عرفت صناعة الفحم النباتي في فلسطين في أوائل العهد العثماني، وتركزت هذه الصناعة في بلدة يعبد جنوب غرب مدينة جنين؛ لما كانت تتمتع به المنطقة من وفرة الغابات والأشجار الحرجية في جبالها وتلالها المحيطة، وخاصة أشجار السنديان والبلوط والسريس والبطم والخروب والصنوبر؛ حيث إن غابة "العمرة" القريبة من يعبد ما زالت ماثلة للعيان حتى أيامنا هذه.
وكانت عملية التسويق تتم في المدن الرئيسية مثل يافا وحيفا والقدس ونابلس. وقد عمد الإنسان الفلسطيني في ذلك الوقت على حرق جذوع الأشجار وأخشابها للحصول على الفحم للتدفئة وطهي الطعام وصناعة الصابون والحلويات. وكان الحطابون ينقلون الأخشاب على الجمال وعربات الخيل، ثم يجري حرقها بطرق بدائية لتحويلها إلى فحم بعد طمرها بالتراب؛ فراجت تجارة الفحم بين عامي 1880 و1948م.
في العهد الأردني؛ استمر مئات الفلسطينيين في منطقة جنوب غرب مدينة جنين، في صناعة الفحم التي توارثوها عن أجدادهم جيلاً بعد جيل؛ إلا أن هذه الصناعة شهدت تراجعًا؛ بسبب منع الحكومة الأردنية منذ بداية الخمسينات قطع الأشجار؛ حفاظًا على البيئة، ولإعادة المنطقة الحرجية إلى عهدها السابق، وقد جندت العديد من الطواقم لتحقيق ذلك الغرض.
أما في عهد الاحتلال الإسرائيلي؛ فقد عادت هذه الصناعة للظهور من جديد، خاصة في بداية السبعينات؛ ويعود السبب في ذلك إلى وجود فائض كبير من أخشاب الحمضيات وغيرها التي تقطع بطرق آلية بهدف تجديد زراعتها داخل الخط الأخضر؛ ومن جهة أخرى؛ أدى سوء الأوضاع الاقتصادية وتفشي البطالة في صفوف الفلسطينيين، وتحديدا المزارعين، إلى احتراف صناعة الفخم؛ حيث وجد عدد كبير من العمال في بلدة يعبد وجوارها في هذه الصناعة ملاذهم للخروج من البطالة وتحقيق أرباح مجدية؛ بعد أن اتسعت دائرة استخدام الفحم النباتي، وزاد الإقبال عليها لاستخدامها في المطاعم والفنادق والمنازل في فلسطين وداخل الخط الأخضر؛ لشي اللحوم والدجاج والأسماك داخل المطاعم والفنادق والمتنزهات، وفي الرحلات والنزهات العائلية؛ فأصبحت مصدر دخل يعتمد عليه من قبل مئات المواطنين في بلدة يعبد والقرى المجاورة لها.
أما في عهد السلطة الوطنية الفلسطينية؛ فإن صناعة الفحم واجهت الكثير من المصاعب تمثلت بالدرجة الأولي بسياسات الاحتلال التي ترمي إلى تضيق الخناق على هذه الصناعة؛ فبعد بناء جدار الفصل العنصري؛ ارتفعت التكلفة المالية لعمليات نقل الأخشاب من داخل الخط الأخضر إلى مواقع ورش إنتاج الفحم؛ كما وضع الاحتلال العراقيل أمام وصول الشاحنات الفلسطينية؛ فاشترط حصولها على تصاريح خاصة من سلطات الاحتلال للدخول إلى داخل الخط الأخضر؛ وفي ذات الوقت، وقع العاملون في هذه الصناعة فريسة الأجور المرتفعة التي يتقاضاها سائقو الشاحنات الإسرائيلية، التي مثلت البديل الممكن للشاحنات الفلسطينية؛ ما أدى إلى ارتفاع تكاليف صناعة الفحم النباتي؛ ومن ثم انخفاض نسبة الأرباح؛ كما أنه يتعين على أصحاب ورش الفحم الفلسطينيين دفع مبلغ 17% ضريبة "مقاصة" من ثمن الخشب الخام.
وفي عام 2011م؛ أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلية على إغلاق ورش الفحم بشكل نهائي، بقرار من المحكمة الإسرائيلية؛ فهدمت وجرفت العشرات من ورش الإنتاج، وصادرت عشرات الأطنان من الخشب، كما قامت بمطاردة سائقي شاحنات الأخشاب لمنعهم من توريد الخشب لهذه الورش.
في شهر تشرين الثاني 2016م، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة معدات (مشاحر الفحم) في بلدة يعبد، بعد مداهمة المنطقة وإعلانها منطقة عسكرية مغلقة. وتمت العملية بالتنسيق مع طواقم من ما يسمى بـ"الإدارة المدنية" الإسرائيلية؛ بدعوى "مكافحة المكاره والأضرار الصحية الناتجة عنها". وصادرت قوات الاحتلال آليات عمل و160 طنًا من جذوع الأشجار.
ورفضت سلطة جودة البيئة الفلسطينية الادعاءات الإسرائيلية التي تدعي أن مشاحر الفحم تؤدي لتلويث البيئة، ما يستدعي إغلاقها؛ وأكدت أن هناك تلوث، إلا أنه لا يقارن بما تحدثه مستوطنة إسرائيلية واحدة مقامة على الأرض الفلسطينية، وأنها استثمرت ما يقدر بربع مليون دولار من أجل إجراء تجارب علمية تؤدي لصناعة الفحم بطرق صديقة للبيئة، وأنه تم إجراء عدة تجارب كانت ناجحة بنسبة 90 في المائة؛ إلا أن إسرائيل منعت إقامتها وحاربتها، وأصدرت قرارًا بإغلاق جميع مشاحر الفحم؛ الأمر الذي يستهدف لقمة عيش مئات العائلات في البلدة التي تعتمد في عيشها على هذا العمل.
وفي 27/4/2017م، أعادت قوات الاحتلال حملتها العسكرية في يعبد؛ حيث داهمت البلدة، واستولت على 60 طنًا أخرى من الأخشاب؛ كما هدمت منشأة لتصنيع الفحم من أخشاب الأشجار، وصادرت معدات المعامل؛ ما ألحق خسائر كبيرة بأصحابها.
مراحل صناعة الفحم النباتي:
تبدأ عملية صناعة الفحم النباتي بترتيب جذوع الأشجار بطريقة هندسية على شكل هرم، ثم يتم تغطيتها بطبقة من القش، تليها طبقة من التراب المرطب بالماء؛ ويترك فوهة صغيرة في أعلى الهرم لإشعال النار "بالمشحرة"( المفحمة)، ثم يغلق بالتراب لمدة 15 يومًا. وخلال هذه الفترة تنتشر النار تدريجيا في الحطب. وتتوالى متابعة الهرم وإضافة الحطب إليه كلما تشكلت فجوات فيه (وتسمى هذه العملية "التطعيم")، وبعد توقف الأدخنة المتصاعدة؛ يكون الحطب قد تحول إلى فحم.
وتعدّ مهنة العمل في ورش الفحم من أصعب وأخطر المهن والأعمال؛ حيث يتعرض العاملون فيها للدخان والغبار والأوساخ والسناج طيلة أيام العمل.
في القدم كان أصحاب المهنة يلجأون إلى إطفاء الفحم بالماء، وينتظرون عدة أيام قبل كشفه؛ لكن العاملون في هذه المهنة اليوم يقومون بترطيب التراب بالماء ثم تغليف الهرم بالبلاستيك لعدة ساعات لحجب غاز الأكسجين وإطفاء النار، ثم يتم استخرج الفحم. والخطوة الأخيرة يقوم العمال بجمع كميات الفحم المنتج حسب الحجم، وتعبأ في أكياس ورقية أو من النايلون (شوالات) لتصبح جاهزة للتسويق.
أصناف الفحم النباتي:
يصنف الفحم النباتي حسب نوع الاخشاب المستخدمة في تصنيعة، ويمكن استعراض هذه الاصناف المنتجة في فلسطين على النحو التالي:
1- فحم أخشاب الحمضيات: ويعد فحم خشب الجريب فروت الأجود ويحتل المرتبة الأولى على باقي أنواع الفحم؛ فهو الأعلى سعرا لما يتمتع به من مواصفات؛ فهو يعطي فترة اشتعال لمدة طويلة وتنتج عنه حرارة قوية، ويستخدم عادة في شواء اللحوم في المطاعم، وللنرجيلة في المقاهي. وهناك فحم الليمون، وفحم البرتقال الشموطي والفلنسي وغيرها. وتحتل هذه الأنواع المرتبة الثانية، فتلي فحم الجريب فروت من حيث جودتها؛ إذ تمتاز بطول فترة الاشتعال، وقوة الحرارة، وتناسب أغراضًا متعددة.
2- فحم أخشاب شجر الأفوكادو والزيتون والصنوبر والسرو واللوز: ويسمى "الفحم المخلوط"، ويستخدم في الرحلات السياحية.
3- فحم أخشاب البلوط والخروب والسنديان: يستخدم لغلي القهوة العربية؛ حيث أن هذا النوع من الفحم يتمتع بفترة اشتعال طويلة وسعرات حرارية عالية؛ إلا أن أخشابه نادرة.
الفحم النباتي أرقام وإحصاءات:
ووفقًا لتقديرات وزارة الاقتصاد الوطني في محافظة جنين وجمعية "الفحم صديق البيئة" في يعبد؛ بلغ عدد ورش إنتاج الفحم في منطقة يعبد نحو 80 ورشة: منها 55-60 ورشة في بلدة يعبد والقرى المجاورة؛ و20 ورشة خلف الجدار العنصري، وبلغ إنتاجها السنوي ما يقرب من 15 ألف طن، ومتوسط عدد العمال لكل ورشة 5 عمال؛ أي إن ما يقرب من 400 عامل يعتمدون في معيشتهم في العمل في ورشات الفحم. وتنتج كل ورشة نحو 20 طنًا من الفحم شهرياً، وفي السنة بين 200-250 طن من الفحم.
وقدرت المصادر أن نسبة 26% من وزن الحطب والأخشاب يتحول إلى فحم بطريقة الحرق القديمة؛ ويؤمل في المستقبل القريب أن تصل ترتفع النسبة إلى 30-40 % من وزن الحطب والأخشاب، وذلك وفق طريقة مستحدثة وهي "الفحم صديق البيئة" (وهي طريقة مبتكرة حديثا تقوم على فكرة "الكربنة الهوائية". أو تحويل الحطب والأخشاب إلى فحم دون تلويث للبيئة)، ويجري العمل على إجراء التجارب والاختبارات اللازمة بمشاركة كافة الوزارات الفلسطينية المعنية لهذا الغرض؛ وهذا يعني أن صناعة الفحم ستشهد خلال الأعوام القادمة نقلة نوعية في حال نجاح هذه التجارب، من حيث كمية الانتاج ومحاصرة الملوثات البيئية التي تنتج عن هذه الصناعة.