يرجع تاريخ صناعة الصابون في فلسطين إلى أكثر من ألف عام مضت، بدلالة الكثير من الكتابات التي دونها الرحالة والمؤرخون القدماء ومنهم شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري "المقدسي" (الذي عاش في القرن العاشر الميلادي)، حيث قال: إنه كان يصنع في مدينة نابلس ويحمل إلى سائر البلاد. وعندما زارها عام 1200؛ كتب: "ترمز هذه المدينة إلى قصر بين البساتين أنعم الله عليها بشجرة الزيتون المباركة".
ولا يعرف على وجه التحديد من هو مبتكر هذه الصناعة، وهل وجدت في نابلس أم نقلت إليها من مدينة أخرى؛ ولكن الثابت أن هذه الصناعة وجدت لها في نابلس البيئة والظروف المناسبة التي ساعدت على تمركزها في هذه المدينة أكثر من غيرها، ولعل من أهم الأسباب التي ساعدت على ذلك وفرة زيت الزيتون في منطقة نابلس ومحيطها؛ فهو المادة الأساسية في صناعة الصابون.
وقال المؤرخ: أن زيت الزيتون كان يرسل إلى دمشق ليستخدم في المسجد الأموي، كما كان يصدر إلى العديد من البلدان وجزر البحر الأبيض المتوسط.
وفي زمن الاحتلال الصليبي لفلسطين حظيت نابلس بمكانة عالية لشهرتها بصناعة أهم أنواع الصابون؛ حتى إن هذه الصناعة أصبحت حكراً على الملك فهو المسؤول عنها، ولا يسمح لأي من أصحاب المصانع بمزاولة الصنعة إلا بعقد يمنحه لهم ملك "بيت المقدس"، مقابل مورد مالي دائم من أصحاب المصانع.
ولم يكتف الصليبيون بذلك بل اجتهدوا في نقل الصنعة إلى أوروبا؛ فتأسست مصانع الصابون من زيت الزيتون في مرسيليا. وكانت هذه المصانع تحضر الصابون بطريقة مشابهة لطريقة تحضير الصابون النابلسي.
وفي العهد العثماني؛ انحصرت صناعة الصابون بأصحاب الثروة والسلطة؛ لأنها كانت ذات دخل مرتفع جدًا؛ فكانت صناعة متوارثة انحصرت في مجموعة من العائلات وارتبطت بأسمائها.
وفي مطلع هذا القرن؛ تنبه المصريون والسوريون لرواج صناعة الصابون؛ فبدأوا بصناعة صابون، وأسموه "صابون نابلسي"؛ ورغم ذلك بقي الصابون النابلسي رمزًا للجودة ومحورًا للاهتمام.
في عام 1930؛ نكست صناعة الصابون في نابلس للأسباب الآتية:
• عدم القدرة على حماية الاسم التجاري؛ ما شجع العديد من أصحاب المصانع التجارية على تقليد علامة الصابون.
• الضرائب الجمركية التي فرضتها الحكومة المصرية بالتعاون مع حكومة الانتداب البريطاني.
• رسوم الاستهلاك التي فرضتها الحكومة السورية على الصابون النابلسي.
• سماح سلطات الانتداب البريطاني باستيراد الصابون الأجنبي، وتشجيعها لليهود على إنشاء مصانع للصابون المصنوع من الزيوت والشحوم النباتية والحيوانية الرخيصة.
بعد عام 1967م وسقوط ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في قبضة الاحتلال الإسرائيلي بما فيها مدينة نابلس؛ سعت سلطات الاحتلال جاهدةً إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني ،وكانت صناعة الصابون مستهدفة كغيرها من الصناعات الوطنية الفلسطينية؛ حيث بدأت المصابن تختفي تدريجيا؛ بسبب إغراق السوق المحلية بأنواع متعددة من الصابون الأجنبي والإسرائيلي بأثمان رخيصة نسبيًا.
وأثناء انتفاضة الأقصى؛ كانت المصابن هدفًا مباشرًا لصواريخ الاحتلال الإسرائيلي وقذائف مجنزراته؛ حيث جرى تدمير ثلاث منها في حي الياسمينة، ولحقت أـضرار جسيمة في بأعداد أخرى.
كان عدد المصابن حتى أواخر القرن التاسع عشر 30 مصبنة، إلا أن هذه المصابن أخذت تختفي شيئاً فشيئاً حتى وصل عددها في العام 1904 إلى 16 مصبنة، تراوح إنتاجها السنوي ما بين 500 – 1000 طن.
وعشية اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ ارتفع عدد مصانع الصابون في نابلس من جديد، ليصل إلى 29 مصبنة: منها 23 مصبنة كبيرة، و6 صغيرة، تنتج ما بين 2400 – 2640 طنًا من الصابون.
وحسب ما ذكرته أرقام غرفة تجارة وصناعة نابلس، فإن عدد المصابن المسجلة رسميا حتى نهاية العام 2021 بلغت 9 مصابن 6 منها موجوة في المدينة و3 الأخريات في قرى المحافظة.
أما في العام 2012 فقد كان يوجد 4 مصابن فقط، وذكرت الأرقام أن قيمة صادرات الصابون النابلسي في نفس العام بلغت 1736496 دولارًا. كما أشار المصدر أن أكثر الدول العربية استيرادًا للصابون النابلسي هي: الأردن، والإمارات العربية، والعراق؛ وأن بعض الدول الأجنبية تستورد الصابون النابلسي وهي: اليابان، وكوريا، والبيرو.
وبسبب توقف عدد كبير من المصابن عن الإنتاج منذ سنوات، وتقليص إنتاج العديد منها زادات منافسة الصابون الصناعي.
المواد المستخدمة في صناعة الصابون:
1- زيت زيتون بنسبة 82% تقريبًا.
2- هيدروكسيد الصوديوم بنسبة 13% تقريبًا.
3- ماء ومواد أخرى بنسبة 5% تقريبًا.
الأدوات المستعملة في صناعة الصابون
لا يوجد في صناعة الصابون النابلسي آلات معقدة؛ بل إن العمل بهذه الصناعة يدوي ويعتمد على العمال، وأهم الأدوات المستعملة:
1- الحلة: وهي عبارة عن قطعة دائرية مقعرة من النحاس، قطرها يبلغ حوالي مترين؛ وسمكها يصل إلى 2.5سم، توضع على عمق مترين أو أكثر، ثم يبنى حولها جدار سميك من الحجر الناري يتصل من أسفل بقاعدة النحاس ثم يصقل من الداخل. وعلى حافة الحلة العليا يوجد طوق سميك من الخشب. وتتسع الحلة إلى ما يقارب 250 جرة زيت أي ما يزيد عن 5 أطنان بالإضافة إلى المواد الأخرى التي تدخل في صناعة الصابون.
2- المخاضة: وهي عبارة عن قضيب من الخشب طوله مترين ونصف، وفي رأسه السفلي قرص خشبي قطره 25 سم، مثبت من مركزه بقضيب. وتستعمل المخاضة للتحريك عند بداية علمية التصبن.
3- الدكشاب: يشبه المعلقة، وهو عمود من الخشب قطرة 7 سم وطوله أربعة أمتار تقريبًا وفي رأسه السفلى قطعة خشب شكلها قطع دائري، ويستعمل لتحريك الطبخة أثناء عملية التصبن.
4- الشمامة: أداة من الخشب لأخذ عينه من الصابون لفحصها من قبل الريس، وتشبه إشارة ( ) طرفها طويل حوالي 25 سم.
5- العوامة: قضيبين من الخشب طول كل واحد منهما 3م متصلين من أحد الأطراف بقطعة مستطيلة من الخشب؛ ومربوط بها عند الطرف العلوي حبل. وتستعمل العوامة في نهاية السفي حيث يتم بها تجميع الصابون في أسفل الحلة فوق ماء الخمير.
6- علبة البسط: وعاء دائري من الصفيح، قاعدته من الخشب السميك، تتسع إلى 17 كغم من الصابون اللزج ( الهلامي) تقريبًا.
7- الشوكة: قطعة من الحديد مبسطة ورأسها مدبب طولها يساوي عمق الصابون عند البسط وتستعمل لتحديد سمك الصابون عند عملية البسط، ويكون لها مقبض من الخشب.
8- المالج: قطة مستوية من الحديد، لها مقبض خشبي، تستعمل لتسوية سطح الصابون بعد علمية البسط.
9- المقشرة: صفيحة معقوفة بزاوية منفرجة بها ذراع خشبية، وتشبه في شكلها شفرة الحلاقة.
10- المقطع (السكين): سكين خاص مثبت على ذراع من الخشب طوله 70 سم.
11- الدوبارة: خيط من الكتان.
12- الفرجار.
13- الأختام: وهي عبارة عن قطعة من النحاس تحمل الماركة المسجلة للمنتج، مثبتة على مطرقة خشبية.
مراحل صناعة الصابون:
تمر صناعة الصابون بعدة مراحل رئيسية وهي: الطبخ، والبسط، والتخطيط، والختم، والتقطيع، والتجفيف، والتغليف.
1- عملية الطبخ:
يوضع في الحلة الخمير، وهو محلول مركز من الصودا الكاوية بتركيز ثابت محدد وبكمية معلومة تقدر بثلث الحجم الكلي للطبخة، ثم توقد النار تحت الحلة حتى يغلي المحلول، ثم يصب الزيت على المحلول في الحلة (وتسمى هذه العملية "رد الزيت" ( في الماضي كانت علمية رد الزيت ممتعة؛ حيث ينقل الزيت من البئر بواسطة دلو خاص إلى جرة، ومنها إلى الحلة، ويرافق علمية النقل ذكر عدد النقلات بصوت مرتفع ترافقه الأهازيج والمدائح والعبارات الحكيمة؛ ويستمر العدد دون ملل) وتشعل النار في القمميم تحت الحلة، حيث يقوم "الرشاش" ( الرشاش هو عامل الرش) برمي الجفت على النار حتى يغلي الزيت ويتمدد ويرتفع في الحلة، وفي تلك الأثناء يتم التحريك بواسطة المخاضة، ويضاف قليل من ملح الطعام للمساعدة في زيادة تركيز محلول الصودا في الحلة.
وبعد ذلك ينفصل معظمه ويبقى في أسفل الحلة، ثم يتم استخلاص كمية من محلول الصودا الكاوية الساخنة من المبزل المعد لذلك ويوضع فوق برميل الصواد المفتوح وجهه والمخروم أسفلة والموضوع فوق حوض لاستيعاب الخمير؛ فيرتفع تركيز الخمير. عندها يقاس مدى تركيزه بميزان خاص بالكثافة النوعية للتعرف على كمية الصودا المستهلكة.
وبعد ذلك يقوم العمال برفع الخمير المركز من الحوض بواسطة دلو ذي يد متحركة، ويرش فوق الزيت بالحلة، وهذه تسمى "ردة"، ويحركه الطباخ الرئيسي بواسطة الدكشاب. وتكرر العملية حتى تضاف إلى الزيت نصف كمية الصودا المطلوبة تقريبًا. وبعد كل ردة؛ تقام النار (توقد) حتى ( يحشر الغلو)؛ أي يتقلب المخلوط في الحلة ويتغير من حالة الى حالة أخرى؛ وهذا يعني أن عملية الغلي كانت كاملة لكل موجودات الحلة.
إن زيادة نسبة الصودا أو نقصانها يسبب عيوبا في الصابون؛ فزيادتها تزيد من سرعة جفاف الصابون، وتسبب كسر أطرافه عند التقطيع، وتسبب تحوير الصابون؛ بسبب خروج الزائد من الصودا على سطح قطعة الصابون ؛ ما يضر بالأيدي والملابس عند الاستعمال؛ أما نقص الصودا فيؤدي إلى تأخير جفاف الصابون وضمور سطح القطع عند تمام التجفيف، كما يشعر من يستعمل الصابون بوجود رائحة زيتية غير مستحبة تدل على أن الصابون غير جيد.
المرحلة النهائية وهي إعطاء الصابون كمية من الماء مع التحريك والغلي "الشطفة". وهذه العملية ضرورية لإكساب الصابون ليونة معينة ولغسل الصابون من الصودا الزائدة والشوائب المتعلقة أصلا بالزيت. وهنا يصبح في الصابون بعض الماء يتم فصله بصب كمية من ماء الخمير. وتسمى هذه العملية (التمييعة)، ثم يحرك الصابون بالدكشاب ويغلى حتى ( يحشر العلو)، ويترك بعد ذلك لمدة تتراوح بين (10-15) ساعة فينفصل الماء الزائد ويترسب للأسفل، ويكون الصابون عائمًا فوق الماء في الحلة؛ لأن كثافته أقل ويصبح جاهزا للبسط.
2- عملية البسط:
وبعد ترك الصابون ليلة كاملة؛ تبدأ في فجر اليوم التالي عملية البسط؛ حيث يقوم عامل البسط بواسطة دلو خاص يملأه بالصابون اللزج ( الهلامي ) ويفرغه في علبة البسط ويكرر العملية حتى تمتلىء علبة البسط، فيحملها عامل آخر على كتفه وينقلها إلى الطابق السفلى الذي يسمى "المفرش" ( ويوجد عدة عمال لنقل علب البسط)، ثم يأخذها عامل آخر ويسكبها على أرض المفرش (المبسط)، بعد أن تكون أرض المفرش قد غطيت بورق رقيق حتى لا يلتصق الصابون بالأرض (قديما كانوا يفرشون الأرض بشيد بدل الورق) ، ثم يقوم رئيس العمل بتسوية سطح الصابون بالمالج وتقدير سمكه بالشوكة.
3- عملية التخطيط:
وبعد اكتمال علمية البسط؛ يترك الصابون حتى يجف؛ ويحتاج ذلك إلى عدة ساعات في الشتاء؛ ويوم كامل في الصيف. وبعد ذلك؛ يقوم عمال التقطيع بعملية بشر سطح الصابون حتى يصبح أملسًا، ثم يترك بعد ذلك لتحديد طول القطعة وعرضها على أطراف الفرشة باستعمال الزاوية والفرجار، ثم تغمر الدوبارة بمحلول أحمر يسمى "غمرة" لإظهار خطوط متوازية أفقية وعمودية.
4- عملية التختيم:
وبعد بسط الصابون تظهر أرض المفرش بيضاء عليها مربعات حمراء، فيقوم عامل بختم وسط المربعات باستعمال الخاتم المثبت على شاكوش خشبي يظهر ماركة الصابون؛ ويقوم عامل أو عاملان بختم كل مربع بختم مستقل. المهم أن الطبخة التي تبلغ 50000 قطعة صابون يستطيع عامل واحد ان يختمها خلال ساعة ونصف الى ساعتين، وذلك بواسطة ختمين يحملهما بيديه الاثنتين ويضرب بشكل منتظم (اليمين تضرب والشمال ترتفع، والعكس)، بشكل سريع جدًا، وهو يزحف على رجليه ويجلس القرفصاء.
5- عملية التقطيع:
وبعد عملية التختيم يقوم بتقطيع الصابون وذلك بغرز السكين في الخطوط الحمراء بسحب السكين حتى تكتمل علمية التقطيع طولا وعرضا.
6- عملية التجفيف:
ويترك الصابون على أرض المفرش لمدة يوم أو يومين، ثم يقوم عمال التقطيع برفع الصابون عن الأرض، ويرتب الصابون في أرض المفرش على شكل رصات يقال لها صوامع، كل صومعة تضم حوالي 24 قطعة. ثم تبدا عملية التشبيك بأشكال مخروطية ترتفع أكثر من ثلاثة أمتار تسمى "تنانير"؛ لتسهيل عملية التجفيف. ويترك الصابون لمدة شهر أو أكثر.
وفي الماضي؛ كان موسم تصنيع الصابون يبدأ مع بداية موسم الزيت ويستمر حتى شهر آذار كحد أقصى، ويبقى الصابون منشورا حتى يجف. ولا يبيع صاحب المصبنة أي قطعة حتى شهر تموز.
7- عملية التغليف:
لم يكن الصابون يغلف؛ بل بدأت عملية التغليف في الأربعينيات من هذا القرن؛ حيث تلف القطعة يدويًا بورق خاص رقيق عليه اسم وماركة صاحب المصبنة. وينجز العامل لف قطع الصابون بسرعة معدلها 800 قعطة بالساعة، والبعض يتجاوز 1000 قطعة. وتجري مسابقات سنوية بين عمال اللف.
وكان الصابون يوضع في صناديق خاصة تنقل إلى مصر والشام بواسطة القطار. وفي الأربعينات ومطلع الخمسينات؛ أعيد وضع الصابون في أكياس صغيرة من الخيش (الوزنات) أصبحت تزن 10كغم أو 15كغم أو 20 كغم.
وقد أـدخلت بعد التطورات الآلية عند بعض المصابن؛ فتحول التحريك بالدكشاب إلى التحريك بواسطة المحرك الكهربائي؛ كما أصبحت عملية نقل الزيت من الآبار تتم بواسطة مضخة كهربائية؛ وحل الوقود النفطي محل الجفت.