لقد كانت عملية اللجوء الفلسطيني عام 1948 "النكبة" مرحلة مؤلمة قاسية ضمن سلسلة محطات خاضها الشعب الفلسطيني في تاريخه الزاخر بالآلام والتحديات؛ إذ تعرض السكان الفلسطينيون الأصليون لعملية تطهير وحشي عنصري وتهجير قسري إحلالي احتلالي على أيدي العصابات الصهيونية الاحتلالية الإرهابية التي زرعتها الصهيونية العالمية بهدف فرض وطن قومي ليهود العالم في فلسطين، وإقامة دولة "إسرائيل" فوق الأراضي التي يتم احتلالها ودثر سكانها. وقد انتهجت العصابات الصهيونية اليهودية المُعَدَّة والمدربة سياسة الجريمة والقتل والترويع الهمجي المنظم بحق المواطنين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون تحت الانتداب البريطاني الذي هيأ السبيل لإنجاح إقامة الكيان الغريب الوليد بملاحقة الأحرار الفلسطينيين والتنكيل بمن يحمل السلاح أو يقتنيه؛ ما خلق ظروفًا غير متكافئة بين فريقي هذا الصراع.
لقد مارست هذه العصابات القتل والتنكيل بكل إمكاناتها متسلحة بعددها المتميزة وعتادها الحديث وبما أوتيت من الوحشية والرغبة في السيطرة وبما لقنت من التحريض المُغرض؛ ما جعل الفلسطينيين ضحية عملية تطهير عرقي عنصري واستئصال باقتلاعهم من مدنهم وقراهم وأراضيهم؛ ما عرض مئات الآلاف منهم إلى محاولة النجاة بأرواحهم وحياة عيالهم باللجوء إلى مناطق أخرى عديدة، وهذا في ظل ظروف شديدة القتامة والصعوبة والألم.
وعلى وجه العموم يُشار إلى عملية اللجوء عام 1948 بمصطلح "النكبة". والنكبة الفلسطينية في جوهرها هي إشارة لسرعة انهيار المجتمع الفلسطيني تحت ضربات الهجوم العسكري الصهيوني ونزوح الشعب الفلسطيني وتشتته، في الوقت الذي رافق ضخامة الحدث غياب أدنى التوقعات العربية عن الهزيمة وما بعدها وقدرات الجيش والعصابات الصهيونية الأقل عدداً والأكثر تنظيماً وقوة، والصدمة من إدراك عجز الدول العربية عن التصدي للهجوم، واستبعاد انسحاب قوات الانتداب البريطاني من فلسطين بهذه السرعة وهذا التواطؤ. لقد حملت النكبة معنى وقف التطور الطبيعي للشعب الفلسطيني وتشريده، ليعاني أعباء تطوير مجتمع آخر في الهواء، وتحت خيام اللجوء.
فقد حاولت تاريخياً العديد من الدول جاهدة السيطرة على فلسطين واحتلالها، ولا سيما بريطانيا التي تبنت المشروع الصهيوني واحتضنته وذللت العقبات أمامه بكل الطرق الممكنة وهذا لإنجاحه وتحويله من فكرة نظرية إلى عملية ملموسة على الأرض؛ فقد كانت هناك العديد من الاتفاقيات التي سعت إلى قوننة استعمار فلسطين وتنفيذ المشروع الصهيوني، لعل أبرزها كان اتفاقية "سايكس بيكو" عام 1916، وإعلان "وعد بلفور" عام 1917، واتفاقية "سان ريمو" عام 1920، و"صك الانتداب" الصادر عن عصبة الأمم المتحدة عام 1922.
وحاولت بريطانيا محاولات عدة لدخول فلسطين واستعمارها، واستمر هذا الحال إلى أن دخلت جيوش الجنرال اللنبي بئر السبع مساء يوم 31/10/1917 واحتلتها، وأحرزت بذلك أول نصر لها بعد هزائم عديدة في حربها ضد الجيش التركي، وبعد ذلك بيومين أعلنت بريطانيا "وعد بلفور" (وعد من لا يملك لمن لا يستحق) في 2/11/1917، وعدت من خلاله اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وتسهيل عملية وصولهم وهجرتهم وتكثيف الاستيطان فيها، بحيث يكون لهم في نهاية المطاف وطن قومي فيها. وفي11 ديسمبر/كانون الأول/1917 دخلت القوات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي مدينة القدس، وأعلن حينها اللنبي بيانه الأول الشهير الذي فرض فيه الأحكام العرفية، وبذلك انتهى رسمياً حكم العثمانيين لفلسطين والذي دام قرابة الأربعمائة سنة.
وبدأت بذلك حقبة جديدة على فلسطين وهي حقبة الانتداب البريطاني، ووفقاً لجهاز لإحصاء المركزي الفلسطيني بتقريرهم الصادر بعنوان "الذكرى الرابعة والسبعين لنكبة فلسطين، بالأرقام والاحصائيات"، بأنه في بداية فترة الانتداب وتحديداً عام 1922 كان عدد اليهود 83.794، من أصل حوالي 673 ألف نسمة من التعداد الكلي للسكان في فلسطين، أي أنهم يشكلون حوالي عُشر السكان العرب، وبدأت الهجرات اليهودية تتوالى وتزداد كثافة على فلسطين بشكل تدريجي وبدعم من حكومة الانتداب البريطاني؛ ما أدى الى قيام الفلسطينيين بالعديد من الثورات ضد الانجليز والصهيونية رفضاً للهجرات اليهودية والاستيطان ومحاولة وقفها بكل السُبل الممكنة والحيلولة دون تفاقم الوضع أكثر فأكثر، ولعل أبرز هذه الثورات كانت: ثورة النبي موسى عام 1921، ثورة البراق عام 1929، ثورة عز الدين القسام عام 1935. ولعل تدفق الهجرة اليهودية بشكل مكثف إلى فلسطين كان في منتصف الثلاثينات، وهذا ما أدى إلى قيام ثورة 1936 ضد الإنجليز والصهيونية، هذه الثورة التي تميزت بطابعها المنظم، وتوحيد الشعب تحت قيادة موحدة، وقد شهدت ثورة 1936 إضراباً مطولاً وعصياناً مدنياً ضد حكومة الانتداب البريطاني، وتوقفت هذه الثورة عام 1939، بعد أن وعدت بريطانيا الملوك العرب بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ووضع قيود على تملك اليهود للأراضي؛ ولكن هذه الوعود لم تنفذ؛ فقد استمرت الهجرات اليهودية بالتدفق حتى وصل عددهم عام 1948 إلى 650000 يهودي مقابل 1.415.000 فلسطيني (هذا حسب تقرير "جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني" الصادر بعنوان "الذكرى الرابعة والسبعين لنكبة فلسطين، بالأرقام والاحصائيات").
وكان للسياسة الإنجليزية في فلسطين تأثيرٌ كبير في تسهيل عملية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومناصرتهم وإمدادهم بالعتاد والعدة والمواد التموينية وكل التجهيزات المطلوبة والتي تضمن تسهيل حياة اليهود وازدهارها، وكذلك الوقوف في وجه الثورة الفلسطينية والتصدي لها؛ فقد ضاقت المعتقلات بمئات الفلسطينيين دون محاكمة أو إسناد تهمة، ونظمت المحاكم العسكرية وراحت تحكم بالإعدام لمجرد حيازة سلاح ناري، وزجت في السجون نحو ألفين من الأبرياء؛ فمضت الفرق العديدة المدربة من جنودهم بعددها وأسلحتها الكاملة من طائرات ودبابات تمعن فتكاً وتقتيلاً، كذلك تم فرض الغرامات الباهظة على القرى هذا ما أثقل كاهل الفلسطينيين وجعلهم يعانوا من ظروف معيشية واقتصادية صعبة.
في عام 1947 تحولت قضية فلسطين إلى هيئة الأمم المتحدة، التي لم يمر على إنشائها أكثر من عامين، هذه الهيئة التي حلت محل عصبة الأمم المتحدة والتي باشرت عملها بتاريخ 24/10/1945، ونظراً للنفوذ اليهودي القوي في مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة، ضغطت الولايات المتحدة على الدول الصغيرة لتوافق على توصية تقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية، ويهودية؛ وصدر القرار 181 في 29/11/1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين: (دولة يهودية بمساحة 56%، ودولة عربية بمساحة 43%)، وتكون المناطق المقدسة (القدس، وبيت لحم) التي تشكل مساحة 1% من مساحة فلسطين تحت إشراف دولي.
وبعد أن نضجت معالم المشروع الصهيوني بشكل فعال وبلغت الحركة الصهيونية ما بلغته من القوة والتجهيز والإعداد رأوا بـأنه آن الأوان لهم من الشروع بتأسيس دولتهم "دولة إسرائيل" وبداية الحرب الشاملة على الفلسطينيين وتهجيرهم من مدنهم وقراهم، وفي ربيع عام 1948 بدأت العصابات الصهيونية بتنفيذ خطتها لاحتلال الأراضي الفلسطينية التي كانت معدة قبل سنتين، وحشدت قوات تبلغ 50.000 جندي أمام 2500 مقاتل شعبي من الأهالي مع بعض المتطوعين العرب، وما لبثت القوات الصهيونية أن ازدادت إلى 121.000 جندي، مقابل 40.000 جندي عربي تحت قيادات متعددة، واحتلت تلك القوات 213 قرية وارتكبت العديد من المجازر والفظائع فيها، ولعل أبرز هذه المجازر كانت: مجزرة دير ياسين، ومجزرة الطنطورة، ومجزرة الرملة، ومجزرة الدوايمة، ومجزرة اللد ... وغيرها من المجازر التي ارتكبتها العصابات الاحتلالية.
وشعرت الأمم المتحدة عقب ذلك بأنها أخطأت في اقتراح مشروع التقسيم، فاقترحت لجنة وصاية على فلسطين وأرسلت "الكونت فولك برنادوت" إلى فلسطين للوساطة، وكان موقف برنادوت حاسماً وواضحاً حيث أصر على ضرورة أن يعود اللاجئين إلى ديارهم فوراً، وأن يبقى النقب عربياً، خلافاً لاقتراح التقسيم، وعند إعداده التقرير النهائي الذي كان يحمل في طياته العديد من الحقائق التي تصب في صالح الفلسطينيين؛ لهذا اغتالته بتاريخ 7/9/1948 عصابة "شتيرن الصهيونية بقيادة اسحاق شامير (رئيس الوزراء الإسرائيلي فيما بعد).
على إثر هذا القرار اشتدت المعارك الضارية بين اليهود والمواطنين العرب في فلسطين. وفي شمال فلسطين سلم البريطانيون مدينة طبريا في 18 نيسان/ إبريل/ 1948 إلى اليهود بعد أن سهلوا وصول المدد إليهم، وحالوا دون وصول النجدات العربية والذخيرة إلى المدينة وتذرعوا لإجلاء سكانها العرب بحجة أنهم أقلية يخشى عليهم غدر الأكثرية اليهودية، وكانت طبريا أول مدينة فلسطينية تسقط بيد الصهاينة، وتوالت بعدها المدن الفلسطينية بالسقوط واحدة تلو الأخرى.
وبعد خمسة أشهر انسحب الإنجليز من حيفا بخطة مدبرة؛ حيث كان العصابات الصهيونية تحتل المواقع المحصنة فيها، وتشن الهجمات العنيفة على سكانها الفلسطينيين، بعد أن مهدوا لذلك بحملة نفسية على مكبرات الصوت وبواسطة المنشورات، بالإضافة إلى قصف مركز وكثيف على الأحياء العربية. واشتدت المعارك أكثر فأكثر، حيث نزح عن المدينة بعد ذلك آلاف الفلسطينيين اللاجئين إلى لبنان، ثم سقطت صفد وعكا وشفا عمرو والناصرة ويافا وسلمة ومعظم جبهة الجليلين الشرقي والغربي بعد معارك ضارية. وقد ساعدت وسائل الإعلام الصهيونية، عن قصد، على إشاعة الفزع والرعب -ضمن اتباعها أسلوب الحرب النفسية ضد الفلسطينيين - بسردها تفاصيل مذبحة دير ياسين وناصر الدين القريبة من طبريا وغيرها؛ فكان ذلك سبباً لنشر الذعر في القرى الفلسطينية، وكان الصهاينة يذيعون أنباء القتل الجماعي لتحطيم معنويات المواطنين العرب ودفعهم لمغادرة أراضيهم وقراهم، وفي مرحلة متأخرة لم تكتف القوات اليهودية بشن حرب دعائية نفسية للضغط على الفلسطينيين لخروجهم من بلداتهم ومدنهم وقراهم، بل قامت أيضاً باستخدام القوة والتطهير العرقي والمجازر لطردهم، فلقد عملت العصابات الصهيونية على استخدام شتى أساليب الترهيب تجاه الفلسطينيين، والتي انطوت على إنذار الأهالي بأن لا ينتظروا رحمةً أو شفقةً، وأن الخيار قائم لهم بين البقاء حيث هم والموت، أو بين الفرار والحياة، وقد تمكنت بذلك العصابات الصهيونية قبل أيار/ مايو 1948 -عن طريق المذابح وأعمال القتل بالجملة- من احتلال مناطق فلسطينية عديدة حتى تلك التي لم ينص عليها قرار التقسيم، وتهجير غالبية السكان وتشريدهم بشتى الطرق والأساليب.
وفي منتصف أيار/ مايو من عام 1948 بدأت الحملة الهادفة إلى السيطرة على القرى الواقعة في المنطقة الممتدة بين تل أبيب وحيفا، البالغ عددها 64، التي لم يبق منها بعد حملة التطهير العرقي سوى قريتين هما: "الفريديس"، و "جسر الزرقاء". وخلال تلك الحملة وقعت المجزرة في قرية "الطنطورة" في 22 أيار/ مايو/ 1948، التي قُتل فيها 230 فلسطينياً.
وبعد استكمال عمليات التطهير العرقي على الساحل، قامت العصابات الصهيونية بتنظيم هجوم على مدينتي اللد والرملة في إطار عملية حملت اسم "داني"، وبدأت في 10 تموز/يوليو 1948 بقصف اللد من الجو ما أدى (بحسب المصادر الفلسطينية) إلى مقتل 426 رجلاً وامرأة وطفلاً في جامع المدينة وفي الشوارع المجاورة له. أما مدينة الرملة فقد احتُلت في 14 تموز/يوليو/ 1948 أيضاً وأُرغم سكانها البالغ عددهم 17000 نسمة على الرحيل كذلك إلى الضفة الغربية.
وبدأت المرحلة الأخيرة من عمليات التطهير العرقي في تشرين الأول/أكتوبر 1948، إذ احتلت القوات اليهودية مدينتي اسدود والمجدل وطردت سكانهما إلى قطاع غزة، كما احتلت مدينة بئر السبع وطردت سكانها إلى الخليل. وخلال تلك العمليات ارتُكبت في 28 تشرين الأول/أكتوبر 1948 المجزرة في قرية "الدوايمة"، الواقعة بين بئر السبع والخليل، التي قُتل فيها (بحسب مختار القرية) 455 شخصاً بينهم نحو 170 طفلاً وامرأة. وكرس شهر كانون الأول/ديسمبر 1948 لتطهير صحراء النقب من كثير من القبائل البدوية المقيمة فيها.
ولقد أكدت وثائق أرشيف الدولة البريطانية، وأرشيف الولايات المتحدة الأمريكية، أن 70% من الفلسطينيين، غادروا ديارهم بين عامي 1947-1948، بفعل الترويع والبطش والإرهاب الجسدي والنفسي الصهيوني؛ وليس كما يزعم القادة الإسرائيليون من أن الفلسطينيين تركوا ديارهم بإيحاء من الدول العربية، أو طوعاً منهم. وما هو جدير بالذكر بأن الحركة الصهيونية بعصاباتها المتعددة كانت قد وضعت خططاً مفصلةً في كل مرحلة من مراحل الحرب التي خاضوها ضد العرب في عام 1948، فالخطة دالت (د) ـ على سبيل المثال ـ التي نفذت في نيسان 1948، اقتضت إستراتيجية هجومية ضد الفلسطينيين وحلفائهم العرب، حيث كان توسيع رقعة الدولة اليهودية وطرد العديد من الفلسطينيين، من بين الأهداف الرئيسية لتلك الخطة، ووضع" يجال يدين" رئيس شعبة العمليات في "الهاجانا" أسس الخطة التي نصت على " تنفيذ عمليات ضد التجمعات السكانية المعادية الموجودة داخل أو بالقرب من خط دفاعنا، بهدف منع استخدامها كقوة مسلحة فعالة"؛ كما نصت على " ضرورة احتلال قرى ومدن عربية، والاحتفاظ بها أو مسحها عن وجه البسيطة "
وبالفعل بدأ العمل على تنفيذ الخطة عبر عملية "نخشون" التي أسفرت عن سقوط "القسطل"، وتبعها العديد من القرى والمدن الفلسطينية مع طرد الآلاف من وكانت نتيجة عمليات الطرد والقتل وتدمير القرى، نزوح آلاف الفلسطينيين عن ديارهم وأضحوا بذلك غرباء عن وطنهم، ولاجئين في مناطق أخرى؛ بيد أن الحقيقة الأهم (كما يعترف المؤرخ الصهيوني "بني موريس") أن هجرة العرب من القرى كانت تتم فقط أثناء أو بعد الهجوم على القرية وليس قبله.
ووفقا لتقرير "جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني" الصادر بعنوان "الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة فلسطين، بالأرقام والاحصائيات"، 2023) تم تشريد 957 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948 في 1,300 قرية ومدينة فلسطينية، حيث انتهى التهجير بغالبيتهم إلى عدد من الدول العربية المجاورة إضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، فضلاً عن التهجير الداخلي للآلاف منهم داخل الأراضي التي أخضعت لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي عام النكبة وما تلاها بعد طردهم من منازلهم والاستيلاء على أراضيهم.