الانقسامات والإثنيات في إسرائيل

يوجد في إسرائيل العديد من الانقسامات المبنية على أكثر خلفية، وكل انقسام يحمل بطياته العديد من الدلالات الخاصة به وبشكل الدولة وطابعها؛ فإسرائيل لم تتشكل وفقاً لحالة تطور طبيعية، بل بفعل حالة حرب واقتلاع للسكان الفلسطينيين الأصليين من بلدهم، واستبدالهم بسكان يهود تم تجميعهم من شتى أصقاع الأرض، ولم يكن بينهم أية صلات تجمعهم سوى إيمانهم بالمشروع الصهيوني؛ فقد أُسست إسرائيل على أنقاض شعب آخر اقتُلع من أرضه؛ ومن ناحية أُخرى، تشكل المجتمع الإسرائيلي كمجتمع مهاجرين يهود جاؤوا من بلاد وثقافات عديدة لا يربطهم رابط ولا علاقة سوى محاولة تحقيق أحلام المشروع الصهيوني .. هذا المشروع الذي هدف إلى إنشاء إسرائيل وترسيخ وجودها بفرض حقائق ديموغرافية على الأرض بانتهاج أساليب الترانسفير والطرد من جهة، وباستجلاب مهاجرين يهود من جهة أخرى؛ ما أفضى إلى تشكيل مجتمع يفتقر إلى الروابط  الإثنية المشتركة من عادات وتقاليد وثقافة، كما يفتقر إلى العمق التاريخي الاجتماعي واللغوي والديني والجغرافي والعمراني؛ إنما تشكل وفقاً لضوابط ليست ذات تطور وليس لها عُمق إثني متكامل الأركان؛ لهذا عانت إسرائيل من انقسامات داخلية كبيرة؛ وإن كانت استطاعت التغلب على مُعيقات تشكيل الدولة، إلا أن الفجوات الداخلية والانقسامات استمرت في تشكيل هاجس استراتيجي لإسرائيل، التي باتت تعج بالانقسامات المختلفة سواء الإثنية أو غيرها بصورة مطردة وماثلة للجميع.

وعلى وجه العموم فان المجتمع الإسرائيلي يحمل بين طياته فلسفة مجتمع المهاجرين الذي لا يتمتع بدرجة كافية من التجانس بين مركباته؛ الأمر الذي ينعكس على نسيجه الاجتماعي ومستوى التضامن الداخلي بين الفئات والشرائح التي تشكله. وقد أدى عدم التجانس إلى نشوء انقسامات وتوترات اجتماعية في مجتمع المهاجرين ما زالت قائمة حتى الآن رغم التغيرات والتطورات التي تطرأ عليها باستمرار، سواءً فيما يتعلق بالشرائح السكانية التي تضاف إلى أطراف كل انقسام وتوتر، أو فيما يتعلق بالحدة والعداء المرافقين لهذا الانقسام أو ذاك، وهذه كما هو معلوم أمور ذات صلة وثيقة بالتطورات الديموغرافية والاقتصادية والفجوات الاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي.

أبرز الانقسامات والتوترات في المجتمع الإسرائيلي:

  • الانقسام والتوتر الديني: وهو انقسام قائم بين اليهود المتزمتين دينياً (الحريديم) وبين الفئات اليهودية العلمانية؛ فالعلاقة بينهم باتت أكثر توتراً وتندرج تحت ما يمكن وصفه بالصراع الديني العلماني؛ ما انعكس بشكل كبير على الدولة في الكثير من مناحي الحياة؛ فقد حظي موضوع الانقسام الديني في إسرائيل على اهتمام كبير، ولا سيما على خلفية التطورات التي يشهدها مجتمعهم، ونمو التيار الديني اليهودي المتزايد وانتشاره جغرافياً بعد سنوات من تقوقعهم الجغرافي في أحياء معزولة؛ كما إن التوتر الذي يطغى على طبيعة العلاقات بينهم وبين شرائح متنوعة في المجتمع الإسرائيلي، وكذلك بينهم وبين مؤسسات الدولة يشكل سبباً للاهتمام به. ولا تختلف القضايا والأحداث التي تشكل موضوعات ومواقع الانقسام والتوتر بين فئات عديدة من الإسرائيليين العلمانيين من ناحية والمتدينين المتزمتين من ناحية أخرى عن القضايا التي أثارت التوترات في الماضي، فجميعها تتمحور حول الصراع بين الطرفين على طبيعة المجتمع الإسرائيلي بصورة عامة، وعلى مجتمعات المدن المتعددة التي بدأ الحريديم ينتشرون فيها، كما تتمحور الخلافات حول قدسية السبت، وإبعاد النساء عن الحيز العام في المدن اليهودية المختلطة التي يعيش فيها الحريديم إلى جانب يهود علمانيين، والنقاش المتواصل منذ عقود في شأن إعفاء الشبان اليهود الحريديم من الخدمة العسكرية، لأن دراسة الدين أهم بالنسبة لهم. ومن الجدير بالذكر أن موضوعات الخلاف بين اليهود الحريديم والعلمانيين، على اختلاف توجهاتهم، في السنوات الأخيرة، تشهد تطورات جدية ومتسارعة، ويرافقها سلوك جماعي لليهود الحريديم يثير أصداء غاضبة داخل المجتمع الإسرائيلي؛ إذ يشكك اليهود المتزمتون في شرعية المحكمـة العليا الإسرائيلية على خلفية قراراتها بمسائل متنوعة، مثل عدم دستورية القانون الذي يستثني الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية استجابة لاتفاقيات مصلحية بين الأحزاب التي تشكل الائتلاف الحاكم الذي تشارك فيه أحزاب اليهود الحريديم؛ إضافة إلى التجنيد، وتعلم التوراة، والفصل بين الرجال والنساء في الحافلات العامة التي تقل مسافرين من الأحياء المتدينة في القدس، ومنع عمل المواصلات العامة خلال يوم السبت في مختلف المناطق، وقضية إلزام المحكمة جهاز التعليم الخاص بالمتدينين المتزمتين بتدريس الموضوعات التي تُعتبر أساسية بحسب وزارة التعليم الإسرائيلية، وهي اللغة الإنجليزية والعلوم والمدنيات وتاريخ اليهود، وهي قضايا تعود إلى مركز النقاش من جديد دورياً.

    يتضح مما سبق ذكره أن الانقسام والتوتر الديني في إسرائيل ما زال أحد أهم الانقسامات والتوترات الأساسية في المجتمع، ومع ذلك فإن تغيرات عميقة طرأت عليه من حيث مسبباته؛ فخلافاً لما يظن أن هذه المسببات ترتبط على نحو وثيق بمسائل الدين والدولة وبأحكام الشريعة اليهودية، فإن لهذا التوتر أوجه اجتماعية اقتصادية تدخل في خانة مستحقات المواطنة بحسب مفهومها عند اليهود المتزمتين، وعند سائر الفئات في المجتمع الإسرائيلي التي تعتبر سلوك المتدينين الحريديم لا يتوافق مع ملامح الدولة الحديثة من الطراز "الغربي الليبرالي العلماني".

  • الانقسام والتوتر الطائفي (الإثني): نظرا لتعدد أصول المهاجرين اليهود توجد حالة تضارب بين الإثنيات داخل المجتمع الإسرائيلي؛ لأن مميزات وأنماط وطباع المجتمعات التي هاجروا منها مختلفة ومتعددة، ما أحدث صدعًا بين اليهود الشرقيين (السفارديم) و(المزراحيم) واليهود الغربيين (الأشكناز)، وكذلك مع اليهود الاثيوبيين (يهود الفلاشا) الذين قدموا إلى إسرائيل. فضلًا عن العديد من الانقسامات الداخلية بين أفراد كل إثنية من هذه الإثنيات حسب أصولهم والبلدان التي استقدموا منها؛ فاليهود الغربيون (الأشكناز) يوجد بينهم نوع من أنواع الانقسام الداخلي بين الروسي والأمريكي والأوروبي وغيرهم من يهود غربيين ممن قدموا إلى إسرائيل، وكذلك الحال عند اليهود الشرقيين والانقسامات الداخلية بين السفارديم والمزراحيم الذين هم يهود شرقيين من أصول عربية.

    وعلى وجه العموم فإن الانقسام الإثني يعني في قاموس السياسة في إسرائيل التوتر بين فئات يهودية هاجرت إلى إسرائيل من بلاد وثقافات متعددة، والذي ارتبط بالعلاقة بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين. وقد كُتب الكثير عن أنماط التعامل الرسمي والشعبي الأهلي مع كل واحدة من فئات المهاجرين اليهود وما تعرّضت له من صعوبات؛ ولكن مع مرور السنين على إقامة إسرائيل طرأ تغير كبير على التركيبة الديموغرافية للمجتمع، وخفت حدة التوترات والانقسامات الإثنية نوعاً ما عن السابق، وتضاءلت بصورة أو بأخرى الفوارق بين اليهود الأشكناز والشرقيين في مجالات الحياة كافة، مع أنها ما زالت موجودة، لكن بقدر أقل من الماضي. وفي المقابل تُبين بعض الدلائل والمؤشرات أن التمييز ضد اليهود الشرقيين ما زال موجوداً، سواءً في فرص العمل أو في الأجور، حتى عند الحديث عن أشخاص يملكون المؤهلات المهنية والأكاديمية نفسها؛ فضلاً عن النظرة الدونية التي يمكن ملاحظتها في التعامل مع الثقافة الشرقية وموسيقى اليهود الشرقيين في إسرائيل، والكثير من الآراء المُسبقة التي تصل إلى حد العنصرية. وتبلغ العنصرية أوجها في تعامل إثنيات المجتمع الإسرائيلي بمختلف تراكيبه مع اليهود الاثيوبيين "الفلاشا"، ولعل من أبرز مظاهر الضائقة التي يعيشها اليهود الإثيوبيون، بصفتهم أضعف الفئات السكانية في إسرائيل، هو عداء الشرطة المستمر لأبنائهم.

  • الانقسام والتوتر القائم وفق الأساس الأيديولوجي السياسي. هناك انقسام بين توجهات سياسية مختلفة، لكل منها تصور ونهج خاص ذو ملامح مغايرة عن باقي التوجهات في العديد من المسائل، ولا سيما التصور الخاص لهذه التوجهات والأيدولوجيات حيال مسألة حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وكذلك بالنسبة إلى ترسيم ملامح المجتمع الإسرائيلي المنشود.

    وعلى وجه العموم، يتمحور هذا الانقسام والتوتر حول السجالات الأيديولوجية المحتدمة في إسرائيل منذ فترات طويلة بشأن قضايا أساسية، مثل: الموقف من الفلسطينيين وشكل الصراع وتكتيكاته. كما يشمل الانقسام والتوتر الأيديولوجي أيضاً موضوعات أخرى، مثل "علاقة الدين بالدولة"، و"تنامي الأصولية الدينية"، و"الخلاف في شأن السياسة الاقتصادية لكل من الأحزاب الرئيسية المتنافسة على السلطة". وإلى جانب هذه القضايا شهدت السنوات الأخيرة نقاشاً حاداً بشأن طبيعة النظام والمجتمع الإسرائيليين بين اليمين ويمين اليمين والأحزاب التي تدور في فلكه وبين أحزاب المعارضة ذات الطابع اليساري؛ إذ تبين أن لكل من هذين التيارين وجهات نظر مختلفة بالنسبة إلى تعريف الديمقراطية ككل، وبالنسبة إلى التوازن بين المركب الديمقراطي والمركب اليهودي في الطابع المنشود لإسرائيل بحسب رأي كل جهة. ويمكن أن نلحظ هذا في الهجوم العلني لشخصيات رسمية وحزبية ولأعضاء كنيست من اليمين على الجهاز القضائي في إسرائيل، وعلى رأسه محكمة العدل العليا، والإعلان جهاراً عن بذل هذه الأوساط كل جهد ممكن لإضعاف صلاحيات المحاكم وتقييدها. وبلغ هذا أوجه في أزمة مشروع التعديلات القضائية التي تعتزم حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تمريره عام 2023؛ ما خلق أزمة واحتجاجات واسعة جداً داخل المجتمع الإسرائيلي، وتعالت الأصوات المعارضة، ودخلت حينها إسرائيل بأزمة كبيرة وانقسام طولي بالمجتمع ليس بالهين؛ كما يمكن ملاحظة المحاولات الممعنة لإضعاف القضاء من خلال سيل اقتراحات القوانين الشخصية التي يضعها على طاولة الكنيست يومياً نواب من اليمين يحاولون شرعنة وتقنين التضييقات والقيود التي يرغبون في فرضها على المواطنين الفلسطينيين وقياداتهم في الأساس، وعلى كل صوت معارض لسياستهم، وعلى كل من يحاول ان يناهض آراء وسياسات اليمين. وفي كثير من الحالات تدفع بعض الأحزاب المنقسمة نحو التنازل بصورة أو بأخرى عن الالتزام بمتطلبات الديمقراطية داخل المجتمع الإسرائيلي والتغاضي عن انتشار ثقافة الفساد السلطوي والإداري في إسرائيل، وعن تجاوزات الحكومة والوزراء.

  • الانقسام والتوتر الطبقي. الذي تشير إليه معطيات الفقر والفجوات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني جراءها الفئات الفقيرة، حيث تُعتبر ضائقة الفقر وعمق الفوارق الاجتماعية أبرز دلائل الانقسام والتوتر الطبقي في إسرائيل، ولعل العوامل الحقيقية لتعزيز هذا النوع من الانقسام تندرج تحت الآثار المادية والمعنوية والنفسية المتراكمة للتوجهات النيوليبرالية السائدة في إسرائيل منذ وقت طويل حتى اليوم؛ فهنالك ما يمكن وصفه بأنه شرخ طبقي؛ إذ توجد ضائقة اقتصادية يعاني جراءها أفراد وعائلات شابة، أو أخرى كثيرة الأولاد، يملك أفرادها مؤهلات ملائمة لجميع الأعمال والوظائف لكنهم لا يعملون في وظائف ملائمة. وهذا ما يفضح ادعاء وجود العدالة الاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي؛ فهناك فئات غنية تجبي أرباحاً طائلة على حساب الطبقة الوسطى الواسعة وذوي الدخل المحدود والفقراء؛ والدولة شريكة في خلق هذا الواقع؛ إذ ساهمت في تفاقم التفاوت بين هذه الفئات بتأمينها الشروط التي تسهل على أصحاب الشركات الكبرى والاحتكارات المتنوعة زيادة أرباحهم، في حين تُدمر القطاع الخاص وتنسحب من مجال توفير الخدمات الأساسية للمواطنين في مجالات حيوية، كالعلاج والتعليم والسكن والأمن الغذائي، وهذا ما قاد بدوره إلى شعور بعض الفئات في إسرائيل بالاغتراب والقطيعة مع الدولة ومؤسساتها؛ إذ لم يعد المواطن يرى فيها جهات تخدم مصالحه وتوفر له الأمن والأمان في مجالات حياته كافة. وتدل على ذلك التقارير المختلفة والمتنوعة التي تصدر في إسرائيل.
  • الانقسام والتوتر القومي بين اليهود وسكان البلد الأصليين من الفلسطينيين الذين باتوا مواطنين، وهو أكثر الانقسامات والتوترات رسوخاً ودواماً بسبب تأثره بعوامل كثيرة سياسية واجتماعية، داخلية وخارجية على السواء، ويتأثر هذا الانقسام والتوتر بسياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه العرب الفلسطينيين في إسرائيل، وتجاه الشعب الفلسطيني وحقوقه بصورة عامة؛ فالتمييز العنصري الذي تُمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، يأخذ ثلاثة وجوه: الأول عن طريق التشريع في الكنيست الإسرائيلي، فتوجد عشرات القوانين التي أقرها الكنيست، وتعادي الفلسطينيين بصورة او بأخرى سواء مباشرة أو غير مباشرة عبر ما تحمله من تمييز وعنصرية تجاههم؛ اما الوجه الثاني، فهو عن طريق السياسات الحكومية المتعددة ومنها القرارات التي تتخذها الحكومات الإسرائيلية حيال مسائل التوطين وغيرها؛ أما الوجه الثالث فهو التمييز الممنهج داخل أروقة المحاكم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. 

هذه هي أبرز الانقسامات والتوترات الأساسية التي اصطبغت بها ملامح المجتمع الإسرائيلي، على الرغم من أن إسرائيل قطعت شوطاً كبيراً في مسعى تحقيق الأهداف الأساسية التي تواجه كل مجتمع مهاجرين، مثل: إتمام عملية "بناء شعب" من مهاجرين متباعدين في جميع مميزاتهم الثقافية والاقتصادية، وتثبيت الملامح الأساسية لوجه المجتمع، والأهم من هذا وذاك تحقيق تقدم في الانتقال من مجتمع مهاجرين إلى مجتمع عادي كأنه نشأ وترسخ وتطور بشكل ممتد ومستمر وطبيعي في هذا المكان؛ وذلك لتعزيز التصور الذاتي للإسرائيليين أنفسهم، والمحاولات الإسرائيلية المستمرة بعدم التطرق الى مسألة الانقسامات والإثنيات داخل المجتمع، وتصوير الأمر وكأنه طبيعي لا يحمل بطياته أي نوع من أنوع التوتر الداخلي الذي يطفو على السطح بين الفينة والأخرى، ولعل هذا أيضاً يتلاقى ورؤية الدولة الإسرائيلية العميقة الهادفة إلى تغييب الأسئلة الأساسية المرتبطة بملابسات قيام الدولة ونكبة الفلسطينيين وظروف الهجرة من بلدانهم التي قدموا منها.