تاريخ المستشفيات في فلسطين

المستشفيات في فلسطين قبل الإسلام

ذكرت المصادر أن هيركانوس الأول  (من عهد المكابيين الحشمونيين 104-175 ق.م) كان قد أسس مستشفى في مدين القدس مستفيدا من النقود التي وجدها في قبر داوود. وكان المستشفى مخصصا لإيواء المرضى والحجاج من زوار المدينة الذين يحتاجون للراحة من عناء السفر.

في سنة 325 م اعتنقت الملكة هيلينا، والدة القيصر قسطنطين العقيدة المسيحية، فانصب اهتمامها على بناء الكنائس على الأماكن التي استحوذت على الباب المؤمنين المسيحيين كالمكان الذي صلب فيه السيد المسيح وشهد قيامته (كنيسة القيامة)، والمكان الذي ولد فيه (كنيسة المهد) في بيت لحم، كذلك المكان الذي دفن فيه إبراهيم وأبناؤه عليهم السلام (الحرم الإبراهيمي) في الخليل.

ومع بناء هذه الكنائس، وبدء توافد الحجيج من مختلف أنحاء العالم المسيحي اخذ الاهتمام بفلسطين منحى جديداً. ففي عام 325 م قرر القنصل فيسيا إنشاء فندق ومستشفى ملحقين بكنيسة بنيت في على تلة الجولجوتا في القدس وسميت "بازيليكا"  على اسم القيصر "بازيليوس". وقد ذكر المطران اليوناني كيريللوس (313-387 م) وجود مستشفى في المدينة سنة 348م، كما ذكر حاج مجهول من بوردو، زار المدينة المقدسة عام 333م، أنه  شاهد الـ "بازيليكا" على تلة جولجوثا، وذكر أنها بنيت بأمر الإمبراطور قسطنطين.

بعد ثورة السامريين عام 529 م، وتردي الأوضاع في البلاد رجا بطريرك القدس بطرس، القديس سابا أن يسافر إلى القسطنطينية ويطلب من القيصر جوستنيان (527-565) أن يخفف الضرائب التي يجب أن يدفعها سكان فلسطين، وذلك بسبب الدمار الذي سببته السامرة هناك. وقال القديس سابا للقيصر: "أرجوكم أن تخفضوا ضرائب فلسطين، لأن السامرة قتلت سكانها ودمروها، ويمكن للقيصر أن يأمر بإعادة بناء الكنائس التي دمرها السامريون، وأن يبني في القدس مستشفى للحجاج".

ووافق القيصر على جميع هذه الطلبات، وأعاده مع ضابط زوده بتعليمات، وعند وصول الضابط إلى القدس أسس الضابط مستشفى للحجاج. وربما كان هذا المستشفى مجرد توسيع للمستشفى القديم، وجزأً من كنيسة جوستنيان التي سميت نيا (Nea) (الجديدة) وبنيت على سطح كنيسة "بازيليكا" المشيدة فوق بركة سلوان.

 وكان المستشفى يحتوي في البداية على مئة سرير، ثم أمر الإمبراطور بزيادة الأسرة إلى مائتين. وذكر المؤرخون أن ثمة مستشفى آخر أقيم بعد مستشفى جوستنيان بحوالي نصف قرن، وقد تم إنشاؤه في القدس، ويعود الفضل في إنشائه إلى البابا غريغوريوس الأول (590-604 م) وكان موقعه قرب كنيسة القيامة (حارة الدباغة).

ويقول زائر من بيزانسا زار القدس عام  570م "ومن صهيون نزلنا إلى "بازيليكا" مريم المقدسة، حيث يقيم مجموعة من القساوسة، وبين صفوف الحجاج طاولات لا تعد، وأسرة المرضى (يصل عددها) أكثر من ثلاثة آلاف"، وقد دمر هذا المستشفى أثناء الغزو الفارسي عام 614 م ضمن ما دمر في المدينة. ويبدو أن هراقليوس الذي استعاد القدس عام 624 م من الفرس، قد أمر بترميمه بحيث كان قائماً أثناء الفتح الإسلامي للمدينة. وقد دمرت الكنيسة والمستشفى اثر زلزال ضرب المنطقة في القرن الثامن، وقد ظهرت أثار الكنيسة في حفريات أجريت بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 جنوب الساحة الألمانية. وقد سمح الخليفة المستنصر بالله الفاطمي عام 1062 م لتجار إيطاليين برعاية وبناء مثل هذه الأماكن  فبنوا كنيسة مريم مع مستشفى، وفي عام 1063 م توسعت وسميت مستشفى يوحنا، وكان صالحا للخدمة أثناء الحروب الصليبية وبعد احتلال القدس فتم الانتفاع به لبداية لنشاط "الهوسبتاليين" (المشافيين)، أو فرسان يوحنا، في هذا المضمار، ولاحقاً عمل في هذا المستشفى الطبيب الفلسطيني يعقوب بن صقلاب المتوفي عام 1228م، وكتب تفاصيل العمل في المستشفى في "قوانين روجر دي مولان" 1177-1187م حيث يقول" أن لخدمة الفقراء في المستشفى في القدس يسمى للعمل أربعة أطباء متعلمين، الذين يمكنهم من أخذ عينات البول، ويساعد المرضى في تركيب الأدوية". وفي عام 1070م أنشأ جماعة من حجاج أمالفي (ايطاليا) نزلاً في بيت المقدس بادر إليه الحجاج الفقراء، وأذن الوالي المصري على بيت المقدس لقنصل أمالفي أن يختار موقعاً مناسباً، وتقرر تدشين الدار باسم القديس يوحنا المتصدق، بطريك الإسكندرية في القرن السابع، وكان جل القائمين على هذه الدار من الرهبان الأمالفيين. وعندما استولى الصليبيون على القدس كان مقدم هذه الدار  يسمى جيرار، الذي أسس طائفة مستقلة اتخذت اسم الـ "إسبتارية" وتدين بالطاعة للبابا مباشرة واتخذوا شارة صليب أبيض على ستراتهم فوق أدواتهم الحربية لتميزهم عن سائر الطوائف.

 

مستشفيات فلسطين في العصور الإسلامية

لعل أشهر من عمل في الطب في العصر الأموي هو خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان يحاضر في صحن الصخرة ببيت المقدس، وكان عمر بن عبد العزيز من رواد حلقاته في التطبيب والتثقيف الصحي. وقد تلقى خالد العلم على يدي الراهب مريانوس المقدسي الذي علمه صناعة الطب والكيمياء وتحضير العقاقير الطبية.

وفي العصر العباسي ذاع صيت عدد من الأطباء في مدن الرملة وعسقلان وطبرية، مثل بولس بن حنون، الذي أتى ذكره في مجلس طبي في بغداد، وأبو الفتح كشاجم الذي أستقر عند زعيم القرامطة الذي كان يحتل الرملة 967 – 976 م. وفي القدس كان يوسف النصراني، بطريرك القدس يمارس الطب أيضاً 980 م. كما أشتهر في القدس كذلك الأنبا زخريا بن ثوابة والطبيب سعيد التميمي وحفيده محمد بن أحمد بن سعيد التميمي حوالي 1000م الذي تعلم على يد الأنبا زخريا، ثم انتقل إلى الرملة في فلسطين وعمل لدى طغج الإخشيدي، ثم توجه إلى مصر في البلاط الفاطمي، حيث ألف العديد من المؤلفات في الطب والترياق.

وأول مستشفى بني في فلسطين إبان العصر الإسلامي كان في زمن الفاطميين، ولم يعرف اسم بانيه، أو سنة بنائه، لكنه يرجح أنه بني في الزمن نفسه الذي بنيت فيه دار العلم الفاطمية 1009 م، أي في زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي، وظل عامراً ما يقرب من قرن إلى أن أحتل الفرنجة مدينة القدس 1099م. وقد بني هذا المستشفى في الناحية الجنوبية من المسجد الأقصى، لعله مكان الزاوية الختنية، وهي الآن  وراء المسجد الأقصى.

وقد جاء ذكر هذا البيمارستان في رحلة الإيراني ناصر خسرو الذي زار القدس عام 1047م: "وفي بيت المقدس مستشفى عظيم عليه أوقاف طائلة ويصرف لمرضاه العديدين العلاج والدواء، وفيه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف". وهذا المستشفى ومسجد الجمعة يقعان على حافة وادي النار.

 

مستشفيات فلسطين إبان الحروب الصليبية

فرضت الظروف الحربية على الصليبيين الاهتمام بالجرحى والمصابين في الحروب المتكررة التي قادوها للاستيلاء على البلاد المقدسة. وهكذا أنشأوا المستشفيات إلى جوار الكنائس، مثل مستشفى القديس عازار لمداواة المجذومين، ومستشفى القديس يوحنا السابق الذكر. وكانت قد تأسست ثلاث منظمات رهبانية عسكرية هدفها إيواء ومداواة المرضى والجرحى من الجنود والحجاج المسيحيين، وهي؛ منظمة فرسان القديس يوحنا، وتميز أتباعها بارتداء الثوب الأسود والصليب الأبيض على الصدر، ومنظمة فرسان الهيكل، وتميز أفرادها بالثوب الأبيض والصليب الأحمر على الصدر، وهاتان المنظمتان فرنسيتان. ومنظمة التوتونيين، وهم من الألمان وتميز أعضاؤها بارتداء الثوب الأبيض والصليب الأسود على الصدر، وكان لباسهم جميعاً يدل على الصفة المزدوجة التي تجمع بين الرهبنة والجندية.

 وقد بدأ الإسبتارية نشاطهم في عهد بلدوين الثاني 1118-1131.  وفي سنة1118م تمكن هيوغ باينز Hugh Payns)) أن يقنع بلدوين الأول بأن يسمح له ولفئة من رفاقه الفرسان بالنزول في جناح بالقصر الملكي بالمسجد الأقصى، ومن نزولهم بالمعبد المذكور أطلق أسم الفرسان الداوية Knight Templar) )، والتزمت هذه الجماعة بالجانبين الديني والعسكري، واتخذوا الصليب الأحمر شعاراً لهم. ويأتي أسم الهوسبتاليين من كلمة Hospitaliers   التي تعني "المضيفين" من الضيافة Hospitalite.

وفي جوار المضافة التي كانت تقع بين السوق وكنيسة القبر المقدس كان يعيش الرهبان الذين يخدمونه، والذين انضموا فيما بعد إلى جمعية تحمل الاسم ذاته، ومن هنا  جاءت تسميتها بـ جمعية الهوسبتاليين، وقد أخذوا على عاتقهم أمر العناية بالحجاج الذين يتوافدون إلى فلسطين، فكانوا يؤمنون لهم المأكل والمسكن، ويعالجون الذين يمرضون في الطريق". وكان عملهم موجهاً نحو الخدمة العسكرية والإنسانية ولضيافة الحجاج والجنود، ولهذا أمر صلاح الدين بإنشاء مستشفى خارج إطار مبناهم الذي كما يبدو لم يتميز بشئ طبي ، وكذلك فعل في عكا.هذا يدل أن الصليبيين لم ينشئوا مستشفيات بالمعنى الصحيح بل أنشئوا دور ضيافة للحجاج والمرضى منهم، واستعانوا بالأطباء العرب الموجودين كإبن صقلاب وغيره.

يقول ميخائيل زابوروف في كتابه  "الصليبيون في الشرق "ص 159-160" ولكن واجبات الإحسان المترتبة على الهوسبتاليين تراجعت إلى المرتبة الثانية بعد مرور بضع سنوات على فتح فلسطين من قبل الصليبيين الذين اشتركوا في الحملة الصليبية الأولى؛ وفي عهد الأستاذ الأكبر ريمون دي بوي   (1120-1160) صارت جمعيتهم على الأغلب جمعية عسكرية فرسانية."، أما الهيكليون فإن جمعيتهم اتسمت منذ بادئ بدء بطابع عسكري صرف تقريباً"

كما أسس الألمان مستشفى لهم، إذ كشفت الحفريات عن أنقاض هذا  المستشفى في حارة المغاربة بالقدس، وقد شيد هذا المستشفى عام 1127م وشيدت معه، وبقربه كنيسة مريم الألمانية. كما أنشأ المجريون مستشفى لهم عام 1135م ويرجح أنه كان يقع شمال كنيسة القيامة، ولم يتخلف الأرمن عنهم فأسسوا سنة 1165 مستشفى أضافوه إلى الكنيسة والدير وذكره يوحنا فون فورتسيبورغ.

 

مستشفيات فلسطين في العهد الأيوبي

عندما نزل صلاح الدين إلى القدس نزل في دار الإسبتار وسمح لعشرة رهبان البقاء فيه لمدة سنة كاملة لعلاج المرضى وكان منهم يعقوب بن صقلاب الطبيب المقدسي المتوفى عام 1228م وجعل الكنيسة المجاورة لدار الإسبتار بيمارستاناً، ووقف عليه الأوقاف. وجاء في سيرة صلاح الدين  لابن شداد: "وأمرني السلطان بالمقام في القدس لعمارة بيمارستان أنشأه وإدارة مدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عودته، وسار من القدس صحوة الخميس في السادس من شوال 588هـ/ 15 تشرين الثاني 1192، وكان السلطان قد أنشأ هذا البيمارستان عام 583هـ عندما فتح القدس، وكان واحداً من عدة مؤسسات علمية وخيرية أنشأها صلاح الدين في المدينة والديار المقدسة".

وكان بن صقلاب قد تتلمذ على يدي ثاوذوري الأنطاكي الذي كان يعلم الطب والعلوم الطبيعية والحساب وأحكام النجوم، كما عمل في مدينة القدس أيضاً أبو منصور الصوري النصراني، الذي عمل أيضاً مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، كما عمل مع السلطان الطبيب عبد اللطيف بن يوسف البغدادي موفق الدين المتوفي عام 1231م 629هـ وساهما في دفع الحركة الطبية في فلسطين، حيث كانت له حلقة في المسجد الأقصى يعلم فيها الطب.ودعي البناء البيمارستان الصلاحي، وبقي البناء حتى دخول فريدريك الثاني في مارس 1229، حيث أقام حفلة بعد تتويجه في كنيسة القيامة وألقى خطبة باللغة الفرنسية  وترجمت إلى الألمانية واللاتينية.

ويقول عارف العارف : "إن هذا البيمارستان انهار كغيره مع المباني مع الأيام، وإن الزلزال الذي حدث عام 1458م أتى على القية الباقية من أنقاضه. ولعله يقصد البناء الأصلي الذي شيده صلاح الدين. إذ أن السجلات التي عثرنا عليها في المحكمة الشرعية بالقدس، تدل على أنه كانت هناك في أواسط القرن الثامن عشر مؤسسة تعرف بالمارستان الصلاحي؛ حتى أن القاضي عين زين بن إمام قلعة البرك في وظيفة خدمة المرضى والمجانين بالمارستان الصلاحي بعثمانيين في كل سنة، عوضاً عن حجازي بن العجمية لوفاته، وقد أمره بتقوى الله في عمله، وتذكر الوثيقة 64 من وثائق مقدسية تاريخية أن البيمارستان قد تم تعميره سنة 978 هـ (حوالي 1557م )، وتذكر الوثيقة 65  تعيين جراح للبيمارستان هو السيد وفا أفندي علمي زاده سنة 1203 هـ. ووثيقة 70 لسنة 1205 هـ (حوالي 1784م) تصف الأعيان الموقوفة عليه..

 وفي سنة 1753م/1167هـ كان متولي وقف البيمارستان الصلاحي محمد نجم الدين أفندي العلمي. وقد اكتشف الألمان وهم يحفرون أساس كنيسة الدباغة حجارة نقش عليها صلاح الدين وأسماء الذين تولوا الحكم بعده ويقول د.سامي حمارنة "البقايا الأثرية للبيمارستان الصلاحي بالقدس ، مجموعة دعامات حجرية وعقود، وآثار القاعات وهي مغطاة بسقوف ذات أقبية متقاطعة وسقوف برميلية، وكانت لكل قاعة مخصصة لحالات مرضية معينة؛ داخلية، أو حميات، أو جراحة وتوليد. وقسم البناء الأصلي مكان البازار اليوم والواجهة. والحاجة ماسة إلى مداومة الصيانة للأبواب والشبابيك والغرف والمجاري وترميم البناء منذ خرابه عام 1458م.

 يقول مصطفى مراد الدباغ في موسوعة "بلادنا فلسطين": "أهدى السلطان عبد العزيز (1861- 1879) لولي عهد ألمانيا فريدريك ولهلم، عندما جاء لحضور افتتاح قناة السويس وزار القدس، بقعة كانت قسماً من المستشفى الصلاحي بنيت عليها فيما بعد كنيسة الدباغة"، وقد أهدى السلطان كذلك لإمبراطور النمسا موقعاً آخر على درب الآلام عند مفترق الطرق المؤدية إلى باب العمود وحارة باب الواد بناه النمساويون نزلاً لإمبراطورهم فرنسوا جوزيف وقد نام فيه ليلة عندما زار القدس عام 1869، ولكن لم يستعمل كمستشفى إلا في أواخر الاحتلال البريطاني وهو ما يسمى الآن الـ "هوسبيس".

وبعد انسحابهم من القدس بعد معركة حطين 1187م/583هـ  انتقلوا إلى عكا، التي أصبحت عاصمة الصليبيين في فلسطين، حيث أقاموا أيضاً مستشفى الإسبتارية، وعندما دخل صلاح الدين أوقف دار الإسبتار على الفقراء وجعل دار الأسقف بيمارستاناً وولى أبا جمال الدين ابن الشيخ أبي النجيب النظر في أمره.

وكانت فلسطين تحظى أثناء حروب صلاح الدين ضد الصليبيين باهتمام سياسي رافقه اهتمام طبي لمرافقة الجيوش، وكان يرافق جيوش صلاح الدين مجموعة من الأطباء المشهورين، كعبد اللطيف البغدادي، ورشيد الدين الصوري، وأحمد بن قاسم ابن أبي أصيبعة، المتوفى عام 1270 م/668 هـ، ورشيد الدين (أبو وحش ابن الفارس ابن أبي الخير ابن أبي سليمان ابن أبي فانة المقدسي المعروف بأبي حليقة) 1261م/ 660هـ، وأبو عمران موسى بن ميمون القرطبي، الذي ولد بقرطبة عام 1134م وتوفي  في مصر عام 1204م، وأبو منصور النصراني، ويعقوب بن صقلاب.

 

مستشفيات فلسطين في العهد المملوكي

استمر الاهتمام بفلسطين وتطوير دور الإشفاء والعلاج في مدنها حتى بعد خفوت أوار الحروب الصليبية، وتسابق الخلفاء والأمراء المماليك في تشييد البيمارستانات والتكايا والأوقاف ويلاحظ الزائر لمدينة القدس  آثار هذه المنشآت في أحيائها المختلفة. وكان الرهبان الفرنسيسكان قد تولوا العناية بالمرضى في فلسطين، ففي سنة 1355م اشترت فلورنسية ثرية تدعى صوفيا دي أرخنجليس  Sophia de Archangelis  أرضاَ بجوار كنيسة العشاء الأخير(مقام النبي داود) في جبل صهيون وبنت فيها مستشفى وضعته تحت إدارة أصحاب القديس فرنسيس، وجهز المستشفى ليستقبل عدداً كبيراً من الحجاج، وبقي هذا المستشفى قائماً حتى سنة 1477م/882هـ، ولم يقو فرسان القديس يوحنا على مجاراة الفرنسيسيين في هذه الأعمال وإن حاولوا ذلك.

وقد أضيف إلى ما سبق ذكره من البيمارستانات التي شيدت في عهد المماليك:

البيمارستان المنصوري في الخليل؛ من أوقاف السلطان قلاوون بن عبد الله، وقد عمره سنة 1281م/680هـ .

بيمارستان الرملة: وقد بناه فخر الدين القبطي،ناظر الجيش للسلطان قلاوون، وكان قد بنى العديد من البيمارستانات في نابلس وبيمارستاناً في القدس أيضاً.، كما بنى عدداً من المساجد والسبل ولم ترد عن البيمارستان في القدس أي إشارات أخرى عدا اسمه.

بيمارستان غزة: وقد بناه علم الدين سنجر بن عبد الله الجاولي الفقيه عام 1344 / 745هـ ) وكان عامل الملك الصالح إسماعيل الأيوبي على غزة حيث عمر في غزة المسجد وحمام ومدرسة للشافعية.(  ) وكان شرقي الجامع الكبير وبه رباط أنشأه الملك الناصر قلاوون سنة 730 هـ وكانت له أوقاف كثيرة، وكان قسم من البيمارستان مخصصاً لمداواة أمراض العقل وبقي عامراً حتى عام 1215 حيث خرب في أثناء هجوم نابليون 1800عام.

بيمارستان صفد: وقد عمره سيف الدين تنكز  عام 1340م/ 741هـ وكان نائب السلطان بالشام أيام الملك  الناصر محمد بن قلاوون.

- بيمارستان نابلس: وقد جاء ذكره في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي 1689م ويستدل من نقش على بابه  على ضريح المصطفى بك الفقاري، أنه شيد عملا بإشارة من رضوان بك أمير الركب المصري سنة 1051م ، ولعله نفس البيمارستان الذي  بناه فخر الدين القبطي  1331م.

- بيمارستان بيسان: وهو أيضاً من أعمال سنجر الجاولي.

 

مستشفيات فلسطين في العهد العثماني

اعتنى العثمانيون بالبيمارستانات التي أُسست في فلسطين في العهد المملوكي وزادوا أوقافها، والبيمارستانات هي مستشفيات عامة تعالج فيها الأمراض الباطنية والرمدية والعقلية وتمارس فيها العمليات الجراحية، يتم العلاج فيها عن طريق طاقم طبي متخصص?. ومن هذه البيمارستانات: بيمارستان الفاطمي في مدينة القدس، وبيمارستان الصلاحي في عكا، وبيمارستان المنصوري في الخليل، وبيمارستان غزة، وبيمارستان الرملة وبيمارستان نابلس، وبيمارستان تنكز في صفد.

أما المستشفيات "البيمارستانات" التي ظهرت في فلسطين في العهد العثماني فهي:

- المستشفى البلدي:

أُنشئ هذا المستشفى عام 1891م، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في بالقدس؛ حيث اشترى الحاج سليم أفندي الحسيني (رئيس بلدية القدس) قطعة أرض في حي الشيخ بدر، وبنى عليها مبنى من طابقين يضم 28 غرفة و40 سريراً؛ أمّا طاقم المستشفى فكان يتألّف من 7 ممرضات و5 ممرضين وإماماً يمثل إدارة البلدية ويقوم بوظيفة سكرتير المستشفى؛ وكان رئيس الأطباء يونانياً يُدعى "فوتيوس أفكليدس" يساعده الطبيب المقدسي كامل الحسيني.

زُود المستشفى بغرفة عمليات مجهزة وصيدلية تحتوي على جميع الأدوية المعروفة في ذلك الوقت؛ وفي زمن متصرف القدس (علي أكرم بك)، أُنشئت بناية صغيرة من ثلاث غرف، خُصصت للأمراض المعدية؛ وبعد الحرب العالمية الأولى حوّلت سلطات الانتداب البريطاني دار المستشفى إلى مقر لدائرة الصحة.

اتسم العهد العثماني في فلسطين بازدهار مستشفيات الإرساليات الأجنبية، وخصوصاً في المدينة المقدسة ومنها:

1- المستشفى الروسي:

يقع في المسكوبية وبناه الروس سنة 1859م لمن يفد بقصد الحج من أبناء روسيا، وبعد عام 1917 أصبح مستشفى للموظفين البريطانيين وغيرهم؛ لذا أُطلق عليه اسم "مستشفى الحكومة".

2- مستشفى الهوسبيس:

بناه النمساويون على درب الآلام عند مفترق الطرق المؤدية إلى باب العمود وحارة باب الواد في القدس.

وبُني أصلاً ليكون نُزُلاً لإمبراطور النمسا فرانسوا جوزيف عند زيارته للقدس، ولكنه لم يُستعمل كمستشفى إلا في أواخر فترة الانتداب البريطاني.

3- المستشفى الإنكليزي:

أسسته الأسقفية البروتستانتية في القدس لخدمة اليهود، بمبادرة من مّبشري جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود، ووصل إلى فلسطين مُنشئ المستشفى وأول مدير له (الدكتور ماكجوان) سنة 1842م؛ ولكن مساعي المبشّرين الأنجلكانيين اصطدمت بمعارضة يهود القدس. وبمساعدة مالية من موشي مونتفيوري (الثري اليهودي البريطاني) استطاع اليهود أن يبنوا مستشفى خاصًا بهم، وأقيم المستشفيان اليهودي والإنكليزي سوياً عام 1844م.

4- المستشفى الألماني:

  بُني سنة 1894م ويُعرف باسم "المستشفى المجيدي"؛ لأن من يدخله من المرضى كان يدفع ريالاً مجيدياً عثمانياً فقط، مهما طالت إقامته.

ووصفه المؤرخ الفلسطيني عارف العارف بأنه أكبر المستشفيات التي قامت بالقدس،  وأن فيه مختبرًا وآلة للتصوير بأشعة (روتنجن)؛ وفي عام 1924 أداره الدكتور توفيق كنعان والدكتور غمالين، وتم إغلاق المستشفى عام 1939؛ بسبب الحرب العالمية الثانية، واُستعمل ثكنة للجند.

5- المستشفى الإيطالي:

تم بناؤه حوالي عام 1920 على طريق القديس بولس، ويتكون من ثلاثة طوابق، ويُعتبر أحدث المستشفيات الغربية الكلاسيكية عهداً.

6- مستشفى الأطفال:

وهو مستشفى صغير كان يقع شمال المسكوبية، ولم يضم سوى 15 سريراً.  أسست هذا المستشفى عائلة أرستقراطية ألمانية، وأنفقت عليه طيلة سنوات وجوده من 1872 حتى إغلاقه 1899، عندما انتحر مديره (الدكتور ساندرشكي).

وفضلاً عن هذه المستشفيات، عرفت أيضاً مشافى: بيت صفافا للأمراض السارية،  مستشفى بيت لحم للأمراض العقلية، مستشفى مار يوحنا لأمراض العيون 1861م، ومستشفى لمداواة المجذومين 1867م، ويقع بين حي الطالبية والبقعا التحتا، وأداره الدكتور توفيق كنعان عام 1919/.

ومما يجدر ذكره أن كُليّةَ صلاح الدين الإسلامية التي أُنشئت بالقدس سنة 1915 ضمت في برامجها التعليمية مادة لتعليم مبادئ حفظ الصحة.

تفيد المراجع بأن القدس عرفت في القرن السابع عشر الميلادي ما يمكن تسميته أوما يشابه في وقتنا الحالي النقابات الطبية، وكانت تُسمى الطوائف ولها رئيس يديرها، وقد تولى رئاسة طائفة الأطباء محمد بن أحمد سويسوا بين عامي ( 1596م/ 1610م)؛ أما طائفة الكحالين فعُرف من أعضائها إسحق بن شحاذة.  وبالنسبة لطائفة البياطرة فقد ترأسها خليل بن أبي زيد عام 1555، وبلغ عدد أطبائها بين أعوام 1545 و1555 خمسة أعضاء. كان رئيس أو شيخ الطائفة يمنح الترخيص للأطباء لممارسة مهنة الطب، كما كان ذلك من جملة مهام القاضي حيث يعود له قرار تعيينهم أورفضه.

ومن الطبيعيّ أن يكون لهذه المستشفيات أو البيمارستانات وغيرها من المؤسسات العلمية والدينية دور بارز في إظهار الجوانب الحضارية في فلسطين، وإن وجود مثل هذه المستشفيات "البيمارستانات" في فلسطين، والتي تضم أطباء، وممرضين، وموظفين، وأقساماً طبية متنوعة- إنما يدل على وجود ازدهار ثقافي ونهضة فكرية في المجال الطبي.

 

المستشفيات الفلسطينية في عهد الاحتلال الإسرائيلي

منذ عام 1967م لم تستثن السياسات الاحتلالية منحى من مناحي الحياة الفلسطينية إلا وعاثت فيه تخريبًا وتدميرًا وفق منهجية مبرمجة التزمت بتتطبيقها سلطات الاحتلال، مستهدفة صمود الإنسان الفلسطيني وبقاءه؛ فقد شهدت الأوضاع الصحية في فلسطين في عهد الاحتلال الإسرائيلي تدهورًا مستمرًا كباقي مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية؛ فقد أبقت إسرائيل المؤسسات والخدمات الصحية على ما كانت عليه قبل الاحتلال عام 1967؛ ولم تضع أي خطط أو برامج لتطوير هذه الخدمات؛ فضلًا عن تدمير العديد من المؤسسات أو إغلاقها.

الضفة الغربية:

فصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مدينة القدس عن باقي الضفة الغربية، وأعلنت ضمها إلى إسرائيل، وعملت على تقويض المؤسسات الصحية فيها؛ فمنعت المواطنين الفلسطينيين من سكان القدس من الانضمام إلى مشروع التأمين الصحي في الضفة الغربية، وقامت بإغلاق مستشفى الأطفال، ومديرية الصحة، والمختبر المركزي، وبنك الدم، ومركز مكافحة التدرن؛ كما أغلقت مستشفى الهوسبيس الذي كان يقدم خدمات صحية لنحو 150 ألف مواطن، وحولت المستشفى الحكومي في الشيخ جراح إلى مقر للشرطة. 

وفي منطقة رام الله أغلقت سلطات الاحتلال المستشفى الميداني، وحولته إلى إدارة للحاكم العسكري؛ وأغلقت مستشفى الأمراض السارية، ثم قامت بدمج المستشفيين الحكوميين القديم والجديد؛ ما أدى إلى انخفاض عدد الأسرة، وعدم القدرة على تلبية احتياجات السكان؛ فانخفض عدد الأسرة من (209) أسرّة  مخصصة لـ115.000 نسمة تقريباً في العام 1967، إلى نحو (116) سريراً مخصصة لنحو 140.000نسمة تقريباً في العام 1987.

أما في منطقة نابلس فقد قامت سلطات الاحتلال بإغلاق المستشفى الوطني الحكومي، الذي كان يتسع لـ153 سريراً؛ وأغلقت أربعة طوابق من مستشفى رفيديا الجديد؛ فتقلص عدد أسرته إلـى (118) سريراً فقط.

أما في منطقة الخليل، فكان هناك مستشفى واحد يقدم نصف سرير لكل ألف مواطن في العام 1967؛ ثم تقلص إلى ربع سرير لكل ألف مواطن عام 1987.

وفي منطقة طولكرم وجنين، قلصت سلطات الاحتلال عدد الأسرة في مستشفى طولكرم وجنين من 140 سريراً إلى 115 سريراً.

وفي منطقة بيت لحم وبيت جالا وأريحا مارست سلطات الاحتلال نفس الأسلوب؛ فقلصت عدد الأسرة في مستشفى أريحا من 72 سريراً إلى 48 سريرًا.

وهذه الممارسات تنطبق على كل مناطق الضفة الغربية.

قطاع غزة:

بلغ عدد سكان قطاع غزة في العام 1987 حوالي 664.378 ألف نسمة، بينهم 427.893 ألف لاجئ منذ العام 1948.  وكان يوجد في القطاع جهازان رئيسيان يعملان في مجال الخدمات الطبية: أحدهما حكومي، تديره سلطات الاحتلال العسكري الإسرائيلي؛ والآخر تديره وكالة الغوث.  وكانت سلطات الاحتلال العسكرية تنفق 30 دولاراً للفرد تقريباً في مجال الصحة.  وقد تضاءل عدد الأسرة في قطاع غزة من 1004 عام 1974 إلى 855 سريراً عام 1982.

وقد أغلقت سلطات الاحتلال مستشفيين هما: تل الزهور، والحميات؛ وحولتهما إلى إدارات عسكرية؛ وخفضت عدد الأسرة في مستشفى الأمراض الصدرية (وهو الوحيد في المنطقة) إلى 70 سريراً في العام 1980،.

وكانت سلطات الاحتلال العسكرية تدير أربع مستشفيات في قطاع غزة؛ كان أكبرها مستشفى الشفاء في مدينة غزة، حيث كان يحتوي على 336 سريراً؛ وكانت حالته سيئة بسبب نقص التجديد والمعدات، التي لا يمكن مقارنتها بالمعدات الموجودة في المستشفيات الإسرائيلية.

أما مستشفى ناصر في خان يونس؛ فكان يحتوي على قسم جراحة عظام يضم حوالي 20 سريراً؛ ولكن في العام 1984، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بإغلاق هذا القسم.  أما المستشفى الأهلي فقد كان المستشفى الوحيد الخاص في قطاع غزة؛ غير أن تكاليف العلاج به كانت باهظة؛ إذ كانت تصل إلى 100 دولار في الليلة الواحدة.  وكانت سلطات الاحتلال تدير خمساً وعشرين عيادة في أنحاء القطاع؛ ولكن غالبية هذه العيادات لم تكن تمتلك إلا القليل، أو لا شيء، من الأدوية، كما كانت تنقصها التجهيزات المخبرية الضرورية.  وكانت نوعية الخدمات التي تقدمها هذه العيادات محدودة جدًا.