تشكل العمارة التقليدية في بيت لحم جزءاً أساسياً من الموروث الثقافي للمدينة، كما أنها أحد الروافد المهمة في دعم السياحة خاصة بعد إدراج المدينة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 2012م (بيت لحم، مكان ولادة السيد المسيح: كنيسة المهد ومسار الحجاج).
تكونت عمارة المسكن حتى منتصف القرن التاسع عشر في بيت لحم، كغيرها من العمارة السكنية في بقية أجزاء فلسطين، من تكوينات غير منتظمة من الغرف المتراصة التي تشكل في مجملها "الحوش"، وعليه تعرف الأحواش بأنها تجمعات سكنية يسكنها أبناء العائلة الواحدة.
وتحتوي هذه الأحواش على فراغات متوسطة شبه خاصة، وتتوزع حول فراغات وسطية غير نافذة. وتفصل بين الأحواش المختلفة طرق متعرجة نافذة تصل هذه الأحواش مع الفراغات العامة في المدينة؛ إلى أن جاءت عدة عوامل يمكن تلخيصها في: تطور أساليب البناء، والتغير الواضح في ثقافة المسكن، والإطلاع على ثقافات مختلفة والتأثر بها- أدت في مجملها إلى تمدن المجتمع؛ ما أثر على أسلوب العمارة وشكلها واستخداماتها.
حيث يمكن تصنيف العمارة في بيت لحم إلى عدة أقسام مختلفة وهي: المباني البسيطة، والمباني الطولية، والأحواش، والمباني المنتظمة، والمباني التي تجمع بين الأحواش والمباني المنتظمة، والقصور والمباني الكبيرة ؛ حيث تعكس هذه التقسيمات شكل عمارة بيت لحم وتطورها خلال القرنين الماضيين.
1- المباني البسيطة:
تتكون المباني البسيطة من غرفة واحدة أو غرفتين متجاورتين مبنيتين من الحجر الغشيم والتراب. واعتمد البناء التقليدي البسيط على مواد البناء المتوفرة في البيئة المحيطة. ومن المباني البسيطة: المناطير التي عرفت أيضاً بقصور المزارع، والمخازن التي بنيت بالقرب من المباني السكنية، والطوابين (جمع طابون).
2- المباني الطولية:
تتميز هذه المباني بأنها تتكون من غرفتين أو أكثر من الغرف المتلاصقة التي يتصل مباشرة بعضها ببعض دون وجود فراغ وسطي أو انتقالي يفصل بينها. وغالباً يتم الانتقال بين الطوابق بواسطة درج خارجي يؤدي إلى أحد الغرف التي يتم من خلالها الانتقال إلى الغرف المجاورة. وتتكون معظم المباني الطولية من طابقين، وتنتشر بمحاذاة الشوارع التجارية، وقد غلب الاستخدام التجاري على الغرف الواقعة على مستوى الشارع؛ بينما استخدمت غرف الطابق الآخر الذي قد يكون فوق الطابق التجاري أو تحته؛ وذلك حسب طبوغرافية الأرض للسكن، وحلت الساحة الخلفية للبناء محل الحوش.
3- الأحواش:
الأحواش عبارة عن تكتلات غير منتظمة تتكون نتيجة التوسع المستمر لتلبية حاجات الأسرة أو العائلة، وتنشأ بطريقة تراكمية ولا يتم بناء بيوتها على مرحلة واحدة، وقد تميزت الحارات في بيت لحم بأنها تكونت من عدة أحواش متلاصقة لعائلات من حمولة واحدة، وقد إرتبطت هذه الأحواش بعضها ببعض من خلال شبكة الطرق الرئيسية الممتدة من الغرب إلى الشرق باتجاه ساحة المهد، وارتبطت أيضاً بالأراضي الزراعية من خلال الأدراج التي انحدرت إلى الشمال والجنوب بإتجاه هذه الأراضي .
يتكون الحوش من ساحة رئيسية شبه خاصة، ويتم الدخول إليه من الشارع الرئيسي عبر الساحة الرئيسية التي تحتوي على بعض المرافق المشتركة، مثل: بئر الماء، والطابون، والراوية، أو الإسطبل لإيواء الحيوانات؛ إضافة إلى بستان صغير.
وقد جاء تصميم الأحواش خلال الفترة العثمانية على شكل كتل معمارية متلاصقة تعكس بشكل طبيعي المفاهيم الثقافية الموروثة، والتركيبة الاجتماعية السائدة خلال تلك الفترة، كما عكست الأحواش الأوضاع الأمنية والاقتصادية المعاشة لقطاع واسع من السكان في فلسطين في تلك الفترة.
وقد يختلف حجم الحوش حسب عدد الأسر القاطنة فيه، وحسب وضعهم وقدرتهم الإقتصادية على إنشاء بيوت جديدة.
وترتبط الغرف في الحوش الواحد بواسطة أدراج خارجية في الغالب تربط هذه الغرف بعضها ببعض.
وتتصف الأحواش ببساطة تفاصيلها المعمارية من حيث الزخارف والنقوش، كما تمتاز بعدم تخصص الفراغ إذ كانت تستخدم الغرفة الواحدة للقيام بجميع نشاطات الأسرة، وهاتين الصفتين من أهم الصفات التي ميزت الأحواش عن غيرها من المباني السكنية .
كما تميزت الأحواش بالأبواب والشبابيك الصغيرة، وقد استخدم في بناء الأحواش الحجر المحلي، كما أعيد استخدام بعض الحجارة المنقوشة في الواجهات الرئيسية للمباني.
4- المباني المنتظمة:
بدأت المباني المنتظمة في الظهور بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ ويعود ظهورها إلى عدة عوامل ترتبط في مجملها بضعف الدولة العثمانية، وحركة الإصلاحات التي شملت مختلف نواحي الحياة؛ إضافة إلى صدور القوانين الجديدة المتعلقة بالأراضي والملكيات؛ كما يعود ظهور المباني المنتظمة أيضاً إلى الانفتاح الذي تعرض له سكان المدينة نتيجة ارتفاع عدد السياح والحجاج القادمين للمدينة، وما رافقه من إزدهار في النشاط التجاري؛ بالإضافة إلى ذلك بدأت تنتشر مفاهيم جديدة حول ثقافة المسكن نتيجة سفر العديد من التجار وأصحاب مشاغل حرف التقوية إلى العديد من دول أوروبا وآسيا وأميركا لتسويق بضائعهم، وأيضاً سفر العديد منهم إلى أميركا اللاتينية؛ حيث عملوا بالتجارة وأصابوا الثراء ثم عادوا إلى المدينة؛ وعليه جاءت هذه المباني لتعكس أسلوب الحياة المدنية التي بدأت في الانتشار في تلك الفترة .
تقسم المباني المنتظمة إلى ثلاثة أقسام :
- المباني التي تحتوي على ليوان
- المباني التي تحتوي على رواق
- المباني التي تحتوي على فناء (ساحة داخلية)
وتتميز فئة كبيرة من المباني داخل المركز التجاري للمدينة بأنها تنتمي لهذه الفئة، وقد بدأت هذه المباني بالانتشار في نهاية القرن التاسع عشر، وجاءت نتيجة العديد من العوامل أهمها: التغيرات المباشرة في أسلوب الحياة اليومية، وتحسن الوضع الاقتصادي لسكان المدينة؛ بالإضافة إلى ذلك فقد دمر الزلزال الذي ضرب بيت لحم عام 1927 العديد من المباني في المدينة، كما ألحق أضراراً جسيمة بأخرى؛ ما اضطر السكان إلى إعادة بناء المنازل التي تهدمت فجاءت الأبنية الجديدة الأكثر انتظاماً من الأحواش التي هدمت بفعل الزلزال.
وبدأت تظهر بشكل واضح في هذه المباني بعض مفردات عمارة أوروبا والأمريكيتين مثل: البلاكين المطلة على الشوارع، وحديد الحماية المزخرف، والأسقف المزينة بالرسومات الهندسية والمناظر الطبيعية، وعليه تندرج المباني المنتظمة في فئتين: الأولى هي المباني المنتظمة التي استخدمت فيها العناصر المعمارية المحلية، والثانية هي العمارة المنتظمة التي استخدمت فيها عناصر معمارية مشتقة من العمارة الأوروبية، وكلتا الفئتين تظهران التوجه نحو التمدن في أساليب الحياه، بينما تعكس الفئة الثانية بوضوح رغبة أصحابها في إظهار الثقافة الجديدة التي تعرضوا لها.
وعلى الرغم من ذلك بقيت المباني المستخدمة للسكن تعكس أسلوب حياة العائلة الممتدة، حيث سكن الطابق الواحد أسرة أو أسرتين من العائلة الواحدة ، كما كانت تقوم العائلة ببناء طابق إضافي كلما شعرت أن هنالك حاجة لذلك.
كما حل الليوان أو الرواق في البيوت المنتظمة مكان ساحة الحوش، وأصبح الفراغ الذي تمارس فيه العائلة نشاطها اليومي، وغالباً كان يبنى المطبخ في الجزء الخلفي من المنزل بحيث يمكن لسكان المنزل استخدام الساحة الخلفية.
ومن التغيرات الواضحة التي بدأت تظهر في العمارة المنتظمة استخدام الحجر الأحمر والحجر الأبيض في البناء، وكذلك تهذيب الحجر وظهور الشبابيك الكبيرة نسبياً التي تطل على الشارع، كما شاع نقش حجارة قمط باب المدخل الرئيسي، والتي احتوت على رموز دينية وعلى اسم صاحب المنزل والسنة التي أنجز فيها البناء، وقد تم ذكر اسم صاحب البناء والسنة في بعض الأمثلة بأبيات شعرية نقشت على عتبة البيت.
ومن التغيرات التي بدأت تظهر أيضاً نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وكانت من مميزات المباني المنتظمة حديد الحماية وحديد الأبواب المزخرف الذي احتوى في بعض الأحيان على الأحرف الأولى من اسم صاحب البناء أو سنة البناء، كما ظهر في تلك الفترة استخدام البلاط الإسمنتي المزخرف والملون.
5- المباني التي تجمع بين الأحواش والمباني المنتظمة:
تعتبر المباني التي تجمع بين الأحواش والمباني المنتظمة امتداداً للأحواش، إذ شكلت المباني المنتظمة الامتداد الأحدث للأحواش التقليدية، وقد تشكلت الإضافات المنتظمة للأحواش نتيجة لنفس العوامل التي أدت إلى ظهور العمارة المنتظمة، حيث بنيت أغلب الأجزاء المنتظمة من الأحواش في مركز المدينة القديمة، إما فوق أنقاض البيوت التي تهدمت ودمرت بفعل العوامل الطبيعية أهمها زلزال عام 1927 الذي أدى إلى تهدم العديد من الأحواش القائمة لتلبية احتياجات ساكنيها.
أخذت الأبنية الجديدة الشكل الطولي والمنتظم في البناء والتوسع، وشكلت الأجزاء المنتظمة من هذه المباني حلقة الوصل بين الأحواش والفراغات العامة والطرقات الحديثة، كما ساهمت هذه المباني بتحديد مراكز الأحواش المختلفة داخل المدينة التاريخية ورسمت شبكة الطرقات الرئيسية منها.
6- القصور والمباني الكبيرة:
بدأت المباني الكبيرة في الظهور في مدينة بيت لحم، كغيرها في بقية المدن الفلسطينية، نتيجة عدة عوامل ارتبط معظمها بالوضع العام للدولة العثمانية، بما فيها حركة الإصلاحات التي شملت مختلف مناحي الحياة وصدور القوانين الجديدة المتعلقة في الأراضي والملكيات؛ حيث شكل هذان العاملان محركاً للعديد من البعثات التبشيرية للاستقرار في المنطقة؛ فقد سمح تعديل قانون التملك عام 1868 للأجانب بالتملك في أراضي الدولة العثمانية، بما فيها فلسطين؛ فبدأت الإرساليات بالتملك في العديد من المدن الفلسطينية التي شكلت في حينه نقطة جذب تلبي رؤية هذه المؤسسات وطموحاتها وباشرت ببناء الأديرة والمستشفيات والمدارس والنزل، وقد كانت بيت لحم أحد هذه المقاصد.
بدأت العديد من البعثات التبشيرية في البناء في المدينة، وكان من أهم المباني التي ظهرت في تلك الفترة دير راهبات الكرمل، و مدرسة راهبات ماريوسف، ومدرسة دي لاسال (جامعة بيت لحم)، ودير السالزيان، والكنيسة الإنجيلية اللوثرية، ومستشفى فرسان مالطا (المستشفى الفرنسي)، وغيرها من المباني التي انتشرت بكثافة في محيط المدينة .
وقد عمل على تصميم أغلبية هذه المباني مهندسون معماريون قدموا مع الإرساليات؛ وقام بمعاونتهم في البناء بناؤون محليون.
وقد اشتهر أهالي بيت لحم بمهارتهم في نحت الحجر والبناء، وعملوا مع المهندسين في مدينة القدس أيضاً، كما لعب المهندسون المحليون الذين درسوا العمارة في الخارج دوراً أساسياً في بناء القصور والمباني الكبيرة في المدينة، ومن أشهرهم: المهندس مرقص نصّار الذي اشتهر بتصميمه وإشرافه على بناء دير راهبات أرطاس والعديد من المباني الهامة الأخرى والقصور في مدينتي بيت لحم والقدس.
تم البناء في المباني التي تأثرت بالعوامل التي ذكرت آنفاً باستخدام المواد المحلية وبأيدٍ محلية، وقد ظهرت التأثيرات بشكل واضح في الوظيفة وتوزيع الفراغات في المسكن، كما ظهرت بأشكال وتفاصيل العناصر المعمارية المختلفة في المباني كالأبواب والشبابيك والكرانيش وتفاصيل الفاصون والمنجور. كما تميز بعض هذه المباني بالرسومات التي زينت أسقفها وجدرانها، وقد رسم بعض هذه الرسومات فنانون أوروبيون أو محليون تعلموا الرسم مباشرة من الفنانين الأوروبيين، على عكس ما هو سائد في غالبية المدن الفلسطينية التي وصلها التأثر الأوروبي عن طريق اسطنبول.
وتظهر القصور التي بنيت بداية القرن العشرين بوضوح ثراء أصحابها ورغبتهم في إبراز مكانتهم الاجتماعية في المدينة، وفي محاولتهم لإبراز الثقافات المختلفة التي تأثروا بها. وقد بنيت أغلب القصور في أماكن بعيدة عن مركز المدينة في محيط الأديرة والأبنية الأخرى التي بنتها الإرساليات، أو على امتداد الطريق الواصل بين بيت لحم والقدس، ومن أشهر قصور مدينة بيت لحم وأكثرها فخامة: قصر جاسر (1914)، وقصر هرماس (1910)، وقصر حنضل (1911)، وقصر الجعار (1932)، وقصر جقمان (1908)، وغيرها من القصور.
كان للازدهار الاقتصادي الذي تمتع به سكان المدينة نتيجة انخراطهم في التجارة مع أوروبا والأمريكيتن، الأثر المباشر والواضح في ازدهار العمارة في المدينة. واستمر الإزدهار حتى نهاية العشرينات من القرن العشرين؛ حيث أثرت الأزمة المالية العالمية كثيراً على أهالي مدينة بيت لحم ممن عملوا في التجارة مع الخارج؛ ما أدى إلى إغراق العديد منهم في ديون أدت بهم إما إلى بيع منازلهم أو لتأجير جزء منها أو في بعض الأحيان إلى عدم تمكنهم من إكمال البناء كما حدث في قصر الجعار وقصر مرة، وقد استخدم العديد من هذه القصور أو ما زال يستخدم كمبانٍ عامة.
امتازت غالبية القصور والمباني الكبيرة، كما هو الحال أيضاً في المباني المنتظمة، بالتماثل حول محور وسطي (أي أن يقع هذا المحور حول وسط المدخل الرئيسي للبناء)، وتميزت غالبية القصور والمنازل الفخمة بتعقيد تصميم الواجهة الرئيسية وكثافة زخرفتها لتعكس نفوذ صاحبها ووضع العائلة الاجتماعي والاقتصادي؛ أما واجهات البناء الأخرى فتميزت ببساطة تصميمها وخلوها تقريباً من الزخارف؛ إلا أن الواجهات الأربعة كانت تتشابه من حيث روح التصميم ونسب الفتحات وأبعادها. وفي بعض المباني -كما هو الحال في منزل الدبدوب- فقد اختلفت نوعية الحجر بين الواجهة الرئيسية وواجهات المبنى الأخرى، بحيث تم استخدام الحجر الأحمر في الواجهة الرئيسية؛ بينما بنيت بقية الواجهات باستخدام الحجر المزي.
----------------------------------------
بلدية بيت لحم، نيسان 2016