استمر ميلاد فكرة العمل النقابي فترة طويلة من الزمن انطلاقاً من كون العامل هو الطرف الأضعف في معادلة الصراع، وخصوصاً بعد أن ثبت جدوى العمل الجماعي.
وفي ظل ثورة المعلومات والاتصالات (التي خلقت مناخات جيدة لنقل خبرات وتجارب عالمية تدعم التوجه نحو التنظيم الجماعي) ارتبطت فكرة العمل النقابي بتطور البنية الاقتصادية، والتركيب الهيكلي لقطاعات العمل المختلفة، وانتشار نماذج عملية في العديد من دول العالم، خاصة في الدول الصناعية، كما ارتبطت بالنمو العددي والنوعي لطبقة العمال وشعورها بضرورة تحسين ظروف العمل والأجور وساعات العمل والتأمين؛ ما أثار تساؤلاً مفصلياً حول كيفية تحقيق هذه المطالب والحقوق الأساسية للعمال.
وقد أثارت عملية العمل النقابي جدلاً واسعاً في الكثير من دول العالم فالبعض يرى أن لا ضرورة لوجود نقابات وذلك لعدم قدرتها على التأثير على حقوق العاملين، فيما يرى آخرون عكس ذلك فالنقابات لعبت دوراً إيجابيا في رفع مستويات الأجور وتحسين ظروف العمل، وكان لها دور فاعل ومؤثر في صياغة التشريعات العمالية. أما من يمثلون أرباب العمل والحكومات ذات التوجه غير الليبرالي ولا الديمقراطي، فيرون في تنظيم العمال خطراً يهدد مصالحهم.
وفي فلسطين بدأت إرهاصات التنظيم النقابي منذ بداية القرن العشرين استناداً للقانون العثماني الصادر سنة 1909 والذي جرى بمقتضاه تشكيل روابط اجتماعية بعيدة عن الشئون السياسية.
أما التنظيم النقابي الفعلي فقد بدأ في عام 1920، وتبلور عام 1925، حيث تشكلت جمعية العمال العرب الفلسطينية.
وارتبط ميلاد الحركة النقابية الفلسطينية بخصوصية واقع الصراع بين المشروع القومي التحرري الفلسطيني والمشروع الصهيوني الذي سعى لتكريس أدواته الاقتصادية والسياسة العسكرية، بما في ذلك تأسيس الاتحاد العام للعمال اليهود (الهستدروت) عام 1920، والتي لم تطلع بدورها النقابي العمالي، بل استمرت في ترسيخ ركائز المشروع السياسي الصهيوني وإتباع سياسة عنصرية إزاء العمال الفلسطينيين العرب.
وقد استفادت الحركة النقابية الفلسطينية من قانون الجمعيات العثماني الذي كان معمولاً به، والذي يسمح لثمانية أشخاص فأكثر أن يؤلفوا فيما بينهم جمعية لرعاية مصالح الأعضاء المنتسبين إليها ورفع مستواهم مادياً وثقافياً واجتماعياً. وكان القانون يشترط أن ينص دستور الجمعية: أن لا تتدخل في الشئون السياسية والدينية.
وقد لعبت الحركة النقابية الفلسطينية دوراً هاماً في حماية العمال والدفاع عن مطالبهم الاقتصادية، والنضال من أجل تشريعات خاصة بحماية العمال، وكذلك لعبت دوراً مركزياً في الصراع مع الغزو الصهيوني عبر المشاركة الفاعلة في انتفاضات وثورات الحركة النقابية الفلسطينية حتى عام النكبة 1948. وكان نشاط الحركة النقابية الفلسطينية وراء التشريعات المتعلقة بالعمال والتي صدرت عام 1927، ومن أهمها:
1- قانون تعويض العمال.
2- قانون استخدام النساء والأولاد في المشاريع الصناعية.
3- قانون الجزاء.
4- قانون تسييج الآلات الميكانيكية.
5- قانون المراجل التجارية.
6- قانون الحرف والصناعات.
إلا أن هذه التشريعات لا تغطي كافة المجالات المتعلقة بالعمل والعمال.
في المقابل أظهرت حكومة الانتداب تعاطفاً وانحيازاً للمستوطنين اليهود، وتركت شأن تنظيم العمال للهستدروت ولم تكترث بسن قوانين جديدة لتنظيم علاقات العمل في مرحلة اتسمت بالصراع الحاد على مشروعية الانتداب والوجود الصهيوني.
التنظيم النقابي والنكبة الكبرى:
قبل حلول نكبة فلسطين عام 1948، كانت الحركة النقابية الفلسطينية تشهد تطوراً كبيراً متأثرةً بالمتغيرات الدولية التي سبقت الحرب العالمية الثانية، حيث اتسع نطاق حرية التنظيم النقابي، وكذلك الاستعداد للحرب العالمية الثانية وما رافقه من بناء معسكرات واستعدادات في فلسطين؛ ما ساهم في تشغيل الآلاف من العمال.
وفي سنة 1942 تشكل اتحاد نقابات وجمعيات العمال العربية كتنظيم نقابي مواز لجمعية العمال العربية الفلسطينية.
وفي العام 1945 انشقت مجموعة أخرى عن جمعية العمال العربية الفلسطينية وتوحدت مع اتحاد النقابات.
أدت هذه التطورات إلى سن قانون نقابات العمال لسنة 1947، إلا أن نكبة فلسطين عام 1948 شكلت طعنة عميقة للتنظيم النقابي الفلسطيني؛ بعد أن تشتت الآلاف من العمال، وتشتت الشعب الفلسطيني ،ودمرت البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية، وفاتت فرصة الاستفادة من القانون الجديد.
وتمخض عن النكبة نقل مقر جمعية العمال العربية الفلسطينية من حيفا إلى نابلس. ولم يمض زمن طويل على مؤتمر العمال العرب حتى أقدم على خطوة الأسرلة، وتحول اسمه إلى اتحاد عمال إسرائيل، وقرر مؤتمر العمال العربي في مؤتمره السنوي المنعقد في العام 1953 توقيف أعماله، ودعا العمال العرب إلى دخول النقابات المهنية والمؤسسات الاجتماعية والصحية والهستدروتية، الأمر الذي عرّض التنظيم النقابي الفلسطيني إلى نكبة بعد تفرُّق القادة النقابيون على مختلف التجمعات الفلسطينية، وبذلهم محاولات عديدة غير ناجحة لإقامة تنظيمات نقابية للعمال الفلسطينيين، إلا أن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح واستمر الحال حتى منتصف من الستينات.
في أعقاب حرب 1948 قامت الحركة النقابية (جمعية العمال العربية الفلسطينية) بنقل مركزها من حيفا إلى نابلس، وتشتت القادة النقابيون، واستقر معظمهم في عمّان، ورافق هذا الوضع ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية، وذلك بعد صدور قرار المجلس الأعلى للجمعية باستئناف العمل النقابي انطلاقاً من عمان بعد أن غيرت جمعية العمال الفلسطينية اسمها عام 1952 إلى جمعية العمال الأردنيين. ولم يلقَ هذا الأمر ترحيبًا وقبولاً؛ ما دفع البعض لمواصلة العمل بشكل غير علني؛ فقامت الحكومة الأردنية بسن قانون نقابات العمال رقم 53 لسنة 1953 بعد أن حلت النقابات العمالية الموجودة في الضفة الغربية سنة 1952.
وبعد سن قانون نقابات العمال، دخل التنظيم النقابي مرحلة جديدة وفتح المجال لتأسيس نقابات جديدة، إذ نص القانون على أنه يحق لكل سبعة عمال فأكثر يعملون في مهنة واحدة أو شركة واحدة، تأسيس نقابة خاصة بهم. وفي ضوء ذلك تم تسجيل 21 نقابة كمقدمة لتأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال في الأردن عام 1955.
وفي الضفة الغربية تم تسجيل 40 نقابة تضم أربعة آلاف عامل، وترافق هذا التزايد مع تأسيس نقابات عمالية بالتشريع العمالي، وصدر قانون التعويض رقم 17 لعام 1955، ثم قانون العمل رقم 21 لعام 1960، والقانون المعدل رقم 3 لعام 1965، والذي ارتفع بموجبه الحد الأدنى لعدد العمال الذين يحق لهم المطالبة بتسجيل نقابة، من سبعة إلى عشرين عاملاً.