البلدة القديمة بمدينة غزة من أقدم المدن المتجذرة في عمق التاريخ، تعاقبت عليها العديد من الحضارات؛ نظراً لموقعها الجغرافي المهمّ؛ ما ساهم في رسم طابع معماري خاص بها في كل حقبة تاريخية، فقد كانت البلدة القديمة بغزة تتكون من أربعة أحياء، هي: الدرج، والزيتون، والشجاعية، والتفاح. وكان يحيط بها سور شبه دائري، له ثمانية أبواب، هي: باب البحر، وباب ميماس، وباب البلاخية، وباب عسقلان، وباب الخليل، وباب المنطار، وباب الداروم.
ومع مرور الزمن، امتدت البلدة القديمة وتوسعت مساحتها، وتمدد البناء الخرساني الجديد؛ فساهم في تهدم واندثار العديد من المباني القديمة. وتدريجياً اختفت ملامح البلدة القديمة ولم يبقَ إلا العدد القليل من المباني الأثرية.
وبناءً على أعمال المسح الميداني والتوثيق التي قام بها مركز عمارة التراث "إيوان" ووزارة السياحة والآثار في قطاع غزة، فإن عدد البيوت التقليدية التي ما تزال قائمة داخل البلدة القديمة هو ما يقارب 146 بيتًا، وتمثل حوالي 80% مما هو متوفر من مبانٍ تقليدية؛ أما الجزء المتبقي فهو عبارة عن مبانٍ عامة كالمساجد والكنائس والزوايا والمدارس والمقابر والأسواق والحمامات والأسبلة، ومعظم هذه المباني تعود إلى الفترة المملوكية والعثمانية. وتتوزع البيوت التقليدية على أحياء البلدة القديمة، بحيث تركزت في أحياء الدرج والزيتون والشجاعية، والعدد الأكبر منها مهجور وغير مستخدم، ومنها ما يزال مسكونًا كمبنى سكني أو كمراكز ثقافية لخدمة المجتمع.
تميزت البيوت التقليدية بالبساطة الشديدة في تصميمها وتشكيلها المعماري والذي اعتمد على مبدأ التوجيه إلى الداخل؛ وذلك لتحقيق أكبر قدر من الخصوصية تبعاً لفلسفة المجتمع الشرقي ومبادئ الإسلام، فكان المسقط الأفقي للبيت التقليدي يأخذ في الأغلب الشكل الرباعي الذي تلتف حوله جميع فراغات وعناصر البيت، وتتجمع المساقط الأفقية للبيوت المتجاورة لتشكل كتلاً بنائية متلاحمة جنباً إلى جنب، ولا يظهر منها إلا واجهة واحدة تطل على الزقاق، وهذا المفهوم يؤدي إلى حماية أحدها الآخر من أشعة الشمس صيفاً، وزخات الأمطار شتاءً.
النظام الإنشائي الذي بنيت فيه البيوت التقليدية في مدينة غزة هو نظام الحوائط الحاملة، ومادة البناء الأساسية هي الحجر الرملي، بالإضافة إلى الحجر الجيري والرخامي والفخار والطين. وتميزت بعناصر معمارية فريدة تجسد بها فلسفة وروح العمارة الإسلامية كالمدخل المنكسر والمزيرة والفناء الداخلي والإيوانات والقباب والكوات المعمولة داخل الجدران وغيرها، وما يزال يوجد نماذج مميزة جدًّا من البيوت التقليدية في البلدة القديمة بغزة وغنية بعناصرها الفريدة شاهدة على عراقة وأصالة المدينة.
أحياء البلدة القديمة:
حي الدرج
يقع حي الدرج وسط مدينة غزة، وتبلغ مساحته 2432 دونمًا، أي بنسبة 8,8% من جملة مساحة المدينة؛ وتعود تسميته إلى الحقبة العثمانية؛ حيث سمي بذلك بسبب التدرج الطبوغرافي له؛ وكان يسمى سابقاً "حي بنى عامر" نسبة لقبيلة بنى عامر العربية التي سكنته مع بداية الفتح الإسلامي؛ ثم حي "البرجلية" نسبة للمحاربين المدافعين عن أبراج المدينة في العصر المملوكي.
ويضم الحي العديد من الحارات منها: السيد هاشم, والسدرة, وقرقش, والفواخير, وبني عامر. وبلغ عدد سكانه (عام 2015)، حوالي 52 ألف نسمة.
ويحتل الحي قلب المدينة التَلِّيَّة القديمة التجاري والعمراني، وتميز بأسواقه القديمة، ومنها "سوق القيسارية" الذي ما زال ماثلاً حتى اليوم، و"خان الكتان" المندثر و"سوق الغلال" الذي ما زالت أجزاء من آثاره باقية حتى اليوم. أما منازله الأثرية وأحياؤه، فما زال بعضها يحتاج إلى الترميم حتى اليوم؛ فكانت شوارعه مسقوفة يطلق عليها "السباط" مثل سباط المفتي الذي أزيل في الستينات من هذا القرن.
وكان -وما زال إلى الغرب من هذا الحي- وبالقرب من سفحها الغربي يوجد "حارة الفواخير" التي اشتهرت بصناعة الفخار، وبهذا الحي أنشأ المسلمون العديد من المساجد والزوايا والحمامات والمدارس والمكتبات، ومن أهمها الجامع العمري الكبير، ويقع وسط المدينة بحي الدرج.
ومن مساجد هذا الحي الأثرية مسجد الشيخ خالد، ومسجد الشيخ زكريا، ومسجد الوزيري، والزاوية الأحمدية، وجامع السيد هاشم الذي يعتقد بأن السيد هاشم (جد الرسول صلى الله عليه وسلم) مدفون فيه، والراجح أن المماليك هم أول من أنشأه، وقد جدده السلطان العثماني عبد المجيد سنة 1266 هجري، وعمَّره المجلس الإسلامي الأعلى بعدما خربته قنبلة أثناء الحرب العالمية الأولى. كما كانت بهذا الحي حمامات مثل: حمام السوق، وحمام العسكر. لكنها اندثرت.
ومن أهم بناياته الأثرية الماثلة حتى اليوم، قصر الباشا أو ما عرف بقصر "آل رضوان" والذي يطلق عليه خطأ "قلعة نابليون" بجوار مدرسة الزهراء الثانوية للبنات حالياً ذات النمط العمراني وأسلوب البناء الذي يتألف من طابقين بهما غرف ذوات شبابيك لا توحي وظيفياً بقلعة عسكرية، وقد تم بناء هذا القصر في الفترة العثمانية، يوم كان أمراء غـزة من آل رضوان يحكمون المدينة في بداية الفترة العثمانية وحتى القرن السابع عشر تقريباً؛ كما يبدو من حجارته ذات النقوش والزخارف الإسلامية النباتية والهندسية، وبعضها التي ربما نقلت من بناءات مندثرة كتلك التي نقش عليها أسود ربما تعود لأيام الظاهر بيبرس الذي اتخذ من نقش الأسد رمزاً له سنة 1260-1277م؛ أما نابليون بونابرت فقد اتخذ من هذه البناية مقراً له لعدة أيام أثناء غزوه مدينة عكا سنة 1799م.
حي الزيتون
حي الزيتون أكبر أحياء مدينة غزة من حيث المساحة (نحو 9156 دونمًا) وثاني أكبرها من حيث عدد السكان البالغ نحو 78 ألف نسمة، (عام 2015)، ويقع في قلب المدينة القديمة، ويحتل نصفها الجنوبي تقريباً (جنوب شارع عمر المختار).
سمي حي الزيتون بهذا الاسم لكثرة أشجار الزيتون التي ما زالت تغطي معظم أراضيه الجنوبية حتى اليوم، رغم ما دمره الاحتلال الإسرائيلي في اجتياحاته المتكررة للمنطقة.
وكان الحي القديم يمثل الجزء المكمل لحي الدرج تجارياً وسكنياً قبل الحرب العالمية الأولى عندما كانا يمثلان كتلة عمرانية واحدة قبل شق شارع "جمال باشا" إبان الحرب الأولى، والذي سمي فيما بعد وفي الثلاثينات من هذا القرن باسمه الحالي (شارع عمر المختار)؛ لذا فقد كان فيه العديد من الأسواق مثل "سوق السروجية" التي وصفها "أوليا جبلي" سنة 1649م بأنها رائجة، وسوق النجارين … الخ.
ويوجد في هذا الحي العديد من بيوت الله الأثرية، كجامع الشمعة الذي اندثرت معالمه القديمة، وقصف في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، صيف العام 2014، ومسجد "العجمي"، وجامع "كاتب الولاية" الذي ما زال يحتفظ بتراثه القديم وخاصة مئذنته التي جاء على أسفلها كتابة تعود لسنة 735م نقشت على بلاطة رخامية في سطرين كما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمارة هذه المئذنة مولانا المقر الأشرفي السيفي أفنان العلاني نائب السلطنة الشريفة بغزة المحروسة ابتغاء لوجه الله تعالى في مستهل ذي الحرام سنة خمس وثلاثين وسبعمائة".
ويتوسط الكتابة هذه رنك دائري مركب يتألف من مقلمه أسفلها كأس في الوسط، وأسفله زهرة السوسن، ثم جرى ترميمه وإعادة بنائه على يد أحمد بك (كاتب الولاية في عهد السلطان العثماني مراد) سنة 925 هجري كما جاء على بلاطة رخامية أعلى عتبة الباب الرئيسي للجامع.
وكانت عند الطرف الجنوبي لهذا الحي مقبرة يطلق عليها "تربة الشهداء" يتوسطها أعمدة رخامية نقشت عليها أسماء العديد من الشهداء الذين استشهدوا في الحروب ضد الغزاة وهم يدافعون عن المدينة، لذا كان يطلق عليه أحياناً وحتى اليوم "حارة العواميد"، ومن آثار هذا الحي الدينية أيضاً كنيسة "بيرفوريوس" والتي بنيت في القرن الخامس الميلادي، كما جاء على بلاطة صغيرة أعلى عتبات باب الكنيسة، وفيها قبر الأسقف "بيرفوريوس".
حي الشجاعية
يقع حي الشجاعية إلى الشرق مباشرة من المدينة التَلِّيَّة القديمة، وتبلغ مساحته الإجمالية حوالي 14305 دونمات، ويضم حي الشجاعية 4 مناطق سكنية وهي:
- التركمان (2895 دونمًا)، وبلغ عدد سكانها (عام 2015)، نحو 54 ألف نسمة.
- التركمان الشرقية (3700 دونم)، وتمتاز بأنها أراضي زراعية، ولا يوجد فيها الكثير من المباني.
- الجديدة (2760 دونمًا)، ويبلغ عدد سكانها (عام 2015)، نحو 57 ألف نسمة.
- الجديدة الشرقية (4950 دونم).
بُنى حي الشجاعية خارج أسوار مدينة غزة التلِّيَّة، وعند نهاية سفوحها، خلال عهد الأيوبيين. يسكنه أكثر من 110 ألف نسمة (عام 2015)، وازدهر في الحقبة المملوكية. ويعمل معظم سكانه في صناعات خفيفة مثل الخياطة والزراعة وغيرها.
وتعود تسمية حي الشجاعية إلى الشهيد "شجاع الدين الكردي" الذي استشهد في إحدى المعارك بين الأيوبيين والصليبيين سنة 637 هجري/1239 ميلادي، حيث انتصر فيها المسلمون وكانت بعد معركة حطين.
ويمتاز الحي بأنه منطقة تجارية فيها كل الأشكال التجارية والورش، وفيه أكبر سوق متخصص في الملابس والسلع المنزلية بالمدينة، وهو "سوق الشجاعية" الواقع عند مدخل الحي من المدينة القديمة، ومن أهم أسواقه أيضا سوق الجمعة الذي يوجد به "سوق الحلال" الذي يرتاده تجار الاغنام والأبقار.
وفي حي الشجاعية أيضًا مقبرتان (القديمة والشهداء)، وبه أكبر منطقة صناعية في غزة، وبه معبر المنطار التجاري. ومن أهم معالم هذا الحي الكبير جامع "أحمد بن عثمان" أو ما يسميه أهل المدينة بـ"الجامع الكبير"، محتلا قلب الحي السكني والتجاري، وفي هذا الجامع قبر "يلخجا" (من مماليك السلطان)، و"الظاهر برقوق" (الذي كان نائباً لمدينة غـزة عام 849 هجري، وتوفي سنة 850 هجري ودفن بالجامع.(
وللجامع الكبير عدة حجارة تأسيسية تكشف عما حدث له من هدم وترميم ابتداءً من القرن التاسع الهجري وحتى منتصفه، وهو غني بنقوشه وحجارته المزخرفة خاصة تلك التي تزين مئذنته.
ومن مساجده: مسجد "الهواشي"، و"الشيخ مسافر"، و"السيدة رقية"، و"الدار قطني"، وجامع "الطقز دمري" الذي دمر خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، صيف العام 2014، بشكل كامل. وتقع إلى الشرق من هذا الحي مقبرة التونسي أو مقبرة التفليسي، وفيها أضرحة للعديد من الشهداء وأولياء الله الصالحين.
ومن آثار هذا الحي الجميلة "جامع المحكمة" الذي دمر في القصف الإسرائيلي العنيف على الحي في عدوان عام 2014، وقد كان به مدرسة لها أهميتها، كما جاء على نقش أعلى عتب بابه الشمالي المغلق.
وشهد هذا الحي اجتياحات متكررة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتعرض لدمار كبير جدًا في العدوان الإسرائيلي صيف العام 2014، وارتكبت فيه العديد من المجازر بحق عائلات بأكلمها.
حي التفاح
أحد أحياء المدينة الواقعة إلى الشمال من تلة غـزة القديمة، وتبلغ مساحتة 2843 دونمًا، ويبلغ عدد سكانه (عام 2015) نحو 37 ألف نسمة.
سمي حي التفاح بهذا الاسم لكثرة مزارع التفاح التي كانت تسحر أعين زائريها بزهرها الثلجي اللون، ورائحتها التي كانت تزكم الأنوف، وقد أطلق عليه قديماً "حكر التفاح"، وكان به خان يسمى "خان حكر التفاح".
ومن أهم معالم هذا الحي الأثرية مسجد "الأيبكي"، وفيه قبر ينسب إلى الشيخ "عبد الله الأيبكي" (من مماليك "عز الدين أيبك) وهو الأمير أيبك التركماني زوج "شجرة الدر" (مؤسسة دولة المماليك البحرية)، وبالمسجد بلاطة رخامية تعود لسنة 751 هجرية.
ومن آثار الحي الإسلامية الهامة جامع "علي بن مروان" الذي يعود بناؤه لعام 715 هجرية حيث دفن به الشيخ علي كنواة لمقبرة الشيخ "علي بن مروان". وكانت إلى الشمال من هذا الحي مقبرة لشهداء الحروب الصليبية، يتوسطها ضريح الشيخ "سعد الدين بشير" الذي توفي سنة 649 هجري؛ وبالقرب منه كان ضريح الشيخ المجاهد الحاج "عز الدين حسن بن عمر بن عيسى" الذي ارتقى أثناء جهاده في عسقلان سنة 645 هجري وآخرون؛ والى الشرق منها ما تزال مقبرة "الدررية" أو مقبرة "التمرتاشي" (نسبة إلى الشيخ "محمد التمرتاشي الغزي)، والمتوفى سنة 1004 هجرية، ويقال أن "الدررية" جماعة نزلوا بالقرب منها.
ومن المعالم التاريخية منطقة المشاهرة التي تعود في تسميتها لتلك القبيلة العربية المسلمة قبيلة "المشاهرة" التي هي بطن من "بني زريق"، وهم بدورهم فرع من بني "ثعلبة بن طي" القحطانية. ولا يزال هذا الحي أو الضاحية يحمل اسمهم.
ويقع أيضاَ في هذا الحي مقبرة الحرب العالمية الأولى، على الطريق المؤدي إلى قرية جباليا؛ وقد استولى على مساحة الأرض هذه المندوب السامي البريطاني؛ حيث تم دفن نحو من خمسة آلاف جندي من قتلى جنود الحلفاء على أيدي العثمانيين الأتراك، وهم يدافعون عن مدينة غـزة. وقد دارت ثلاثة معارك ضارية كادت تطيح بالإمبراطورية البريطانية وقتل معظمهم حول "تل المنطار"؛ وإلى الشمال من المقبرة دفن الجنود الأتراك، دون أن يوضع عليهم شواهد تفصح عن أسمائهم. وإلى الشرق منها تم دفن بعض جنود وحدات قوات الطوارئ الدولية من الكنديين والهنود في الفترة الواقعة ما بين عامي 1957-1967م.
----------------------
بلدية غزة