خلفية تاريخية - التخطيط العمراني في فلسطين

تأثر التخطيط العمراني المحلي الفلسطيني تاريخيًا بالأحداث والأنظمة السياسية التي توالت على فلسطين، وقد بدأت السلطات المحلي(المجالس البلدية) في فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على ضوء قوانين الدولة العثمانية وخاصة قانون إدارة الولايات لعام 1871م والذي نص المادة 111  منه على تشكيل المجالس البلدية في مراكز الولاة والمتصرفين وكذلك قانون البلديات لعام  1877 م والذي يعتبر الأساس القانوني والمرتكز التنظيمي لتركيبة المجالس البلدية وعمل البلديات في العهد العثماني. ويتضح من ذلك القانون مدى محدودية تمثيل المجالس البلدية للسكان من جهة وشدة ربط وتعلق البلديات بالسلطة المركزية وتعزيز المركزية الإدارية وذلك من خلال تقليص دور الهيئات المحلية وتحديد الصلاحيات الممنوحة لها وحصرها في مهمات خدمية محددة. وإضافة إلى البلديات هناك مستوى في القرى عرف باسم (مجالس القرى)  من خلال مجلس (اختيارية القرية).
 
وبموجب هذا القانون فقد أقر نظام الترخيص بالبناء في المدن، كما وضعت قواعد لاستملاك الأراضي لغرض تشييد الطرق وللتطوير الإقليمي، وفرض هذا القانون ضرائب تجبى من أولئك الذين ترتفع قيمة أراضيهم بعد إنشاء طريق جديد وشدد التخطيط خلال فترة الحكم العثماني على عدة نواحي تنظيمية مثل الطرق والمباني، خاصة في المدن.

لقد ترك العثمانيون فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى وبها 22 مجلسًا بلديًا، وهي:عكا- حيفا- شفاعمرو- صفد- الناصرة- طبريا- بيسان-جنين- طولكرم- نابلس -رام الله -القدس -اللد - الرملة -يافا -بيت جالا -بيت لحم - ( الخليل-بئر السبع-المجدل-غزة-خانيونس).

أما في فترة الحكم البريطاني التي بدأت في العام 1917 م، فيمكن الحديث عن مرحلتين تأثرت بهما المجالس المحلية :

المرحلة الأولى مرحلة الاحتلال العسكري: استمر العمل في البداية وفقًا لقانون البلديات العثماني لعام 1877 م، وفي عام 1921 م تم استحداث نظام جديد باسم "نظام الهيئات المحلية"، حيث تمثل كل هيئة مجموعة من القرى أو المستعمرات ولم يتقيد الاحتلال رغم ذلك بإجراء انتخابات للمجالس البلدية أو مجالس اختيارية القرى، إضافة إلى إلغاء العمل بالنظام العثماني بشأن انتخاب المختارين وأصبح المختار يعين من قبل الإدارة العسكرية.

أما في المرحلة الثانية وهي مرحلة الانتداب: فقد تضمن صك الانتداب لعام 1922  أن تكون الدولة المنتدبة مسئولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية، وتضمن إنشاء الوطن القومي لليهود، وترقية مؤسسات الحكم الذاتي، وقد أثر ذلك في زيادة مجالس المستعمرات، فيما فرضت وصاية على البلديات والمجالس العربية سواء من حيث اختيار الممثلين أو الموازنات أو تنفيذ المشاريع.

وفي عام 1934 م وضع قانون جديد للبلديات على نسق أمثاله في المستعمرات البريطانية من حيث المركزية الشديدة، وبموجبه تم إلغاء القانون العثماني لعام1877 م، وقد تضمن القانون الجديد سلطات مطلقة للمندوب السامي من حيث حقه في حل البلديات وتغيير حدودها وتعيين الرئيس وإلغاء نتائج الانتخابات وتصديق الموازنات، وبشكل عام فإن عدد البلديات في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني أصبح 24 بزيادة بلديتي عما كان في العهد العثماني هما تل أبيب (تل الربيع) وبتاح تكفا (ملبس)، فيما أصبح هنا 38 مجلسًا محليًا منها  11 مجلسًا عربيًا والباقي مجالس يهودية.

خارطة تبين  الأقضية والبلديات الفلسطينية حسب التقسيم الإداري للانتداب البريطاني من عام (1917-1984)

أعدت سلطات الاحتلال البريطاني تشريعًا جديدًا لتخطيط المدن يعتمد على التجربة التي بدأت تتطور في بريطانيا خلال العقد الأول من القرن العشرين، حيث ظهر مصطلح "تخطيط المدن" أول مرة عام 1906 م. ومع تأسيس نظام تخطيط المدن في بريطانيا عام 1909م، وذلك لتخطيط المناطق والمواقع وحل المشاكل الحضرية والبيئية والاجتماعية التي خلفتها الثورة الصناعية، نفذ البريطانيون تخطيط المدن في الدول التي تقع تحت انتدابهم (مثل الهند ونيجيريا وماليزيا وفلسطين).

وعند تحول الحكم العسكري البريطاني في فلسطين إلى انتداب عام 1922 أقرت قوانين تخطيط المدن، لكنها كانت تسري على المدن فقط، حيث شرع بإعداد مخططات هيكلية وتنظيمية في المدن الفلسطينية كالقدس وحيفا ويافا ونابلس وبئر السبع وغزة، وتم إقرار مخططات للإنشاءات وترخيص المباني وشق الطرق على المستويين المركزي والمحلي. وبقي مرسوم تنظيم المدن ساري المفعول حتى عام 1936  عندما أقر نظام جديد أضاف المستوى الإقليمي إلى المستويين المركزي والمحلي، ومع امتداد الانتداب البريطاني على فلسطين والأردن جرى تغيير نظام تخطيط المدن في بريطانيا الصادر في عام 1932  إلى نظام التخطيط لعام 1936، الذي تم إقراره في فلسطين ليكون أساسًا قانونيًا لبناء مؤسسات التخطيط حتى صدور القانون رقم 31 لعام 1955 لتخطيط المدن والإنشاءات في الضفة الغربية بموجب أمر تخطيط المدن لعام 1936  تم تقسيم فلسطين إلى ست مناطق، حيث شرع كل منها بإعداد مخططات إقليمية في عام 1937، وفي عام 1942.

بدأ الاستشاري لتخطيط المدن والمندوب السامي يصادق على المخطط. تكونت مؤسسة التخطيط بموجب أمر تنظيم المدن لعام 1936 من ثلاثة مستويات: اللجان المحلية في المدن، اللجان الإقليمية المسئولة عن التخطيط والتصديق على مخططات الأقاليم، والمستوى المركزي الذي يشمل استشاري تخطيط المدن والمندوب السامي بصفته السلطة العليا المسئولة عن الانتداب البريطاني في فلسطين، وقد كان مكتب الاستشاري لتخطيط المدن (برئاسة المعماري والمخطط هنري كندل) منذ عام 1935 م إلى عام 1948 هو الذي يقوم بإعداد المخططات الإقليمية والمحلية وكذلك المصادقة عليها.

وعند انتهاء الانتداب البريطاني في عام 1948 م، تم تقسيم فلسطين إلى ثلاثة مناطق سياسية إدارية (ما يعرف بإسرائيل، الضفة الغربية وقطاع غزه)، حيث خضعت هذه المناطق تحت إدارات سياسية مختلفة بما في ذلك قانون التنظيم والبناء. فكانت المنطقة التي أقيمت بها إسرائيل تشكل حوالي 70%  من مساحة فلسطين الانتدابية وتدار بواسطة حكومة جديدة ذات سيادة لإصدار قوانين وإعداد خطط وإدارة تنميتها حسب حاجتها.

أما منطقة الضفة الغربية فقد خضعت تحت السيادة الأردنية والتي قامت بإصدار قانون تنظيم وأبنية معدل رقم ( 79) لعام 1966 م، وقبله كان قد صدر قانون تنظيم المدن لعام 1955م.

أما منطقة قطاع غزه فخضعت للإدارة المصرية والتي أبقت قانون تنظيم المدن لعام 1936 ساري المفعول رغم بعض التعديلات الجزئية عليه.

هذا التقسيم السياسي والإداري ساهم في تغيير جزئي بمضامين وقوانين التخطيط العمراني ومؤسساته، رغم أن روحه وماهيته بقيت. هذه القوانين وهيكلية المؤسسات التخطيطية صُدِرت لفلسطين من دول ومجتمعات تختلف عنها من ناحية ثقافية ،اجتماعية، بنيوية، سياسية وإدارية وتم فرضها على المجتمع الفلسطيني دون ملائمة وتناسب.

 خلال فترة الحكم الأردني للضفة الغربية، تم استحداث مجموعة من القوانين البلدية منها قانون البلديات للأعوام 1951 و1954 و1955، وقد بلغ عدد البلديات في العهد الأردني (25) بلدية بإضافة بلديات "أريحا- البيرة- قلقيلية-يعبد -بيت ساحور -عنبتا -طوباس -سلفيت -دير دبوان- حلحول -بير زيت -عرابة -بيتونيا -سلواد -بني زيد -قباطية -ودورا"

وفي قطاع غزة فقد أصدرت الإدارة المصرية قانون عام 1955  والمتضمن العمل بالقوانين الفلسطينية القائمة قبل عام 1948، وهذا يعني استمرار العمل بقانون البلديات عام 1934 م وقانون إدارة القرى لعام 1944 م، وقد اقتصرت المجالس المحلية في مرحلة الإدارة المصرية على بقاء بلديتي غزة وخانيونس وثلاث مجالس قروية. 

خارطة تبين ألوية ومحافظات الضفة الغربية وقطاع غزة حسب التقسيم الإداري الأردني والمصري ما بين عامي (1967-1948)

لم تقم السلطات الأردنية بتعديل نظام التخطيط البريطاني، ولم يتجاوز عملها غير إعداد مخططات هيكلية لبعض المدن.أما من حيث سلطات التخطيط ومؤسساته، فقد تضمن القانون رقم  79  لعام 1966 م ثلاثة مستويات من السلطة:
1. مستوى وطني ممثل بوزير الداخلية ومجلس التخطيط الأعلى؛
2. مستوى إقليمي ممثل بإقامة لجان البناء في الأقاليم والمدن والقرى؛
3. مستوى محلي ممثل بتشكيل لجان محلية لتنظيم المدن والمناطق المحلية.

كما سمح القانون بإقامة لجان مشتركة ولجان محلية وإقليمية، وأعطى الوزير صلاحيات لمنح بعض المجالس القروية سلطات لجان التخطيط المحلية.

إلا أن الفترة الأردنية لم يواكبها تطوير ملحوظ في حقل التخطيط والبناء، وذلك بسبب حجم التطور المحدود في المجتمع الفلسطيني نتيجة للهجرة السكانية الكبيرة من المدن والقرى الفلسطينية إلى الخارج بعد حرب عام 1967، إضافة إلى أن الاهتمام بتطوير الضفة الشرقية من نهر الأردن كان له الأولوية على حساب تطوير الضفة الغربية وبعد أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزه عام 1967 أقامت هياكل تخطيطية ظلية تابعة عمليًا لمؤسسات التخطيط الإسرائيلية، وقامت بإجراء تعديلات لقوانين التخطيط ومؤسساته بموجب أوامر عسكرية بما يتناسب مع زيادة الضبط والرقابة الإسرائيلية على التطور العمراني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

خلال هذه الفترة أعدت مخططات هيكلية محلية لبعض المدن ولاحقًا لمعظم القرى، كما انه تم إعداد مخططات إقليمية شاملة وقطاعية لبعض المناطق في الأراضي الفلسطينية كما هو الأمر بالنسبة لمخطط جزئي إقليمي للطرق بموجب الأمر العسكري رقم 50 عام 1979، هذه المخططات جاءت لتحقيق هدف واضح وهو تنظيم الحيز الإقليمي لأجل تحقيق المصالح والأهداف الإسرائيلية.

في هذه الفترة كانت مشاركة الفلسطينيين في مؤسسات التخطيط وإدارته كمتخذي قرار محدودة، فحتى استلام السلطة الوطنية الفلسطينية لم تكن السلطة لإدارة التخطيط وإعداده بأيدي الفلسطينيين، بل كانت مفروضة عليها بمستويات وبأشكال مختلفة، كما أن الربط بين التخطيط ومصادرة الأراضي لحساب السلطة المحتلة كانت من مميزات النظرة الفلسطينية للتخطيط ولذلك عارضته، خاصة وان التخطيط العمراني كان تدرجي يفرض من قبل السلطة الإسرائيلية المحتلة ويأتي لخدمة اعتباراتها وسياستها الاستيطانية.

إن الفترة الطويلة التي مرت في ظل الاحتلال كان له اثر مباشر على عملية التخطيط ومؤسساته التي تقام وتبنى خلال الفترة الانتقالية 1995.

وكانت بداية المشاركة الفلسطينية بعملية إعداد مخططات هيكلية في منتصف الثمانينات حيث أعدت مخططات هيكلية محلية لبعض المدن والقرى الفلسطينية، وقد لبت هذه المخططات جزء من احتياجات الفلسطينيين، إلا أن معظمها لم تلق قبولا وتصديقًا من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي والتي كانت تمتلك السيطرة على اتخاذ القرار بشأن هذه المخططات. أما على المستوى المحلي فقد أعدت مخططات خاصة بين عام  1985 و1993.