الاستيطان سرطان يلتهم قلب مدينة الخليل

الموقع الجغرافي

تقع مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية على بعد 35 كم جنوب مدينة القدس، وتعد أكبر مدن الضفة الغربية مساحة وسكاناً، وتبلغ مساحتها 42كم2، وبلغ عدد سكانها وفق "الإحصاء المركزي الفلسطيني" حوالي 250 ألف نسمة.  وللمدينة أهمية كبيرة على الصعيد الاقتصادي؛ فهي مركز للصناعة والتجارة الفلسطينية وعمودها الفقري؛ بالإضافة إلى الأهمية الدينية للمدينة عند الديانات الثلاث؛ حيث يتوسط الحرم الابراهيمي مدينة الخليل الذي يحوي مقامات الأنبياء أبراهيم وإسحق ويعقوب وزوجاتهم.

تقسيم مدينة الخليل

بند رقم (10) من اتفاقية الخليل يقول: "يؤكد الطرفان التزامهما بوحدة مدينة الخليل، ولفهمهما بأن الصلاحيات الأمنية لن تؤدي إلى تقسيم المدينة ضمن ذلك، ودون الانتقاص من الصلاحيات والمسؤوليات الأمنية للجانبين، يؤكد الطرفان بأن حركة الناس والسيارات والبضائع داخل المدينة، أو منها أو إليها ستكون طبيعية وعادية ودون حواجز أو عقبات".

في 15 كانون الثاني / يناير من عام 1997 وقعت منظمة التحرير الفلسطينية مع دولة الاحتلال اتفاق الخليل، أو ما يعرف باسم "بروتكول الخليل" الذي يقضي بتقسيم المدينة إلى قسمين: 

منطقة “H1” وتشكل مساحتها 80% من مساحة المدينة الإجمالية؛ وتخضع للسيطرة الأمنية والإدارية الفلسطينية.

 ومنطقة “H2” وتشكل مساحتها 20 % من مساحة المدينة، وتتركز في البلدة القديمة وسط مدينة الخليل؛ وتخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، على أن تتحمل بلدية الخليل مسؤولية الأمور الخدماتية التي تقدم للسكان في هذه المنطقة، والتي يقدر عدد سكانها بحوالي 40 ألف نسمة.

وضمن ذلك أكد الطرفان التزاماتهما باتخاذ كل الخطوات والإجراءات الضرورية لإعادة الحياة إلى طبيعتها في الخليل، بما في ذلك فتح الحسبة كسوق بالمفرق؛ حيث ستباع البضائع بشكل مباشر للمستهلكين من خلال المتاجر الحالية، وإعادة حركة السيارات على شارع الشهداء بشكل تدريجي، خلال أربعة أشهر، إلى ما كانت عليه قبل شباط 1994 - بند (8) من الاتفاقية؛ لكن لم ينفذ الجانب الإسرائيلي التزاماته حسب هذا الاتفاق.

الاستيطان في مدينة الخليل

بدأ الاستيطان في مدينة الخليل منذ احتلالها عام 1967، بالاستيلاء على بعض الأبنية في داخل المدينة، وتحويلها إلى أحياء سكنية لليهود؛ بهدف الربط الجغرافي بين الأحياء اليهودية داخل المدينة، ومستوطنة كريات أربع، من خلال حفر الأنفاق وإنشاء الطرق؛ ما يعني الاستيلاء على الممتلكات والأراضي الفلسطينية، وبدأ تنفيذ خطة التهويد بدخول 73 مستوطناً مدينة الخليل في 10/5/1968، حيث سكنوا فندق "النهر الخالد"، وأعلنوا نيتهم البقاء؛ بدعم من سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

وبدأ المستوطنون يمهدون للخروج من نطاق الحكم العسكري، ويطالبون بإقامة بعض الفعاليات التجارية والاقتصادية داخل المدينة، وخاصة في منطقة الحرم الإبراهيمي، حيث توجد مغارة "الماكيفلا" فأقاموا مطعم (كاشيد)، للزائرين اليهود، وحوانيت للأدوات الدينية والتذكارية، كموطىء قدم في زرع البؤر الاستيطانية حول الحرم الابراهيمي ووسط البلدة القديمة في الخليل.

وفي عام 1968، أقرت الحكومة الإسرائيلية بناء مدرسة دينية في الخليل، لتستقطب وتجلب دعاة التهويد والاستيطان.  وقد شجعت زيارة المستوطنين المستمرة لمنطقة الحرم، على تحويل جزء من المسجد الإبراهيمي إلى غرفة صلاة؛ تمهيداً للسيطرة على المسجد وجواره.
وفي أيلول من عام 1968، سمحت سلطات الاحتلال للمستوطنين بإقامة كنيس، مقابل المسجد الإبراهيمي؛ وتعد هذه الخطوة الأولى في خلق واقع جغرافي يهودي داخل مركز المدينة؛ وفي عام 1968، فتحت قوات الاحتلال مدخلاً وطريقاً جديداً إلى المسجد الإبراهيمي، وأقامت نقاط مراقبة عسكرية حول المنطقة.

أما عدد المستوطنات في المحافظة فبلغ 30 مستوطنة؛ إضافة لأكثر من 20 بؤرة استيطانية.

إنشاء الطوق الاستيطاني حول البلدة القديمة

بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي التفكير بإنشاء مستوطنة في محيط البلدة القديمة في مدينة الخليل لتكون مكانًا لاستقطاب مئات العائلات اليهودية للاستيطان في المدينة؛ لخلق واقع ديموغرافي وسياسي يصعب التعامل معه في المستقبل؛ فأنشئت مستوطنة "كريات أربع" عام 1970 من قبل غلاة المستوطنين المتطرفين على قمة جبل "بطن البيار" على مساحة 6100 دونم؛ وتم التخطيط لهذه المستوطنة لاستيعاب عشرة آلاف عائلة يهودية؛ بهدف تطويق المدينة من الناحية الشرقية أولا، ولتكون أيضا حلقة وصل بين البؤر الاستيطانية في البلدة القديمة والحرم الابراهيمي من خلال ربطها بمجموعة من الطرق والممرات؛ لخلق واقع جديد في المنطقة.  وتعد مستوطنة "كريات أربع" مقرًا لحركة "كاخ" الإرهابية، وأيضا للجمعية الاستيطانية (غوش أيمونيم)، ومنها انطلق الإرهابي الصهيوني "باروخ غولدشتاين" لتنفيذ مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994.

وفي عام 1983 أقيمت مستوطنة "رمات مامرية" أو ما تعرف باسم "تلة خارصينا"، نسبة إلى الموقع الذي بنيت عليه؛ وتبعد عن مستوطنة "كريات أربع" 1.5كم؛ وتبلغ مساحتها 3700 دونم؛ فيما يبلغ عدد الوحدات الاستيطانية وفق المخطط له 144 وحدة استيطانية، وهي تشكل مع كريات أربع طوقًا استيطانيًا يحول دون التمدد العربي باتجاه الشرق أولاً؛ ولجعل الاستيطان قريبًا من الحرم الابراهيمي؛ من أجل السيطرة عليه فيما بعد؛ بالإضافة إلى تحقيق التواصل الجغرافي مع البؤر الاستيطانية داخل البلدة القديمة في المدينة.

التمدد الاستيطاني داخل البلدة القديمة " سياسة البؤر الحاكمة "

أقيمت أولى البؤر الاستيطانية داخل البلدة القديمة عام 1978، باحتلال مجموعة من المستوطنين مبنى الدبويا وسط المدينة، وأطلق عليه المستوطنون فيما بعد اسم "بيت هداسا" ، وبعد "عملية الدبويا" الشهيرة عام 1980، وردًا عليها؛ قامت سلطات الاحتلال بهدم عشرات المنازل؛ من أجل توسيع البؤرة الاستيطانية ذات الموقع الاستراتيجي. ويسكن بها حاليًا 15 عائلة يهودية.  وفي عام 1983 اقيمت بؤرة قرب مبنى الدبويا عرفت باسم " بيت رومانو" بعد السيطرة على مدرسة "أسامة بن المنقذ" بادعاء أنها أملاك يهودية؛ وقامت بإضافة طابق آخر للمبنى، وحولتها إلى مدرسة دينية.  وفي عام 1984 أنشئت بؤرة استيطانية جديدة (أبراهام أفينو) على موقع أثري في تل الرميدة، وأغلقت سلطات الاحتلال سوق الخضار المركزي في البلدة القديمة، وتم تسليمه فيما بعد للمستوطنين لإقامة بؤرة استيطانية جديدة؛ بالإضافة إلى بؤر أخرى مثل "بيت حسون" و"بيت شنرسون"، ووفق تقرير لـ"لجنة إعمار الخليل" فإن المستوطنين استولوا على 20 % من العقارات الفلسطينية في قلب المدينة وحولوها إلى بؤر استيطانية؛ ويسكن في هذه البؤر حاليًا حوالي 800 مستوطن؛ ويحرسهم بشكل متواصل حوالي 1500 جندي إسرائيلي.

وبالنظر إلى مواقع هذه البؤر، نجد أنها تتمتع بموقع استراتيجي، ومطل على البلدة القديمة وبعض الأحياء في مدينة الخليل، وهي بؤر متصلة مع بعضها البعض، ومع مستوطنة "كريات أربع" بطرق معبده لتسهيل التنقل منها وإليها؛ بالإضافة إلى تسهيل الوصول إلى الحرم الابراهيمي.  وتسعى سلطات الاحتلال لتوسيع هذه البؤر بشكل مستمر من خلال اتباع سياسات عنصرية ضد السكان العرب، من خلال نشر عشرات الحواجز ونقاط التفتيش واغلاق تام لبعض الشوارع والأسواق؛ في محاولة لطرد السكان العرب والتضييق عليهم؛ بغية تهجيرهم من المكان؛ حيث قدر عدد المحلات التجارية المغلقة بحوالي 1829 محلًا تجاريًا، منها 520 مغلق بأوامر عسكرية خاصة في شارع الشهداء؛ والباقي مغلق من قبل أصحابها بسبب إغلاق الطرق ووضع الحواجز ونقاط التفتيش داخل أزقة البلدة القديمة؛ وادت هذه الإجراءات العنصرية إلى تهجير نحو ألف عائلة، خرجت من البلدة القديمة منذ عام 1967.

حواجز حدودية !

 لا يسمح لغير السكان الفلسطينيين بالدخول إلى داخل البلدة القديمة إلا بأذن خاص أو بتنسيق مسبق، والتي وضع على جميع مداخلها المتصلة بالأحياء الأخرى حواجز شبيهه بـ(المعابر الحدودية) من أجل التفتيش والتدقيق بالأسماء والتنكيل بالمواطنين.  ومن أهم الحواجز التي تنغص حياة الفلسطينيين اليومية داخل البلدة القديمة: حاجز شارع الشهداء، وحاجز مدرسة قرطبة، وحاجز أبو الريش، وحاجز الرجبي، وحاجز وادي الحصين، وحاجز أبو عيشة؛ بالإضافة إلى أغلاق بعض الممرات الضيقة بالأسلاك الشائكة ووضع البوابات الجديدة قرب التجمعات الفلسطينية داخل البلدة؛ من أجل الفصل بينهم وبين البؤر الاستيطانية.  ويشار إلى أن 21 حاجزًا عسكرياً إسرائيلياً منتشرة في أنحاء المحافظة.

تقسيم زماني ومكاني !

"في منطقة "هـ 2"، سيتم نقل المسؤوليات والصلاحيات المدنية إلى الجانب الفلسطيني، باستثناء تلك المتعلقة بالإسرائيليين وممتلكاتهم، والتي ستستمر الحكومة الإسرائيلية بمسؤولياتها عليها". فقرة ب من بند (11) اتفاقية الخليل.

وقد تم فرض التقسيم الزماني والمكاني على المسجد الإبراهيمي؛ حيث تسيطر إسرائيل على 60 % من مساحة المسجد؛ ولا تسمح للفلسطينين بدخوله، إلا بعد إجراءات أمنية مشددة على مداخله التي تنتشر عليها نقاط تفتيش، وأجهزة للكشف عن المعادن.  وفي أحيان كثيرة لا يرفع الأذان من المسجد الإبراهيمي بذريعة إزعاج المستوطنين داخل البلدة القديمة.

وتفرض إسرائيل الإغلاق الشامل على المسجد الابراهيمي ومحيطه في الأعياد اليهودية؛ وتسمح للمستوطنين بإقامة صلواتهم واحتفالاتهم دون أي عوائق؛ ما انعكس سلباً على السياحة الدينية للمسجد الإبراهيمي، وفي البلدة القديمة، بفعل الاجراءات المشددة التي تفرضها إسرائيل على زوار المسجد من المسلمين.

بالإضافة إلى اعتداءات المستوطنين المستمرة ضد السكان الفلسطينيين بشكل متواصل، من عمليات دهس، والقاء حجارة، وشتائم... وغيرها؛ حيث شهد هذا العام 3 عمليات دهس في البلدة القديمة من قبل المستوطنين، بالإضافة إلى القاء الحجارة والاوساخ على بيوت السكان، ومحاولتهم الدائمة السيطرة على بيوت أخرى، كما حدث مؤخرا مع عائلة الرجبي.

بلدية للمستوطنين... المسمار الأخير

"استناداً إلى الفقرة "5" من المادة "7" من الملحق الأول من الاتفاق الانتقالي ستقدم الخدمات البلدية بشكل منتظم ومستمر لجميع أرجاء مدينة الخليل بنفس المستوى والتكلفة، وستحدد التكلفة من قبل الجانب الفلسطيني للعمل الذي أنجز حسب المواد المستهلكة ودون تفرقة." بند (17) من اتفاقية الخليل.

بتاريخ 31/8/2017 أصدر ما يسمى "قائد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي" أمراً عسكرياً يحمل الرقم "1789" بإنشاء مجلس محلي للبؤر الاستيطانية الموجودة في قلب البلدة القديمة بمدينة الخليل، ومنحها سلطات إدارية بلدية مطلقة لتقديم الخدمات المحلية ولإدارة شؤون مستوطنيها بنفسها، في مخالفة واضحة للبند المشار إليه أعلاه من اتفاق الخليل. ويحمل هذا القرار في طياته أبعاداً عنصرية واستيطانية خالصة ضد المواطنين الفلسطينيين، ويعني هذا القرار أن 800 مستوطن سيتحكمون بـ 40 ألف مواطن فلسطيني يعيشون داخل البلدة القديمة؛ ومن شأن هذا القرار أن يعزز من الوجود الاستيطاني من خلال تطوير الخدمات المقدمة للبؤر الاستيطانية، والعمل نحو تحسين البنى التحتية التي تخدم الوجود الاستيطاني بشكل منفصل عن السكان الفلسطينيين؛ بالإضافة إلى منع البناء الفلسطيني داخل أحياء البلدة القديمة، وزيادة الضرائب على السكان وإصدار رخص البناء؛ لتعزيز البؤر الاستيطانية وتوسيعها، ويتعارض الأمر العسكري مع قرار اليونسكو الأخير، الذي بموجبه تم إدراج البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل ضمن قائمة مواقع التراث العالمي الإسلامي. 

ويمثل هذا الأمر العسكري الاخير تحدياً أمام المنظمة الدولية في الدفاع عن قرارها، ومحاولة إلزام دولة الاحتلال بإلغاء الأمر العسكري الصادر عنها والذي أعطى صلاحيات للمستوطنين لإدارة شؤونهم بأنفسهم لأنه سيؤدي في النهاية إلى ابتلاع ما تبقى من قلب مدينة الخليل وفصلها نهائيًا عن باقي أحياء المدينة العربية.

المصدر: مركز عبدالله الحوراني للدراسات والتوثيق التابع لمنظمة التحرير الفلسطيني/ ورقة حقائق عن الاستعمار الاستيطاني في مدينة الخليل بعنوان "سرطان اسود يلتهم قلب الخليل" 11 أيلول 2017