مجلسكم الموقر.
وأنهي خطابي بتوجيه كلمة إلى أخي ورفيق دربي الرئيس المنتخب ياسر عرفات:
إن الحكومة يا سيادة الرئيس هي حكومتكم وإن وجودكم داخل هذا الحصار هو محاصرة لكل معاني الصمود الإباء والكبرياء في شعبنا العظيم، إننا لن نتوانى ومنذ اللحظة عن العمل الجدي والمواظب ومع جميع الأطراف المعنية لإنهاء هذا الوضع الشاذ والمرفوض، فمن حق رئيس هذا الشعب وقائد مسيرته وصانع السلام باسمه أن يسترد حقه البديهي في الحرية والحركة دون قيود.
ونعلم سيادة الرئيس إنك تفخر دوماً بقربك إلى درجة الاندماج بمعاناة شعبك، لذا فإن الحكومة وتحت قيادتكم لن تأل جهداً في العمل على إطلاق سراح جميع المعتقلين الأبطال الشرفاء لدى الاحتلال، والذين زاد عددهم عن عشرة آلاف معتقل وأسير، وفي مقدمتهم عضوا اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عبد الرحيم ملوح، وتيسير خالد، وعضو المجلس المركزي ركاد سالم، وعضوا المجلس التشريعي مروان البرغوثي وحسام خضر، وشيخ المعتقلين في سجون إسرائيل أحمد جبارة "أبو السكر".
إننا كلنا في الوطن وفي كل مكان إن اختلفت مواقعنا فلن تختلف مواقفنا، وإن اختلفت مسمياتنا فلن تختلف التزاماتنا، وإن اختلفت مهماتنا فلن تختلف أهدافنا.
أخواتي إخوتي أعضاء المجلس،
وقبل أن أقدم إليكم أعضاء الحكومة؛ أود أن أتحدث لكم بصراحة وموضوعية عن ما يجول في خاطري، وعن الاعتبارات التي ساهمت في تشكيل الحكومة، إن التركيبة التي اقترحها عليكم، هي محصلة الواقع السياسي بكل سلبياته وإيجابياته، وأعلم أن هنالك ملاحظات كثيرة حول الأسماء والحقائب وحول التوازن والكفاءة والاختصاص، غير أن هذا هو ما استطعت التوصل إليه بعد مشاورات، وبعد الأخذ بالاعتبارات الداخلية التي تعلمونها. إنني أطلب ثقتكم ودعمكم وتعاونكم لأن كل ما تقدم يعتمد في تطبيقه السليم والفعال على تضافر جهود الجميع.
إن مصداقية الحكومة ترتبط بمصداقية وفعالية الأداء. وبذات القدر الذي أطلب فيه الثقة، فإنني أطالب المجلس باستخدام صلاحياته وبالحدود القصوى في المسائلة والمراقبة، هذا هو قانون الحياة البرلمانية، فلنمضي به قدماً وإلى الأمام بإذن الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.