تاريخ التطور العمراني في فلسطين

منذ أقدم العصور وحتى القرن العشرين برزت حضارتان رئيستان في فلسطين، هما الحضارة الكنعانية والحضارة العربية الإسلامية. وبالرغم من أن الحضارات القديمة الكبرى قد انحصرت بالحضارة الكنعانية إلا أن هذا  لا يلغي أهمية الحضارات الأخرى المتعددة التي أثرت وتأثرت بالحضارة الكنعانية. 

وللحديث عن التطور العمراني في فلسطينK يمكننا بشكل أساسي تناول الحضارتين الكنعانية والعربية الإسلامية.

أولا": الحضارة الكنعانية:

مما لا شك فيه إطلاقا أن الكنعانيين كانوا أول من سكن المنطقة من الشعوب المعروفة تاريخيا، وأول من بنى على أرض فلسطين حضارة. لم يكن الحكم على أرض كنعان موحدًا؛ فقد كانت تتكون من دويلات تتقاتل فيما بينها، لذلك اشتهر الكنعانيون ببناء القلاع والأسوار لحماية أنفسهم.

لقد توصل الكنعانيون إلى بناء الصهاريج فوق السطوح، وحفر الأنفاق الطويلة تحت الأرض لإيصال المياه إلى داخل القلاع. ومن أهم هذه الأنفاق نفق يبوس (القدس) الذي حفره اليبوسيون لنقل المياه من نبع جيحون إلى حصن يبوس ، ولذلك صمدت القلعة ثلاثمائة سنة أمام الإسرائيليين.

لقد برع الكنعانيون في فن العمارة، فبنيت منازل الملوك والأغنياء داخل الأسوار من الحجارة المنحوتة، وهي عادة تتكون من باحة في الوسط وحولها الطرق، وحتى البيوت العادية، فقد كان فيها آبار للمياه وعنابر القمح ونوافذها تطل على الباحة.
 أما بيوت الفقراء فكانت من اللّبن والحجارة غير المنحوتة.

ثانياً : الحضارة العربية الإسلامية:

تواصلت الحضارة العربية الإسلامية دون انقطاع ثلاثة عشر قرناً من الزمن تواصلاً طبيعياً. وما أن انتهت فتوحات الشام في عهد الخلفاء الراشدين، حتى ابتدأت هيكلية الدولة المنظمة تظهر في عهد عمر بن الخطاب، فهو أول من نظم الدواوين  (الوزارات)، وأول من وضع نظاماً للبريد، وأول من عين القضاة، وأول من أنشأ الكتاتيب (المدارس)؛ فقد أرسل عمر بن الخطاب العلماء إلى فلسطين، وكان على رأسهم معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن غنم، وعبادة بن الصامت، وهو أول قضاة بيت المقدس. وبنى المساجد في عموم فلسطين، ومنها بيت المقدس (مسجد عمر)، وقام بتشييد المدن.

 وأعاد عبد الملك بن مروان بناء عسقلان التي دمرها البيزنطيون، ورمم المساجد والأحياء في قيسارية وعكا، وكان بناء مسجد الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المبارك من أهم أعماله، حيث أتمه من بعده ابنه الوليد. ويعدّ المسجد الأقصى من المباني الفخمة بما يحتويه من القبب والأعمدة الشاهقة والرخامية المنقوشة. 
 
وشيَّد الوليد بن عيد الملك المصانع والمستشفيات والآبار وأصلح الطرق، كما بنى مدينة على ضفاف بحيرة طبريا الشمالية. 
وبنى سليمان بن عبد الملك مدينة الرملة، وجعلها من أهم المدن عمراناً وحضارة.

 وبنى هشام بن عبد الملك كفر لام (قضاء حيفا)، وبنى العديد من القصور منها قصر هشام في أريحا. 
 
واهتم العباسيون ببيت المقدس  وعمروا الحرم الشريف ورمموه،  وأقيم في عهدهم سوق كبير  يؤمه التجار من الأمم المختلفة في بيت المقدس.
 
وفي عهد المأمون أصاب الزلزال فلسطين وتأثرت مباني الحرم المقدسي، وتولى المأمون الإشراف على عمارة قبة الصخرة. 
 
والعهد العباسي تقدم العلم وأصبحت المساجد معاهد للعلم وفي كل منها مكتبة لطلاب العلم، وقد اتصف هذا العهد بالعدل الشامل والاستقرار والأمن.
 
وفي عهد الطولونيين تم بناء قلعة يافا، وإنشاء القاعدة البحرية في عكا وتقوية حصونها، وإقامة حدائق الحيوانات.
 
وفي عهد الفاطميين عاد للعلم مكانته وتم بناء الأزهر الشريف، فقد حول الجامع إلى جامعة. وقيل إن مكتبته كانت تحتوي على مئتي ألف كتاب، وفي عهدهم شرع ببناء سور القدس الشهير، كما بنوا سوراً للرملة.

ومن مآثر الفاطميين الاهتمام بالمستشفيات؛ فقد بنوا مستشفى كبيرًا في بيت المقدس، واهتموا ببناء الخانات لتسهيل أمور التجارة وبناء الكتاتيب.
 
وفي العهد الصليبي، انتشرت حركة عمرانية بارزة تأثرت بها البلاد حتى بعد خروجهم؛ فقد اشتهروا ببناء الكنائس وترميم ما تهدم منها، وبناء القلاع والمستشفيات، كما بنوا أسواقاً تجارية في مدينة القدس...
 
 أماالقلاع الصليبية؛ فكانت على نمط القرون الوسطى في أوروبا، ومن أهمها: عتليت، وأرسوف، والقصطل، وعسقلان...وغيرها.
 
وفي عهد الأيوبيين، تم استكمال بناء سور القدس وإنشاء المدارس، ومن أهمها: المدرسة الصلاحية، وأنشأ البيمارستان (المستشفى) في قلب مدينة القدس. وكان التدريس في عهد الأيوبيين وقفاً على الكتاتيب والجوامع، وعرفت في فلسطين المدارس العلمية، وبلغ عددها سبعة في القدس، وقد احتوت كل منها على مكتبة ضخمة، كما أضاف الأيوبيون إلى الحرم الشريف والى حرم الخليل المنابر والأروقة، وأنشئوا العديد من المساجد والمباني، وبنوا القلاع في أكثر من مكان للحماية. ومن آثارهم في القدس: الخانقاة الصلاحية (الرباط الصلاحي ).

وفي عهد السلطان بيبرس (عهد المماليك)، كان التقدم في العلم والعمران يسيران على خطين متوازيين هما: صدّ المغول وإخراج الصليبيين، والقيام بالإصلاحات العديدة في الزراعة والري وتنظيم البريد. وفي عهده جدد ما تهدم من قبة الصخرة كما جدد في حرم الخليل، وأقام العديد من الجوامع والمشاهد للأنبياء والصحابة الأوائل؛ فقد بنى على مقام النبي موسى قبة ومسجدا"، وجدد سماط إبراهيم الخليل. وأنشأ الطرق والجسور والأبراج وحصون المدن والمدارس.

وفي غزة أنشئت مكتبة ضمت الآلاف من الكتب، وظهرت النقوش والزخارف والحجارة المتعددة الألوان.

وفي مدينة القدس وحدها وجد حتى حرب حزيران 1967 ثمان وتسعون بيتاً من العهد المملوكي، ولعل أجمل مبانيها قصر المظفرية. 
 
وفي عهد العثمانيين أنشأ السلطان سليم في فلسطين قلاعاً ومنشآت متعددة مثل المدارس والجوامع، وعمرت في عهده قرية دير الأسد قضاء عكا. 

وكان لعهد الجزار آثارًا ظاهرة في عكا؛ فقد بنى بها سورين وثكنة عسكرية وسوقاً تجارية وحمامات وخانات، كما بنى الجامع الشهير باسم جامع الجزار، كما جدد مبان عديدة في مدينة يافا، وأقام سدًا ضخمًا وجامعًا، وجرت إصلاحات عمرانية كبيرة.
 
ومن عوامل نشأة وتطور المدن في فلسطين:-

1- العامل الجغرافي: أقيمت عدة مدن فلسطينية لتؤدي وظيفة حربية، تتمثل في حمايتها من الأخطار الخارجية والغزوات القبلية؛ فقد أنشئت بعض المدن على قمم الجبال والتلال، كمدن: نابلس، ورام الله، وبيت لحم، والخليل، و غزة.

2- العامل التجاري: أنشئت مجموعة من المدن لخدمة الطرق التجارية التي كانت تمر من بلادنا فلسطين، وهذا ما يفسر وجود المدن الساحلية على طرق التجارة بين مصر والشام و العراق ، وأقام المماليك مدينة خانيونس على طريق تجارتهم، كما وجدت بعض المدن كموانئ تجارية مثل يافا وحيفا وأسدود وغزة.

3- العامل الديني: تنتشر الأماكن المقدسة في معظم المدن الفلسطينية، فمدينة الخليل بها قبر الخليل إبراهيم عليه السلام، (الحرم الإبراهيمي)، والقدس بها المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، و مدينة بيت لحم بها كنيسة المهد، و مدينة الناصرة بها كنيسة البشارة؛ فلذلك تجمع السكان في هذه المدن.

4- عامل التربة والمياه والمناخ: توفرت في مدن فلسطين التربة الزراعية الخصبة والمياه والمناخ المعتدل؛ فلذلك وجدت المدن بالقرب من السهول الساحلية، وشهدت كثافات عالية من السكان.