استراتيجية التنمية الزراعية والريفية

المؤشرات العامة:

عند الحديث عن المؤسسات المساندة التي تؤثر بشكل إيجابي على تنفيذ استراتيجيات وخطط التنمية الزراعية والريفية، لابد من الإشارة إلى أن هناك علاقة تداخليه بين التمويل، والبحث والإرشاد المبني على أسس علمية سليمة وتزويد المزارع بالمدخلات. كما أن هناك بعض المؤشرات العامة والقطاعية المتعلقة بقطاع الزراعة والريف الفلسطيني، ومؤشرات أخرى تتعلق بسياسات الاقتصاد الكلي وقطاع المال والتمويل الواجب ذكرها قبل التطرق لاستراتيجيات التنمية الزراعية وهي:

أولاً: المؤشرات العامة

  تدهورت شروط المعيشة للمواطنين الفلسطينيين منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، حيث انخفض مستوى المعيشة في كل من الضفة والقطاع بحوالي 18% خلال الفترة من 1993م إلى 1996م، كما وصلت نسبة الفقر إلى 19% في الضفة الغربية، وإلى 35 % في قطاع غزة بدأ الناتج المحلي الإجمالي في الانخفاض منذ 1994م، حيث وصل مجموع ذلك الانخفاض ما بين 1994م وحتى 1998م إلى 22%. كما إن حصة قطاع الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي قد انخفضت بشكل كبير خلال تلك السنوات، مع انخفاض التصدير.

 وقد وعد المجتمع الدولي (الدول المانحة) بمساعده السلطة الوطنية الفلسطينية بما قيمته 4.1 بليون دولار خلال سنوات1994 – 1998م، وخص منها 3.6 بليون دولار، في حين تم صرف 2.5 بليون دولار خلال تلك الفترة. وقد خصصت معظم هذه المبالغ لبرامج إعادة إعمار البنى التحتية، وللصرف على الموازنات العامة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وحوالي 10% لبرامج البناء المؤسسي، وكانت حصة الزراعة من هذه المبالغ متواضعة إلى أبعد الحدود .

تبتعد بعض الدول والمؤسسات الدولية المانحة في سياسات الدعم عن تمويل قطاع الإنتاج الزراعي وإقراض المشاريع الإنتاجية الزراعية، وبنظرة متفحصة لمساهمات القطاعات الاقتصادية المختلفة في الناتج الإجمالي المحلي- نجد أن هناك خلل هيكلي في اقتصاديات فلسطين نتيجة التحول المفاجئ من الزراعة إلى الخدمات، وبالتالي فإن المجتمع الفلسطيني هو أقرب اليوم إلى المجتمع الاستهلاكي منه إلى المجتمع الإنتاجي، إذن هناك حاجة ملحة لتصحيح هذا التشوه، ويمكن الاستنتاج بأن التحدي الكبير أمام السلطة الوطنية الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني هو تحد متعدد الجوانب.

أ. إن بناء مؤسسات القطاع العام الفعالة والكفؤة والعاملة بشفافية ومصداقية، وبمثل ذلك بناء مؤسسات المجتمع المدني، هو أحد تلك التحديات.

ب. إن إعادةإعمار البنى التحتية هو جانب آخر من تلك التحديات.

ج. إن إرساء القواعد القانونية لتنظيم وحماية المجتمع، بما في ذلك البناء الديمقراطي وحقوق المواطنة وواجباتها هو جانب هام ثالث من جوانب التحديات.

 د. لكن الجانب الموازي في الأهمية لكل التحديات، إن لم يكن الأهم من المنظور الاقتصادي، هو بناء الهياكل الاقتصادية والمالية الفاعلة، وتدعيمها بالسياسات والاستراتيجيات التي تتجاوب مع متطلبات الزيادة في الإنتاج والإنتاجية، وخلق فرص العمل وزيادتها، وتحسين مبادئ وممارسات وآليات العدالة الاجتماعية ومنها عدالة التوزيع، وبالتالي توفير الفرص المتساوية والمتكافئة للجميع.

ثانياً: المؤشرات القطاعية (قطاع الزراعة والريف الفلسطيني):

يتداخل قطاع الزراعة ويتشابك مع العديد من القطاعات الاقتصادية، صناعية، وتجارية ومالية، بل يمكن القول إن قطاع الزراعة يعطي القطاعات الأخرى أكثر مما يأخذ، ويتعامل قطاع الزراعة مع الموارد الطبيعية (الأرض والمياه) أكثر بمرات من غيره من القطاعات، كما يستخدم العمالة المنظورة وغير المنظورة، والحقيقية والمبطنة أن أعداداً لا يستهان بها من أبناء وبنات الريف الفلسطيني سواء كانوا مالكين لمواردهم الطبيعية أو مستأجرين لها- هم عاملون وأجراء محاصصين.

 بل ربما الأهم من ذلك أن قطاع الزراعة، إذا ما أحسن استخدامه وتمت خدمته وهيئت له الظروف، يوفر المادة الخام للعديد من الصناعات، ويستخدم الكم الكبير، من المدخلات الصناعية. ويعتبر سوقاً ليست بالضئيلة لكثير من المنتجات في القطاعات الأخرى، وبدون شك، فإنه يساهم من خلال تصدير المنتجات الزراعية في تحسين ميزان المدفوعات، ونتيجة لخبرته وممارسته الطويلة، يتخذ المزارع (في الأراضي المروية والبعلية) من الزراعة أسلوب حياة، يمارس فيها عمله مزاوجاً بين زراعة الأشجار والفلاحة وتربية الماشية ضمن الوحدة المزرعية الصغيرة الحجم والمتناثرة أحياناً.

 لكن الوحدات المزرعية في الغالب لا تضمن له استقراراً في الدخل بالنسبة للزيادة المطردة في تكاليف المعيشة، لذلك فهو يعمد إلى دعم أسرته من العمل خارج المزرعة، بل ومن العمل خارج قطاع الزراعة نفسه. وتتخذ الزراعة المروية (10% من مجموع المساحة المزروعة) اتجاهاً متسارعاً نحو تطبيق التكنولوجيا المستحدثة، وبالتالي فإن حاجتها إلى الاستثمار مرتفعة، وبالرغم من ارتفاع تكاليف وحدة الإنتاج، فإن الإنتاجية عالية  وتوفر تربية الماشية والدواجن مصدراً هاماً من مصادر الغذاء للمستهلك الفلسطيني، ومجالاً لاستيعاب العمالة الريفية. 

ثالثاً: مؤشرات سياسات الاقتصاد الكلي:

لكن السياسات على مستوى الاقتصاد الكلي ما زالت قاصرة عن تمكين قطاع الزراعة في الريف والبادية من المساهمة المطلوبة منه لتحقيق الأهداف سالفة الذكر وذلك للأسباب التالية:

أ‌.  الاتفاقيات التجارية المعقودة مع الدول المجاورة، المبنية على مبدأ الانفتاح الاقتصادي وحرية التجارة وآليات السوق، تميل إلى تحقيق مصالح الطرف الآخر على حساب المنتج الزراعي الفلسطيني، وبحيث يتضاءل مبدأ المنافسة الحرة والميزة النسبية التي تتمتع بها الزراعة الفلسطينية حتى داخل السوق الفلسطينية نفسها.

ب‌. تميل السياسات والإجراءات على نقاط التماس والحدود إلى جعل عمليتي الاستيراد والتصدير غاية في الصعوبة من ناحية، وعالية الكلفة من ناحية أخرى. إضافة إلى سياسات التعرفة الجمركية والضريبة المضافة (التي لا تصل في معظمها إلى خزينة السلطة الوطنية الفلسطينية).

ت‌.   أما من حيث سياسات الدعم المباشر أو غير المباشر لمدخلات الزراعة أو للإنتاج الزراعي في البلدان المجاورة؛ فإنها تؤدي إلى الارتفاع النسبي في كلفة الإنتاج الزراعي الفلسطيني، وبالتالي ضعف إمكانات المنافسة الحرة في السوق.

ث‌.  وكذلك من حيث استخدامات الموارد الطبيعية والطاقة؛ فما زالت هناك من السياسات والإجراءات التي تحد من الاستخدام الأمثل لتلك الموارد والتي ترفع من كلفة الإنتاج الزراعي الفلسطيني.

يؤدي ضعف البنى التحتية التسويقية، وقلة الخبرات التسويقية، وندرة الخدمات التسويقية المساعدة إلى فقدان جزء من الجهد الإنتاجي وضعف ميزته النسبية، وطالما إن النقد المستخدم في التعامل التجاري وهو الشيكل الإسرائيلي في الغالب والدينار الأردني أحياناً، فإن التضخم الاقتصادي وما يتبعه من تذبذب في سياسات أسعار الفائدة وتخفيض العملة يؤثر ذلك سلبياً على الأسعار، وبالتالي على صافي الدخل من الإنتاج الزراعي.

رابعاً: مؤشرات قطاع المال والتمويل

تبتعد بعض الدول والمؤسسات الدولية المانحة – كما تم ذكره سابقاً– في سياساتها عن تقديم القروض إلى قطاع الإنتاج الزراعي والمشاريع الزراعية.  

كان لإستراتيجية تشجيع قيام جمعيات التوفير والتسليف التعاونية دور فاعل خلال عقد الخمسينات وحتى منتصف الستينات، وكان يدعمها في ذلك وجود مؤسسة الإقراض الزراعي في الضفة الغربية. لكن هذا الدور أخذ في الانحسار بعد حزيران 1967م نتيجة لقيام سلطات الاحتلال بإغلاق جميع البنوك بما فيها مؤسسة الإقراض الزراعي .

وفي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات أفرزت سياسة الإقراض المتسامح التي اتبعت إلى ظهور اتجاه سلبي لدى أبناء الريف الفلسطيني( كغيرهم)، حيث لا يميز بين القرض والهبة. ولما كانت الجمعيات التعاونية هي المستفيد الأول من هذه القروض (المنح) فقد تأثر دور التعاونيات في
التوفير والتسليف بشكل سلبي.

أدّت المؤسسات غير الساعية للربح التي ظهرت بعد منتصف الثمانينات دوراً مميزاً في منح القروض لصغار المزارعين وللمشاريع الريفية الصغيرة. ولكن معظم هذه المؤسسات تنقصها الخبرة في الإدارة المالية وبالتحديد إدارة القروض. كما أن حجم المحفظة الإقراضية التي تتعامل بها معظم هذه المؤسسات هي من الصغر، بحيث تزيد من كلفة القروض وتحد من حجم القرض الواحد ونوعه وتحد من إمكانية تلبية الاحتياجات الإقراضية لقطاع واسع من أبناء الريف.
فيما عدا التعاونيات، تعتمد جميع المؤسسات غير الساعية للربح في مصادر تمويلها على المنح الخارجية، ولا تستطيع قانوناً إيداع الوفورات لديها، أما بعض الوسطاء التجاريين في أسواق الخضار والفواكه المركزية، وكذلك بعض تجار مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني فقد استمروا في تأدية دورهم المتواضع من خلال البيع بالذمم لحين موسم الإنتاج لبعض المزارعين المعروفين لديهم وبالضمانة الشخصية، وبالرغم من أن الهامش الربحي الذي يضعه هؤلاء الوسطاء والتجار لتقديم هذا التسهيل يعتبر مرتفعاً عن سعر السوق، إلا أن هذا الدور كان له أثره في دعم السيولة لدى بعض المزارعين، ولعل من العيوب الرئيسية لهذا الدور هو نوعية وفاعلية مستلزمات الإنتاج التي تقدم للمزارع من ناحية، وإلى أنه لا يخدم سوى شريحة معينة وصغيرة نسبياً.

انتشرت البنوك التجارية وفروعها بشكل كبير بعد عام 1994م. لكن المراكز والفروع ( بالرغم من عددها الكبير) ظلّت محصورة في المدن الكبيرة في الضفة والقطاع. ووفرت تلك البنوك مأمناً لحجم وفورات مميز نسبياً. لكن هذه الخدمة لم تكن في متناول أبناء الريف بشكل ميسر
بالرغم من السيولة المرتفعة الموجودة في البنوك التجارية، إلا إن نسبة القروض إلى الودائع تعتبر أقل نسبة مقارنة بالبنوك الموجودة في كل من الأردن وإسرائيل. وتدافع البنوك عن سياستها تلك بأن من واجب البنك حماية أموال المودعين. وطالما إن القوانين والأنظمة المعمول بها لم تتطور بعد لتوفير الضمانات للإقراض فستظل البنوك تتبع سياسة التقشف في منح القروض وتتجه البنوك التجارية بشكل عام نحو تسهيل التعامل التجاري وفتح الاعتمادات وتشجيع النمط الاستهلاكي، ويقل دورها في تشجيع الاستثمار في المشاريع الإنتاجية من خلال الإقراض متوسط وطويل الآجل تتبع البنوك التجارية سياسة عدم تسهيل الإقراض للمشاريع الزراعية والمشاريع الإنتاجية الصغيرة (ريفية أو غيرها). أما البنوك التي تمنح قروضاً للمشاريع الإنتاجية الصغيرة والزراعية فهي مرتبطة باتفاقات مع بعض الدول أو المؤسسات الدولية التي توفر نسبة من التمويل على شكل ضمانات للقروض

خامساً: الاستنتاجات

تتأثر سياسات الاقتصاد الكلي في فلسطين ببعض العوامل الخارجية وتستمر هذه العوامل في تأثيرها خلال المرحلة الانتقالية المتجددة، على سبيل المثال: سعر الفائدة، والتضخم المالي وما يعنيه من تخفيض سعر العملة المتداولة في السوق الفلسطينية مقابل الدولار .

تتأثر أسعار ونوعيه وكمية المنتجات الزراعية الأولية الفلسطينية ( وكذلك المدخلات الزراعية) بسياسات وإجراءات المعابر والحدود، وبنوعية وسائط النقل المسموح بها، وتتأثر كلفة الإنتاج الزراعي الفلسطيني بسياسات الدعم المباشر وغير المباشر للمدخلات وبعض المخرجات الزراعية في البلدان المجاورة، وبشكل خاص الأردن وإسرائيل، وهما الدولتان الأكثر تعاملاً في التجارة الزراعية مع فلسطين .

تعتمد عملية تسويق الإنتاج الزراعي في نجاحها على توفر البنى التحتية التسويقية والخدمات  التسويقية المساندة  وتصعب ( إن لم تستحل) عملية حصر مدخرات أبناء الريف والمزارعين الموجودة في البنوك التجارية وإن كان من المؤكد إن نسبة من  المدخرات في البنوك تعود لهذا الجزء من المجتمع، لكن البنوك التجارية ضمن سياساتها الحالية تتردد إن لم تحجم كلياً عن منح القروض لمشاريع الإنتاج الزراعي والمشاريع الريفية طالما أنه لا تتوفر الضمانات الكافية لدى أبناء الريف والتي تقبل بها البنوك التجارية. ويمكن الاستنتاج بأن مدخرات قطاع الزراعة وأبناء الريف الموجودة في البنوك التجارية لا يستفاد منها في إقراض نفس القطاع، إلا في حالة توفير ضمانات للقروض فيما عدا التعاونيات الزراعية، لا تستطيع المؤسسات الأهلية التي تتعامل في الإقراض الزراعي والريفي إن توفر نافذة للادخار بموجب القوانين المرعية، وعليه تبقى هذه المؤسسات معتمدة في مصادر تمويلها الإقراضي على المنح الخارجية .

إن من خواص القطاع الزراعي اعتماده على عوامل بيئية ومناخية وحيوية، وبالتالي فإن عوامل المخاطرة الاستثمارية فيه مرتفعة نسبياً عن باقي القطاعات الأخرى. ويستنتج من ذلك حتمية تأسيس صندوق تأمين ضد المخاطر الطبيعية في هذا القطاع.

 إن طبيعة دوران رأس المال في القطاع الزراعي (الفترة الزمنية بين الاستثمار والإنتاج) وكذلك العوامل والصفات التي تحكم هذا القطاع  تفرض قيام مؤسسة إقراضية تختلف عن النظام البنكي التجاري  بالرغم من مساهمتهم الذاتية، فإن قطاع المزارعين وأبناء الريف بحاجة إلى نافذة إقراضية، وبحاجة أيضاً إلى وسيلة قريبة ومأمونة لوضع مدخراتهم بها. فالمزارع ليس مقترضاً فقط بل يمكنه إن يكون مدخراً أيضاً، والاستنتاج الرئيسي هو ماهية المؤسسة المالية الوسيطة التي يمكنها جذب الإدخارات الريفية وإعادة استخدامها في الإقراض الزراعي والريفي، هناك حاجة للربط المؤسسي بين برامج الإقراض الزراعي والريفي بسياسات واستراتيجيات وخطط وبرامج ومشاريع التنمية والريفية من ناحية وباستراتيجيات وبرامج التسويق، وببرامج البحوث والإرشاد المبني على حاجات السوقين المحلية والخارجية، ومن ناحية أخرى  تتعدد حاجة القطاع الزراعي والريفي للتمويل وللإقراض حسب نوع الاستثمارات المطلوبة:

أ‌. القروض الموسمية: يعاني بعض المزارعين ومربي الأغنام والدواجن من ضائقة مالية في بداية مواسم الزراعة والتربية، فهم بحاجة إلى سيولة نقدية إلى حين مرور الفترة اللازمة حتى موسم الإنتاج والتسويق، وأجل هذه القروض هو أقل من عام واحد.

ب‌. القروض متوسطة الأجل: وذلك لدعم الاستثمار في مشاريع زراعية وريفية جديدة كإنشاء مزارع الأغنام والأبقار والدواجن، أو إنشاء البيوت البلاستيكية للزراعات المحمية، أو الدخول في مشاريع لإنتاج البذور والأشتال، ويتراوح أجل هذه القروض ما بين سنة إلى أربع سنوات.

ت‌.  القروض طويلة الأجل: وذلك لدعم الاستثمار في مشروعات تطويرية كبيرة الحجم نسبياً لدعم الاستثمار طويل الأجل في المدخلات الزراعية والتصنيع الزراعي والبنى التحتية التسويقية، ويتراوح اجل هذه القروض ما بين خمس إلى سبع سنوات.

سادساً: الدروس المستفادة من التجارب المحلية السابقة ومن تجارب الآخرين

تستند معظم جهود التنمية الزراعية والريفية في العديد من الأقطار النامية والمتقدمة إلى فلسفة تشجيع التوفير الريفي في أذهان واتجاهات  المجتمع الريفي والزراعي كقوة محركة ودافعة للتنمية الزراعية والريفية. وهناك أدلة على ذلك من تجارب بعض الدول الآسيوية كالهند، وبنغلادش، ودول أفريقيا، مثل: كينيا، وتنزانيا، ودول أمريكا اللاتينية، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك السويد، وألمانيا، وهولندا من دول أوروبا. وقد نجحت في الماضي تجربة تشجيع التوفير والتسليف من خلال الجمعيات التعاونية الريفية التي انتشرت في فلسطين قبل عام 1967 م افترضت العديد من الدول في العالمين النامي والمتقدم ضرورة التدخل الحكومي لتطوير وتمويل برامج إقراضية موجهة نحو بعض برامج ومشروعات التنمية. وقد أثبتت البحوث التي أجريت إن بعضاً من هذه المبادرات التي تدخلت فيها الحكومات قد فشلت في تلبية الطلب المتزايد لدى المزارعين من ناحية، وفي دفع وتحريك التوفير من الموارد الذاتية من ناحية أخرى، وترجع أسباب هذا الفشل إلى:-

 أ. وضع سياسات للإقراض تتبنى أسعار فائدة منخفضة، والتي تعني بالتالي إلى إن تكون أسعار الفائدة على التوفير منخفضة لدرجة إنها لا تشجع على الادخار.


ب. أو إلى إن الإقراض كان مخصصاً لمشاريع زراعية محددة، وهكذا فإنه أثر على مقدرة مؤسسة الإقراض في تلبية الاحتياجات المالية للمزارعين الصغار لتمويل احتياجاتهم غير الزراعية، ويمكن الاستنتاج من البحوث التي أجريت على إن الإقراض الموجه قد لا يؤدي إلى تشجيع الادخار من ناحية، ويؤدي بشكل شبه مؤكد إلى زيادة الكلفة الإدارية، وبالتالي زيادة الاعتمادية على التمويل الحكومي وما قد ينتج عنه من احتمالات العجز في الميزانيات الحكومية. ولذا فإن نجاح برامج الإقراض الموجه يظل موضع سؤال خاصة إذا اتبع سياسات متساهلة في الإقراض، واعتمد على أساليب إدارية قديمة.

 كما أثبتت التجربة الفلسطينية أن التساهل في الإقراض قد أفرز اتجاها سلبياً لدى المزارعين باعتبار القرض هبة لا حاجة لسداده، وتلك الظاهرة قد عانت منها الجمعيات التعاونية بشكل خاص.

سابعاً: الاستراتيجيات على المدى القصير والبعيد

تقوم السلطة الوطنية الفلسطينية بما فيها وزارة الزراعة حالياً ببحث قضايا السياسات والاستراتيجيات المتعلقة بالاستثمار، وبتسهيلات الإقراض المطلوبة لبرامج التنمية الزراعية، وبناءً على خطة التنمية الاقتصادية لسنوات 1999–2003م، هناك حاجة إلى نسبة عالية من الاستثمارات والتسهيلات التمويلية لتنمية قطاع الزراعة والريف الفلسطيني. وإذا ما أريد لخطة التنمية إن تطبق في إطارها الزمني المحدد، يصبح من المنطق التساؤل: كيف يمكن تمويل هذه الخطة؟ وضمن أية سياسات واستراتيجيات سيتم التمويل؟ وما هو دور السلطة في تطوير سياسات الاقتصاد الكلي ذات الأثر على التنمية الزراعية والريفية؟ وما هو دور وزارة الزراعة في استراتيجيات التنمية الزراعية واحتياجات التمويل؟ وكيف يمكن تشجيع القطاع الخاص للاستثمار في تلك البرامج؟ ومن سيقوم على التنفيذ؟ وما هي متطلبات البناء المؤسسي وتنمية الطاقات الاستيعابية؟

أولا: الإستراتيجية قصيرة المدى

 تشجيع المؤسسات الأهلية العاملة في الإقراض الزراعي والريفي على الانضمام والتوحد ضمن مؤسسة واحدة. إذ من المؤكد أن هذه الإستراتيجية سوف تقلل من كلفة إدارة القروض، وتعطي المؤسسة الجديدة قوة تفاوضية أعلى لدى التفاوض مع البنوك حول نسبة الفائدة على المدخرات، وتبعد احتمالات ظهور الازدواجية في منح القروض، وتمكن من الوصول إلى قاعدة أوسع من طالبي القروض تشجيع المستثمرين من القطاع الخاص للاستثمار في المناطق الريفية في مشاريع التصنيع الزراعي والتسويق الزراعي، وإنتاج المدخلات الزراعية المطلوبة. ومن المحتمل إن تؤدي هذه الإستراتيجية إلى زيادة فرص العمل في الريف الفلسطيني، وتسهيل التحول في النمط الزراعي لمقابلة احتياجات السوق. وقد تحتاج هذه الإستراتيجية إلى قيام السلطة الوطنية الفلسطينية بتوفير بعض الحوافز للمستثمرين الرياديين في الريف القيام بحملة توعيه وإرشاد في الريف الفلسطيني حول أهمية الادخار في الجمعيات التعاونية من ناحية؛ وحول أهمية الاعتماد الذاتي في التمويل، وبالتالي التحول من فكر المنح والمعونات إلى الفكر الاقتصادي من خلال القروض الواجبة التسديد لا يخفى علينا أن برامج التنمية الزراعية والريفية المنبثقة عن السياسات والاستراتيجيات التي تشرف الوزارة على إعدادها سوف تواجه القرن الحادي والعشرين بما يحويه من معطيات عولمة الاقتصاد، وتسارع في تكنولوجيات الإنتاج والإدارة والاتصال، وعليه يصبح من الضروري إعداد الكوادر البشرية المدربة، داخل جهاز وزارة الزراعة والوزارات المعنية الأخرى، وإدارات وتدريب موظفي الإقراض في المؤسسات الإقراضية، وإدارات وموظفو الجمعيات التعاونية الزراعية والمزارعين القياديون. كما يصبح من الأهمية تطوير الهياكل المؤسسية داخل الوزارة نفسها، والتنسيق فيما بينها وبين المؤسسات الحكومية الأخرى ذات العلاقة من جهة، وبينها وبين المؤسسات التمويلية الرسمية وغير الرسمية من جهة ثانية، وبين هؤلاء وتنظيمات المزارعين وأبناء الريف والبادية .


ثانياً: الإستراتيجية بعيدة المدى

تستند هذه الإستراتيجية إلى واقع سوق التمويل في فلسطين (البنوك التجارية) من ناحية، وإلى حقيقة السياسات التي تتبناها بعض الدول والمؤسسات في نظرتها إلى تمويل المشاريع الإنتاجية الزراعية، والى افتراض إن السلطة الوطنية الفلسطينية ومن ضمنها وزارة الزراعة تؤدي دوراً هاماً في دعم القطاع الزراعي والريفي وذلك من خلال :

أ‌.       تمويل البنى التحتية بما فيها البنى التحتية التسويقية.

ب‌.   سن التشريعات والأنظمة ووضع السياسات التي تسهل تنفيذ برامج التنمية الزراعية والريفية.

ت‌.   تقديم الخدمات المساندة البحثية والإرشادية وخدمات الطب البيطري الوقائي.

ث‌.   الاتفاقات التجارية التي تحمي الإنتاج الفلسطيني .

وأخيراً فإن الإستراتيجية بعيده المدى المقترحة مبنية أيضاً على نجاح الإستراتيجية قصيرة المدى، وخاصة فيما يتعلق بتفعيل دور الجمعيات التعاونية في دفع عجلة الادخار والتوفير لدى المزارعين وأبناء الريف والبادية كاستراتيجية أساسية تتبنى الاعتماد الذاتي لتطوير سوق المال الريفي، وبالتالي تسهيل وصول صغار المزارعين والفئات المهمة في الريف والبادية إلى مؤسسة التوفير والإقراض، وهناك من الأدلة ما يشير على أن قضية إحجام أو تردد البنوك التجارية عن منح تسهيلات القروض للمشاريع الزراعية ولصغار المزارعين والمستثمرين الريفيين لا تتعلق بالسيولة النقدية المتوفرة في تلك البنوك، ولكنها تتعلق ببعض المعيقات التي يمكن تلخيصها وبالتالي عدم الثقة بالقطاع الزراعي والريفي أولا، والمخاطرة العالية المتوقعة من الاستثمار (الإقراض) في المشاريع الزراعية، و ضعف مقدرة صغار المزارعين على تلبية الضمانات المطلوبة لمنح القروض، والإمكانية المحدودة العالية الناتجة عن القروض القصيرة.

ثالثاً: إستراتيجية التدخل

 يبدو إن أحد أهداف إستراتيجية التدخل لجسر الهوة يكمن في زيادة مقدرة المزارعين على الوصول إلى البنوك التجارية، وتشجيع البنوك على  فتح نافذة لإقراض المزارعين وذلك من خلال تبني برنامج لضمان القروض.

أما الهدف الثاني الذي يعتبر مكملاً للأول هو: تشجيع البنوك التجارية لزيادة خدماتها المالية المطلوبة للقطاع الزراعي والريفي وذلك من خلال تقليل المخاطرة التي يتحملها البنك، وإحدى الطرق لتحقيق ذلك هي من خلال المشاركة في المخاطر.


والهدف الثالث في إستراتيجية التدخل: هو تفعيل وتحريك السلوك الادخاري بين المزارعين وأبناء الريف والبادية ورياديي المشاريع الاقتصادية الصغيرة في الريف والمدن من خلال تشجيع وتمكين الجمعيات التعاونية من أداء هذا الدور. كما إن دعم هذه الإستراتيجية بالمساعدات الفنية والإدارية التي يمكن إن تقدمها المؤسسات الأهلية سيساعد النظام البنكي في الوصول إلى مناطق الطلب على القروض، وسيوفر لهذا النظام سيولة أعلى من خلال التوفير الذاتي، وسيقلل من كلفة إدارة القروض.

والهدف الرابع في إستراتيجية التدخل هو تطوير الربط المؤسسي بين جميع الخدمات المقدمة للمزارعين وأبناء الريف والبادية من خلال تنظيماتهم التعاونية (الإقراض)، وتوفير مدخلات الإنتاج، والبحوث والإرشاد المبني على التسويق، وربط هذه الخدمات مجتمعة بالتسويق، وتنبع أهمية عملية الربط هذه من كونها توفر الآلية الأسلم لاسترداد القروض ،وقد تكون الظروف قد هيئت لتطبيق سياسة "الملوث يدفع"، وبالتالي يصبح الهدف الخامس من إستراتيجية التدخل هو تفعيل دور المؤسسات المالية الريفية في حماية الموارد الطبيعية والبيئة. إذ تصبح إحدى المعايير في منح القروض هو نوع المشروع المنوي إقراضه وأثره على الموارد الطبيعية والبيئة.