عمدت الصهيونية منذ القدم، وسلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية احتلالها إلى استخدام كافة السبل والسياسات التي تستهدف السيطرة على كافة المقدرات التي حباها الله لفلسطين، بأرضها وبحرها وجوها وحجرها وبشرها وشجرها ومائها، ولم تستثن أمرًا دون محاولة فرض ساديتها عليه، بحكم القوة ومساندة القوى والدول التي تؤيد قهر الشعوب واستغلالها، دون رادع من ضمير أو أخلاق، متجاوزة كل محظور، وغير آبهة لأية ردود. وقد طالت هذه السياسة تاريخ هذه الأرض، واستهدفت شواهدها التاريخية الضاربة جذورها في عمق التاريخ لنزع الشرعية التاريخية التي سطرتها أيدي أجدادنا القدماء عبر فترات الزمن الراحل، والتي تثبت أن أرض فلسطين هي عربية فلسطينية بلا منازع؛ فاستهدفت المواقع الأثرية التاريخية التي تنتشر في كل أنحاء الوطن من أقصاه إلى أقصاه؛ فعمدت إلى تزوير الحقائق، واجتهدت في البحث عن آثار توراتية لفقتها أكف قاداتها الدينية لإثبات أي صلة تربط اليهود بهذه الأرض؛ فسخرت حكوماتها المتعاقبة موازنات ضخمة لتنفيذ مخططات تزور وجه الأرض، وتلقن باطنها بالأباطيل التوراتية والادعاءات المكذوبة؛ فأخفت الآثار التي تتناقض مع الروايات والأساطير الصهيونية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن سياسة استهداف الآثار الفلسطينية ليست جديدة العهد بل بدأت منذ أوائل القرن الماضي عندما تم تأسيس "جمعية أبحاث أرض إسرائيل" عام 1913 لهذا الغرض.
حسب وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بلع عدد المواقع الأثرية الرئيسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، 944 موقعًا؛ وعدد المعالم الأثرية 10 آلاف معلم أثري؛ وهناك ما يزيد عن 350 نواة لمدينة وقرية تاريخية تضم ما يزيد عن 60 ألف مبنى تاريخيًا.
وقد اتبعت سلطات الاحتلال صورًا وأشكالًا وأساليبَ عدة في استهدافها المواقع والآثار التاريخية، من أبرزها الآتي:
أولاً: السيطرة: تسعى سلطات الاحتلال جاهدة لبسط سيطرتها مكانيًا وزمانيًا على العديد من المواقع الأثرية الدينية والتاريخية في جميع المحافظات الفلسطينية، وفي مقدمتها القدس المحتلة، من خلال استخدام القوة العسكرية أحيانًا؛ وبالتحايل والتزوير أحيانًا؛ وبالتهويد في أحيانٍ أخرى. ونستعرض هنا بعض الأمثلة لا على سبيل الحصر:
احتلت إسرائيل في حزيران 1967 مدينة القدس الشرقية، وفرضت سيطرتها عليها بما فيها البلدة القديمة؛ وبدأت بتهويد كل ما تحويه من معالم أثرية دينية وتاريخية، وفي مقدمتها الحرم القدسي الشريف، بالسيطرة على حائط البراق، ووضع الخطط لتهويد المسجد الأقصى وتقسيمه زمانيًا ومكانيًا. ولعل إغلاق بوابات المسجد الأقصى في نهاية عام 2017 وفتح المجال واسعًا لاقتحامات المستوطنين اليومية، تأتي في هذا السياق. وقد شكلت العديد من المنظمات الإسرائيلية لتحقيق هذا الهدف، وفي مقدمتها منظمات الهيكل المزعوم، بالإضافة إلى شبكة الحفريات التي تجريها سلطات الاحتلال أسفل المسجد الأقصى، والتي تهدد بانهياره.
قسمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل؛ واقتطعت جزءًا منه للمستوطنين، في أعقاب اقتحام المستوطن باروخ غولدشتاين في 25 شباط 1994 الحرم خلال الركعة الثانية من صلاة الفجر، وإطلاقه النار والقنابل نحو المصلين ليستشهد 29 فلسطينيًا، ويجرح العشرات، ولتندلع مواجهات خارج المكان، سقط فيها نحو 30 شهيدًا. وجاء التقسيم بناء على قرار لجنة التحقيق الإسرائيلية "شمغار" بتقسيم المسجد، وتحويل الجزء الأكبر منه إلى كنيس لتبسط سلطات الحتلال سيطرتها على نحو 60% من مساحة الحرم لصالح المستوطنين؛ إضافة لتضييق الخناق على الجزء الآخر باجراءات عسكرية وصلت حد منع رفع الآذان لأكثر من 50 مرة في الشهر الواحد.
سيطرت سلطات الاحتلال عقب احتلالها للضفّة الغربيّة بعد حرب 1967 على مسجد بلال هو بناء ديني مملوكي/ عثماني يقع على الطريق الواصل بين القدس والخليل بالقرب من المدخل الشمالي لمدينة بيت لحم، يُنسب المسجد إلى الصحابي بلال بن رباح؛ وينسبه الاحتلال إلى راحيل زوجة النبي يعقوب ووالدة النبي يوسف؛ فعزلتها عن محيطها الفلسطيني، وأحاطتها بالأسوار والأبراج العسكرية، وأغلقت شارع القدس الخليل، وأبقتها خارج المناطق الفلسطينية بعد إقامة الجدار الفاصل بين القدس وبيت لحم. وفي 21 شباط/ فبراير 2010 أصدرت الحكومة الإسرائيلية قرارًا يقضي بإدراج موقعيّ قبة راحيل والحرم الإبراهيمي في الخليل ضمن قائمة التراث القومي اليهودي؛ إلاّ أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في تشرين الأول 2010، أصدرت قرارًا أكدّت فيه أن الحرم القدسي الشريف والحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم هي أماكن إسلامية وجزء من التراث الإسلامي في فلسطين.
سارعت سلطات الاحتلال بعد أيام من احتلالها لمدينة القدس عام 1967 ببسط سيطرتها على المتحف الفلسطيني ومحتوياته الأثرية؛ وتم الحاقه بدائرة الآثار الإسرائيلية. ويضم المتحف مكتب رئيس سلطة آثار الاحتلال. وهو متحف أثري مشهور في الكتابات الغربية باسم "متحف روكفلر"، يقع في نهاية شارع السلطان سليمان القانوني في القدس، ويضم مجموعة كبيرة من القطع الأثرية المكتشفة من الحفريات التي أجريت في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني ما بين العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. تم إفتتاحه في عام 1938 ليكون أحد أقدم متاحف الآثار في الشرق الأوسط.
سيطر الاحتلال الإسرئيلي على قلعة القدس التي تقع في الجهة الشمالية الغربية للبلدة القديمة، وفيها نجد بقايا أثرية من كل الفترات التاريخية سواء كانت هيروديانية، هيلينية، إسلامية أموية، أيوبية ومملوكية، وعثمانية؛ وحولها إلى متحف أسماه "متحف قلعة داود لتاريخ القدس"؛ وفيه يتم تقديم تاريخ المدينة المقدسة للزوار بمنظور إسرائيلي بحت، بطريقة مزورة عبر أحدث الوسائل الإلكترونية.
سيطرت دائرة حماية السياحة الإسرائيلية منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967على قلعة الفريديس التي تقع على بعد 6 كم جنوب شرق مدينة بيت لحم، على طريق التعامرة بيت ساحور، وأجرت بداخلها عمليات تنقيب واسعة؛ وحولتها إلى مزار سياحي تستغله لدعم مزاعم الاحتلال وتأويلاته حول الوجود اليهودي في فلسطين. وهذه القلعة بناها هيرودوس الكبير ذو الأصول الآدومية عام 22 قبل الميلاد في العهد الروماني؛ لتكون حصنًا آمنًا من أي غزو خارجي.
ثانيًا: التدمير: تعمل سلطات الاحتلال بمختلف أذرعها على طمس العديد من المعالم الأثرية الدينية والتاريخية العربية والإسلامية في جميع المحافظات الفلسطينية؛ وعلى وجه الخصوص بمدينة القدس المحتلة؛ وتحديدا في بلدتها القديمة ومحيطها، ويحاول بكل الوسائل إضفاء طابع يهودي تلمودي مكانها. ونستعرض هنا بعض بعض المواقع على سبيل المثال لا الحصر:
شرعت جرافات الاحتلال في العاشر من حزيران 1967 وحتى الثالث عشر منه بهدم حارة المغاربة في البلدة القديمة في مدينة القدس، الملاصقة للمسجد الأقصى من الجهة الجنوبية الغربية، والتي شيدت في العهد الأيوبي والمملوكي والعثماني، لتزيل 135 أثرًا، ومن جملة هذه الآثار: المدرسة الأفضلية، ومزار الشيخ عبد، وزاوية المغاربة، وتشرد قرابة 150 عائلة فلسطينية كانوا يسكنونها تم إخلاؤهم بالقوة، ليصبح مكان الحارة ساحة يؤدي فيها اليهود طقوسًا دينية عند الحائط الغربي للمسجد الأقصى.
أقدم دينيس مايكل، وهو يهودي متطرف يحمل الجنسية الأسترالية- في 21 آب 1969 على إشعال النار في الجناح الشرقي للمسجد الأقصى، حيث أتت النيران على كامل محتويات الجناح بما في ذلك منبره التاريخي المعروف باسم "منبر صلاح الدين"؛ كما هدد الحريق قبة المسجد الأثرية المصنوعة من الفضة الخالصة.
ومن ضمن المعالم التي أتت عليها النيران: مسجد عمر الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية، ويمثل ذكرى دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مدينة القدس وفتحها؛ إضافة إلى تخريب محراب زكريا المجاور لمسجد عمر؛ ومقام الأربعين المجاور لمحراب زكريا؛ وثلاثة أروقة من أصل سبعة أروقة ممتدة من الجنوب إلى الشمال مع الأعمدة والأقواس والزخرفة، وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق، وعمودان مع القوس الحجري الكبير بينهما تحت قبة المسجد، و74 نافذة خشبية وغيرها.
كما تضررت أجزاء من القبة الداخلية المزخرفة والجدران الجنوبية، وتحطمت 48 نافدة في المسجد مصنوعة من الجبص والزجاج الملون، واحترقت الكثير من الزخارف والآيات القرآنية.
وفي نفس اليوم الذي تم فيه إحراق المسجد قطع الإسرائيليون في بلدية القدس الماء عن المسجد الأقصى المبارك؛ كي لا يستعمله المواطنون في إطفاء الحريق؛ كما إن سيارات الإطفاء الإسرائيلية من بلدية القدس حضرت متأخرة، بعد أن اطفأ الأهالي المقدسيون جميع النيران، ولم تفعل شيئًا، بل جاءت لكي تصورها وكالات التلفزيون والصحافة العالمية لتوهم العالم أنها أدت واجبها.
دمرت جرافات سلطات الاحتلال في 27 شباط 2015 موقع "خربه أم الجمال" وهي موقع أثري يعود إلى الفترة الرومانية، يقع على أراضي بلدة العيزرية شرق القدس المحتلة. وقد دمرت اليات الاحتلال مجموعة من المعالم الأثرية من ضمنها بقايا مبنى أثري ومقابر وآبار ومعاصر وجدران أثرية.
تدمير قوات الاحتلال الإسرائيلي مطلع شهر كانون الثاني 2018 موقعًا أثريًا عربىًا قديمًا يقع على تلة ويعرف بإسم "النبى زكريا" شمال مدينة القدس المحتلة.
هدمت جرافات الاحتلال في 9 كانون الثاني 2011 مبنى فندق شيبرد التاريخي في حي الشيخ جراح بمدينة القدس، وكان الفندق يستخدمه مفتي فلسطين الراحل الحاج أمين الحسيني مقراً له. وجاءت عملية الهدم بهدف تشييد 20 وحدة استيطانية في المكان.
دمرت طائرات الاحتلال الحربية خلال حربها على قطاع غزة عام 2014 بشكل كلي "مسجد المحكمة ومسجد الظفر دمري في منطقة الشجاعية شرق مدينة غزة، والذي يعود تاريخ تأسيسهما إلى العصر المملوكي؛ ومقام خليل الرحمن في منطقة عبسان الذي أسس في العصر المملوكي، ويعد أحد أهم المقاصد الصوفية قديماً؛ ومقام الخضر في مدينة دير البلح جنوب قطاع غزة، والذي يعود للعصر اليوناني حسب النقوش والنصوص التي وجدت على اللوحة التأسيسية للمكان"؛ كما دمرت بشكل جزئي "المسجد العمري في جباليا، وهو رمز من رموز الحضارة المملوكية؛ وموقع البلاخية الأثري المعروف باسم "ميناء الأنثيدون" والذي أسس واشتهر في العهد اليوناني؛ وبيت السقا الأثري، وتل المنطار، ومسجد السيد هاشم في غزة؛ وموقع تل السكن في مدينة الزهراء؛ وسوق مازن شرقي خانيونس؛ وموقع الفخاري الأثري".
خلال انتفاضة الأقصى منذ عام 2000 هدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي العديد من المباني التاريخية، باستخدام القنابل والصواريخ والجرافات، عندما شنت سلسة من الاجتياحات على مختلف المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية؛ وظهر ذلك بكل وضوح في اجتياحات البلدات القديمة لمدن نابلس والخليل، وحصار كنيسة المهد في بيت لحم، عندما دمرت مئات المنازل والقصور التاريخية وبيوت العبادة الإسلامية والمسيحية التي تحمل بين طياتها ملامح العمارة الفلسطينية وأصالتها.
وهذا ينسجم مع ما قاله مؤسس الحركة الصهيونية (ثيودور هيرتزل): "إذا حصلنا يومًا على القدس وكنت لا أزال حيًا وقادرًا على القيام بأي شيء فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسًا لدى اليهود فيها، وسوف أحرق الآثار التي مر عليها قرونًا".
ثالثًا: السرقة: من أخطر أشكال عمليات استهداف المواقع الأثرية والتاريخية التي تمارسها سلطات الاحتلال وأذرعها عمليات سرقة الأثار ونقلها على رؤوس الأشهاد من مواقعها الفلسطينية إلى متاحف إسرائيلية أو إلى أماكن تقع تحت السيطرة الإسرائيلية في داخل أراضي 1948؛ كما تمت سرقة الكثير من الآثار عن طريق عصابات تنقيب وسرقة الآثار، مقابل مبالغ مالية؛ ما شجع على استفحال هذه الظاهرة في المجتمع الفلسطيني. وتقول دائرة الآثار الفلسطينية أن نحو 100 ألف قطعة أثرية فلسطينية تُهرَّب إلى إسرائيل سنوياً.
إنّ عمليّات سرقة الآثار من فلسطين ليست بالجديدة؛ فقد بدأت منذ احتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غّزة في عام 1967، وإنّ العديد من المواقع الأثريّة نهبت؛ ففي عام 2015 قدّر حجم المضبوطات التي دخلت إلى سجلّات وزارة السياحة والآثار تقريباً بـ20 ألف قطعة؛ بينما انخفض الرقم في عام 2016 إلى 2400 قطعة، ومعظمها من مناطق "سي".
وفي السياق لا تدخر سلطات الاحتلال الإسرائيلي جهدًا إلا وتعمل على استغلاله في سرقة الآثار الفلسطينية وخاصة النفائس منها، ففي شهر تموز 2020 أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على سرقة حجر حوض المعمودية الأثري من بلدة تقوع في محافظة بيت لحم، والذي يعود للفترة البيزنطية، ويحوي رسومًا وكتابات قديمة وصلبانًا محفورة يعود عمرها لأكثر من 1600 عام، والحجر يزن حوالي 8 طن، يسمى جرن العماد مصنوع من الحجر الوردي، وكان يستخدم في العهد القديم لتعميد الأطفال المسيحيين.
رابعًا: التهويد: تسعى سلطات الاحتلال جاهدة إلى تهويد الأماكن الأثرية، من خلال عدة أساليب تعتمد على نسج القصص وإطلاق الروايات المزيفة حول تاريخ تلك الآثار القديمة؛ بهدف نسبتها لها، ومنها: مقام يوسف في نابلس، ومقامات بلدة عورتا، ومقامات بلدة كفل حارس، وآثار سبسطية. وفي هذا السياق: أصدر الاحتلال عام 2002 قائمة تضم 150 موقعًا أثريًا، منها 35 موقعًا في الضفة الغربية، اعتبرتها مواقع ذات قيمة "قومية"، وضمن التراث اليهودي.
خامسًا: الاستثمار سياحي: سلطات الاحتلال تستثمر المواقع الأثرية التاريخية والدينية لتغرق خزينتها بالأموال الصعبة على حساب المقدرات الفلسطينية؛ إذ إن شركات السياحة الإسرائيلية تنظم الرحلات للسياح إلى الأماكن الأثرية الدينية والتاريخية الفلسطينية، وتجني العائد؛ وتحرم الفلسطينيين من حقوقهم في استثمار مواردهم؛ وفي مقدمتها مواقعهم الأثرية الدينية والتاريخية.
قالت منظمة العفو الدولية في 31 كانون الثاني 2019 في تقرير لها تحت عنوان "الوجهة: الاحتلال": إن الحكومة الإسرائيلية تستخدم قطاع السياحة المتنامي في المستوطنات كوسيلة لإضفاء الصفة القانونية على وجودها وتوسعها. وشركات حجز أماكن الإقامة والرحلات عبر الإنترنت تساير هذا المخطط. وقد حان الوقت لكي تدافع هذه الشركات عن حقوق الإنسان وتعززها، بأن تسحب جميع القوائم المدرجة على موقعها العائدة إلى المستوطنات غير القانونية القائمة على أراضٍ محتلة؛ فجرائم الحرب ليست عنصراً للجذب السياحي.
وتشير إحصاءات الجهات الرسمية في إسرائيل إلى أن عددًا قياسيًا من السياح بلغ 4.12 مليونًا زاروا إسرائيل في 2018، فأضافوا 5.8 مليار دولار إلى الخزينة العامة الإسرائيلية؛ بينما أظهرت الإحصائيات ورصد "أمنستي" أن 4 مليون سائح زاروا إسرائيل خلال العام 2018، وأن45% منهم زاروا الضفة الغربية المحتلة والمرافق السياحية في المستوطنات التي تدار من قبل جمعيات استيطانية مدعومة من الحكومة الإسرائيلية التي تقدم تسهيلات وإعفاءات للشركات السياحية العالمية التي تشجع السياح بالمستوطنات؛ علما بأن معظم المناطق الأثرية الدينية والتاريخية، والتي تمثل عنصر الجذب السياحي الأول تتركز في الأراضي المحتلة.
سادسًا: عزل ومنع وصول وضم: سياسة عزل المواقع الأثرية الدينية والتاريخية إحدى الوسائل التي تستخدمها سلطات الاحتلال في بسط سيطرتها على هذه الأماكن. وتتم هذه السياسة بواسطة الأحزمة الاستيطانية، والشوارع الالتفافية، ومن خلال جدار الفصل العنصري والمناطق العسكرية المغلقة. وحسب وزارة السياحة الفلسطينية، يقع 450 موقعًا أثريًا داخل المستوطنات المبنية في الضفة الغربية. ويقدر خبراء فلسطينيون عدد المواقع والمعالم الأثرية التي أصبحت تقع خلف الجدار، بنحو 1185؛ إلى جانب عدد كبير من الخرب والبيوت التاريخية، ونستعرض الأمثلة على ذلك على النحو الآتي:
-عزلت سلطات الاحتلال على قرية دير سمعان الأثرية الواقعة بين أراضي دير بلوط وكفر الديك غرب سلفيت، والبالغ مساحتها 3 دونمات على الأقل؛ وذلك من خلال تطويقها بحزام استيطاني بثلاث مستوطنات (عالي زهاف، وبيدوئيل، وليشم الجديدة)؛ وشارعين التفافيين. وعمدت سلطات الاحتلال إلى تحويل القرية لمزار سياحي؛ حيث تضم الآبار، والقبور، وطواحين المياه، وبرك المياه، ومعاصر الزيتون والعنب، وساعة شمسية، ومرابط الخيل؛ إضافة للأحواض، والكنيسة، والأرض المرصعة بالفسيفساء الملونة بالأخضر والأزرق والأصفر والبرتقالي. وتمنع سلطات الاحتلال الفلسطينيين من وصول القرية الأثرية بهدف تهويدها، في محاولة لطمس الهوية الثقافية والحضارية الفلسطينية للمكان.
عزلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تل الرميدة الأثري الذي يقع غرب المسجد الإبراهيمي الشريف، في قلب مدينة الخليل؛ ويعتبر مركز أول تجمع بشري في المدينة في العصر البرونزي القديم (3200 – 2000 ق.م.) حيث سكنها العرب الكنعانيون.أقامت سلطات الاحتلال 1984 مستوطنة على جزء من تل الرميدة؛ أما دائرة الآثار الإسرائيلية فشرعت بأعمال حفريات كان آخرها عام 1914؛ بهدف تزوير الحقائق لتناسب روايات توراتية؛ لذلك افتتحت 16 تشرين الثاني 2018 حديقة أثرية تلمودية في المكان؛ علمًا بأن تل الرميدة محمية حسب قرار اليونسيكو في تموز 2017 الذي اعتبر البلدة القديمة والمسجد الإبراهيمي والمناطق المحيطة بها مناطق تراثية فلسطينية يجب حمايتها.
عزلت سلطات الاحتلال خربة سالون التاريخية التي تقع إلى الجنوب من قرية قريوت، ومنعت الأهالي من وصولها؛ وتبلغ مساحتها 330 دونمًا، ومنعت الوصول إليها؛ حيث وضعت سلطة الآثار الإسرائيلية اليد عليها في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وهي منطقة غنية بكنوز أثرية ترجع لحضارات مختلفة من العهد البيزنطي والكنعاني والعربي والإسلامي.
تم البدء بحفر الموقع من قبل بعثات آثار دولية مختلفة خلال القرن الـ 20 "السنوات 1926-1932" وخاصة البعثة الدنمركية، في السنوات 1981-1984. كانت جامعة بار إيلان الإسرائيلية هي التي تجري الحفريات؛ ومنذ العام 2010، تجري جامعة مستوطنة "أريئيل"، وضابط الأثريات في "الإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي حفريات أثرية باستمرار. ولم يعثر في المكان على أي آثار يهودية؛ بل تم زرع آثار ورموز يهودية وتوراتية في المكان؛ فيما طمست الكثير من الآثار والإسلامية والمسيحية. وفي عام 2013 جرى تدشين برج سينمائي يروي للسياح القصة اليهودية والتاريخ المزور عن سيلون والتي أصبحت جزءًا من مستوطنة شيلو.
منع ترميم: في الوقت الذي تضخ سلطات الاحتلال الموازنات المالية الضخمة من أجل عمليات التنقيب والحفريات تحت الأرض في مدينة القدس، وخاصة أسفل المسجد الأقصى المبارك والتي تبعها حدوث تصدعات وانهيارات- تمنع إسرائيل الجهات الفلسطينية المعنية من إجراء عمليات الترميم الضرورية للآثار المقدسة الإسلامية والمسيحية، بل وتعتقل وتحتجز كل من يحاول ذلك؛ كما حدث ويحدث مع العاملين في الأوقاف الإسلامية ولجنة إعمار المسجد الأقصى؛ ومن الأمثلة على اتباع ذات السياسة مع المقدسات المسيحية، منع ترميم دير السلطان بالقوة واحتجاز واعتقال بعض القائمين على ذلك. كما يمنع العديد من سكان البلدة القديمة في مدينة من ترميم منازلهم في البدة القديمة، بهدف تهجيرهم منها والسيطرة عليها؛ وهذا ما يحدث أيضا في مدينة الخليل؛ فالأوقاف الإسلامية تمنع من ترميم الحرم الإبراهيمي، ويمنع العديد من المواطنين من ترميم منازلهم؛ كي تكون لقمة سائغة للمستوطنين؛ وكل ذلك بهدف طمسها أو تهويدها.
وبذك فإن إسرائيل (دولة الاحتلال) تنتهك الحقوق الفلسطينية، وتخالف اتفاقية لاهاي عام 1954، وبروتوكولاها (البروتوكول الأول عام 1954؛ والثاني عام 1999) والتي تفرض على "المحتل" أن يحافظ على التراث الثقافي في المناطق المحتلة، وتفرض عليه عدم المساس به؛ وتخالف أيضًا اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والبروتوكولان الإضافيان لها لعام 1977- والتي توجب حماية الأشخاص والممتلكات الثقافية الخاصة بالشعوب أثناء النزاع المسلح؛ إضافة إلى مخالفة إسرائيل لاتفاقية التراث العالمي عام 1972، والتي تدعو جميع الأطراف للحفاظ على التراث الثقافي كَتراث إنساني يَمنع الاحتلال القيام بأي أعمال في مواقع التراث التي تحتلها.