ترك الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بعد عام 1967 أثاراً تدميرية على جميع أوجه الحياة في الأراضي الفلسطينية. وشهدت الأوضاع الصحية مثل كافة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية….الخ. تدهوراً مستمراً انعكس على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولم تنج الأوضاع الصحية من ذلك، حيث أن سياسة سلطات الاحتلال الإسرائيلي في المجال الصحي كانت تقوم على عدة نقاط رئيسة أهمها:
أ. إبقاء المؤسسات والخدمات الصحية على ما كانت عليه قبل الاحتلال عام 1967 وعدم وضع أية خطط وبرامج جديدة لتطوير هذه الخدمات.
ب. منع تطوير أو إنشاء مؤسسات صحية أهلية أو خيرية كان من شأنها تعويض العجز في مجال الرعاية الصحية للمواطنين من قبل المؤسسات الصحية الحكومية.
ج. عملت سلطات الاحتلال، بشكل مبرمج على ربط المؤسسات الصحية الفلسطينية بالمؤسسات الإسرائيلية مستهدفة بذلك إذابة الكيان الفلسطيني، وإلحاقه بنظام الاحتلال. فتنظيم وإدارة ومالية الخدمات الصحية في الأراضي المحتلة كانت تقع تحت السيطرة المباشرة للسلطات المحتلة. وكانت السياسة الإسرائيلية في المجال الصحي وتفرعاته تتجلى على النحو التالي:
1. في مجال التخطيط:
لم تكن السلطات الإسرائيلية تتيح للمواطنين الفلسطينيين ومؤسساتهم حق المشاركة وإبداء الرأي في مجال تطوير الأوضاع الصحية، وان تخطيطاً صحياً على المدى القريب أو المتوسط، أو البعيد لم تكن تتوفر له الإمكانيات الفعلية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن ما كانت تخصصه السلطات العسكرية لمستشفيات الضفة الغربية وقطاع غزة يكاد لا يعادل عشر الاعتماد المالي لمستشفى إسرائيلي واحد، كما أن مرتب الطبيب العربي يكاد لا يبلغ 50% من مرتب الطبيب الإسرائيلي وتكشف موازنة الصحة في سنوات الاحتلال أن معدل الإنفاق على صحة المواطن الفلسطيني لا يزيد على عشرين بالمائة من نسبة الإنفاق على الفرد في إسرائيل.
2. في مجال الصناعات الدوائية:
لقد كانت الصناعات الدوائية تواجه صعوبات كبيرة سواءً في مجال استيراد المواد الخام التي كانت تفرض سلطات الاحتلال قيوداً كبيرة عليها أو في الضرائب المرتفعة والمختلفة التي كانت تفرضها على هذه الصناعة والتي تزيد من تكلفة صناعة الدواء وسعره، وبالتالي يفقد القدرة على منافسة الأدوية الإسرائيلية.
3. الهياكل الصحية في فترة الاحتلال:
أ- الضفة الغربية:
قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بفصل القدس عن باقي الضفة الغربية وأعلنت ضمها إلى إسرائيل وعملت على تقويض المؤسسات الصحية فيها، فمنعت المواطنين الفلسطينيين من سكان القدس من الانضمام إلى مشروع التأمين الصحي في الضفة الغربية، وقامت بإغلاق مستشفى الأطفال، ومديرية الصحة والمختبر المركزي، وبنك الدم، ومركز مكافحة التدرن، كما قامت سلطات الاحتلال بإغلاق مستشفى الهوسبيس الذي كان يقدم خدمات صحية لنحو 150 ألف مواطن، كما حولت المستشفى الحكومي في الشيخ جراح إلى مقر للشرطة، وفي منطقة رام الله أغلقت سلطات الاحتلال المستشفى الميداني وحولته إلى إدارة للحاكم العسكري كذلك أغلقت مستشفى الأمراض السارية، ثم قامت بدمج المستشفيين الحكوميين القديم والجديد، مما أدى إلى انخفاض عدد الأسرة وعدم القدرة على تلبية احتياجات السكان.
وهكذا فقد انخفض عدد الأسرة من (209) سرير لتعداد سكان بلغ 115.000 تقريباً في العام 1967 إلى ما يقارب (116) سريراً لتعداد سكان بلغ 140.000 تقريباً في العام 1987.
أما في منطقة نابلس فقد قامت سلطات الاحتلال بإغلاق المستشفى الوطني الحكومي والذي كانت سعته (153) سريراً وأغلقت أربعة طوابق من مستشفى رفيديا الجديد فتقلصت أسرته إلـى (118) سريراً فقط.
أما في منطقة الخليل فكان هناك مستشفى واحد يقدم نصف سرير لكل ألف مواطن في العام 1967، تقلصت إلى ربع سرير لكل ألف مواطن عام 1987، وفي منطقة طولكرم وجنين فقد قلصت سلطات الاحتلال عدد الأسرة في مستشفى طولكرم وجنين من 140 سريراً إلى 115 سريراً، وفي منطقة بيت لحم وبيت جالا وأريحا مارست سلطات الاحتلال نفس الأسلوب فقد تقلصت عدد الأسرة في مستشفى أريحا من 72 سريراً إلى 48 سرير، وهذه الممارسات تنطبق على كل مناطق الضفة الغربية.
ب- قطاع غزة:
بلغ عدد سكان قطاع غزة في العام 1987 حوالي 664.378 ألف نسمة بينهم 427.893 ألف لاجئ منذ العام 1948. وكان يوجد في القطاع جهازان رئيسيان يعملان في مجال الخدمات الطبية، إحداهما حكومي ويدار من قبل سلطات الاحتلال العسكري الإسرائيلي، والآخر يدار من قبل وكالة الغوث، وكانت السلطات العسكرية تنفق 30 دولاراً للفرد تقريباً في مجال الصحة، وقد تضاءل عدد الأسرة في قطاع غزة من 1004 عام 1974 إلى 855 سريراً عام 1982.
وقد أغلقت سلطات الاحتلال مستشفيين هما تل الزهور والحميات وحولتهما إلى إدارات عسكرية وخفضت عدد الأسرة في مستشفى الأمراض الصدرية وهو الوحيد في المنطقة إلى 70 سريراً في العام 1980، وكانت سلطات الاحتلال العسكرية تدير أربع مستشفيات في قطاع غزة، والتي كان أكبرها مستشفى الشفاء في مدينة غزة، حيث كان يحتوي على 336 سريراً، وكانت حالته سيئة بسبب نقص التجديد والمعدات التي لا يمكن مقارنتها بالمعدات الموجودة في المستشفيات الإسرائيلية.
أما مستشفى ناصر في خانيونس فكان يحتوي على قسم جراحة عظام يضم حوالي 20 سريراً ولكن في العام 1984 قامت السلطات الإسرائيلية بإغلاق هذا القسم، أما المستشفى الأهلي فقد كان المستشفى الوحيد الخاص في قطاع غزة، غير أن تكاليف العلاج به كانت باهظة حيث كانت تصل إلى 100 دولار في الليلة الواحدة، وكانت سلطات الاحتلال تدير خمساً وعشرين عيادة في أنحاء القطاع، ولكن غالبية هذه العيادات لم تكن تمتلك إلا القليل أو لا شيء من الأدوية، كما كانت تنقصها التجهيزات المخبرية الضرورية، وكذلك نوعية الخدمات التي تقدمها هذه العيادات كانت محدودة إلى درجة كبيرة.
4- في مجال التجهيزات والمعدات الطبية:
لقد كانت جميع المستشفيات والعيادات في الأراضي الفلسطينية، تعاني من نقص كبير في التجهيزات والمعدات الطبية الحديثة، بالإضافة إلى نقص إمدادات الكهرباء والمياه والصرف الصحي.
5- في مجال القوى العاملة في القطاع الصحي:
على الرغم من انه كان هناك حاجة ماسة للكثير من الأخصائيين في المراكز والقطاعات الصحية المختلفة، إلا أن الكثير من الأطباء الفلسطينيين كانوا يبقون بدون عمل وخاصة في الوظائف الممولة من ميزانية الخدمات الحكومية، كما أن العاملين في الحقل الطبي كانوا يفتقدون لفرص التدريب والاختصاص.
6- الرعاية الصحية الأولية:
كانت مراكز الأمومة والطفولة، تفتقر إلى الحد الأدنى من حيث عددها، أو من حيث تجهيزها بالمعدات والأجهزة الطبية، والكوادر البشرية اللازمة حتى تستطيع القيام بالحد الأدنى من الاحتياجات الطبية، هذا بالإضافة إلى أنها كانت تفتقر إلى برامج المتابعة والمراقبة فيما يخص الأم أثناء فترة الحمل وبعد الولادة، ورعاية الأطفال أثناء وبعد الولادة، ومتابعة نظام تحصينهم ومراقبة نموهم وتوفير سبل ومتطلبات تغذيتهم السليمة والى جانب التشخيص المبكر للأمراض الوراثية والعيوب الخلقية، ومما ضاعف من خطورة هذا الافتقار لرعاية الأمومة والطفولة، إذا علمنا أن الأطفال كان يشكلون ما نسبته 48.7% من مجموع السكان في الأراضي المحتلة في تلك الفترة، وان عدد الأسرة المخصصة لهم لم تكن تتجـاوز 13.27% من إجمالي عدد الأسّرة.
7- وفيات الأطفال والأنشطة الوقائية:
تعتبر نسبة وفيات الأطفال أحد أهم المؤشرات التي تعكس الوضع الصحي لأية مجموعة من السكان، واستناداً لإحصائيات سلطات الاحتلال والمكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء التي أشارت إلى أن نسبة وفيات الأطفال في قطاع غزة وصلت إلى 70 وفاة لكل ألف ولادة (تقرير 1986). أما بالنسبة للأنشطة الوقائية والفحوص الطبية لتلاميذ المدارس والعمال فإنها كانت تعتبر ضئيلة أو لم تكن أصلا موجودة في كثير من الأحيان.
8- التأمين الصحي:
لقد تدنى عدد المشتركين في برنامج التأمين الصحي الحكومي، خلال فترة الاحتلال فقد وصل عدد المشتركين إلى 30% في الضفة الغربية و56% في قطاع غزة في العام 1987 منحدراً من 83% في العام 1981، وذلك لأن الخدمات الصحية التي كانت تقدم في العيادات والمستشفيات لا تتناسب مع المبالغ التي كان يدفعها المواطنون لسلطات الاحتلال، كما أن ارتفاع تكاليف المعيشية وتدني مستوى دخل الفرد جعل المواطنين غير قادرين على تحمل التكاليف الباهظة لأقساط التأمين الصحي.
وبإيجاز فقد تم على امتداد سنين الاحتلال للأراضي الفلسطينية، تخريب مبرمج للهياكل الصحية الأساسية، وغيبت إلى حد كبير مقومات الحد الأدنى للرعاية الصحية الأولية، وأخذت الأمراض المختلفة في الانتشار، وزادت نسبة الوفيات ولا سيما بين الأطفال.
ولقد أعطى وفد الأطباء الأمريكيين (أطباء من اجل حقوق الإنسان) الذي زار الأراضي الفلسطينية المحتلة في فبراير من عام 1988، وصفاً دقيقاً مطابقاً لواقع الأوضاع الصحية في الأراضي المحتلة بعد أن قاموا بزيارات ميدانية حيث وصفوا الوضع الصحي كما يلي "أن أوضاع المستشفيات التي زرناها أسوأ بكثير من حيث المستوى وحتى إذا قورن مع المستوى المتدني للخدمات الصحية في بعض مناطق العالم الثالث".
وكان على العاملين في الحقل الصحي في الأراضي المحتلة، أن يواجهوا مسئوليتهم الأساسية في إنقاذ آلاف الجرحى والمصابين من ضحايا القمع الإسرائيلي للمواطنين العزل هذا في ظل أوضاع صحية متردية، وغياب ابسط الاحتياجات الطبية والمعدات الأساسية، هذا بالإضافة إلى زيادة التصعيد في أساليب القمع الوحشية التي كانت تمارسه قوات الاحتلال مما أوقع آلاف الإصابات والإعاقات المستديمة في صفوف المواطنين العزل المطالبين بحقوقهم الوطنية والإنسانية العادلة والمشروعة.