انتفاضة الأقصى- أيلول 2000
اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتي سميت اصطلاحا "انتفاضة الأقصى" في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 2000 احتجاجا على اقتحام زعيم المعارضة اليميني المتطرف آنذاك ارئيل شارون لباحة المسجد الأقصى بحماية زهاء ألفين من الجنود وحرس الحدود الإسرائيليين وبموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود باراك. وكان ردّ الجنود المرابطين بنوايا تصعيد مبيّته في الحرم القدسي عنيفا ضد المحتجين على الزيارة، مما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين الفلسطينيين.
وكانت هذه الواقعة بمثابة الشرارة التي ألهبت الأراضي الفلسطينية بسلسلة من المواجهات الدامية امتدت لتشمل المدن والبلدات الفلسطينية وراء الخط الأخضر.بعد يومين من المواجهات، وفي الثلاثين من الشهر نفسه قتل الطفل الفلسطيني محمد جمال الدرة بعد أن حاصرته النيران الإسرائيلية بين يدي أبيه وأمام كاميرات التلفاز، فهزت صورته ضمائر البشر في كل أرجاء المعمورة وصار بذلك رمزا للانتفاضة الفلسطينية في كل مكان .في الأول من أكتوبر/ تشرين أول امتدت المواجهات إلى داخل الخط الأخضر، إذ نفذ الفلسطينيون هناك إضرابا شاملا وقاموا بالاحتجاج والاشتباك مع وحدات الشرطة الإسرائيلية التي اعتقلت 18 من المشاركين وقتلت عمر احمد جبارين (21 عاما) قرب أم الفحم، وأصابت سبعة متظاهرين بالرصاص الحي، وثلاثة وخمسين بالطلقات المطاطية.
في الثاني عشر من أكتوبر / تشرين أول من العام نفسه قالت إسرائيل إن اثنين من جنودها دخلا بطريق الخطأ إلى مدينة رام الله وقتلا بأيدي الفلسطينيين بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، وردت إسرائيل بشن هجمات صاروخية بالطائرات العمودية على بعض مقار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
في 15/10، وبحلول اليوم الثامن عشر للانتفاضة استشهد الشاب رائد حمودة متأثرا بجراحه، مسجلا الرقم 100 في سجل شهداء الانتفاضة.
في السابع عشر من تشرين أول/ أكتوبر اتفق ياسر عرفات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود باراك على وقف إطلاق النار وسحب القوات الإسرائيلية وذلك خلال قمة عقدت في منتجع شرم الشيخ المصري بإشراف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
ولكن استشهاد تسعة فلسطينيين وجرح أكثر من مائة آخرين في قتال عنيف نشب في الحادي والعشرين من أكتوبر/ تشرين أول جدّد المواجهات التي ازدادت وتيرتها كما ونوعا بانفجار سيارة مفخخة في أحد أسواق مدينة القدس في 2/11 أدى إلى مقتل عدة إسرائيليين في أول هجوم انتحاري داخل المدن الإسرائيلية.
في التاسع من نوفمبر/ تشرين ثاني أطلقت الطائرات العمودية الإسرائيلية صواريخها باتجاه سيارة في بيت لحم فقتلت ناشطا ميدانيا فلسطينيا هو حسين عبيات، وكان ذلك الاعتداء بمثابة الفاتحة في سلسلة عمليات الاغتيال الإسرائيلية في حق الناشطين الفلسطينيين البارزين.
بموازاة الأعمال الحربية على الأرض واستمرار المواجهات العنيفة بين القوات الإسرائيلية والمنتفضين الفلسطينيين استمرت المفاوضات بين الجانبين في مكان آخر. ففي الثالث والعشرين من ديسمبر /كانون أول أنهى المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون محادثات بالقرب من واشنطن دون التوصل إلى اتفاق، ولكن المحادثات اختتمت بمقترحات محددة لحل القضايا العالقة بين الجانبين قدمها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
وفي الحادي عشر من يناير / كانون ثان من العام 2001 استأنف فريقا التفاوض الفلسطيني والإسرائيلي محادثات السلام في اجتماع متأخر من الليل عند نقطة تفتيش بين إسرائيل وقطاع غزة، كما انتهت محادثات سلام بين الجانبين جرت في منتجع طابا المصري في السابع والعشرين من الشهر نفسه دون أي اتفاق.
في السادس من فبراير / شباط 2001 فاز أرييل شارون على أيهود باراك بفارق كبير في انتخابات مبكرة، وشكل، بصفته رئيسا للوزراء حكومة وحدة وطنية قوية بمشاركة حزب العمل.
في السابع من مايو /أيار قتل طفل فلسطيني عمره أربعة أشهر إثر قصف الدبابات الإسرائيلية أحياءا بمخيم للاجئين في رفح، ليفجر شاب فلسطيني نفسه بعد حوالي عشرة أيام انتقاما في مركز تجارى بمدينة ناتانيا الساحلية ويقتل خمسة إسرائيليين.
وجاء الردّ الإسرائيلي في اليوم نفسه (18/5)؛ إذ دخلت طائرات أل اف 16 المقاتلة معترك الانتفاضة لأول مرة وقصفت مقرات للشرطة الفلسطينية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة فقتلت عشرة فلسطينيين.
تفاقمت الأوضاع في كل أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلة على نحو لا يطاق وكان صدى القتل والتدمير والفظاعات يصل عبر وسائل الإعلام إلى كل أركان المعمورة فهبت المدن والبلدات العربية والإسلامية في مظاهرات احتجاج على ما يحدث وانتصارا للدم الفلسطيني المسفوك في دروب التوق إلى الحرية والاستقلال.
ولم يعد يحتمل المجتمع الدولي ما يجري. وتحت ضغط النداء المنتشر في كل مكان والمطالب بوقف دورة العنف المتفاقمة أخذت مراكز صنع القرار في العالم باقتراح المبادرات الهادفة إلى صنع التهدئة.
في هذا السياق وضعت لجنة دولية برئاسة السيناتور الأمريكي السابق جورج ميتشل تقريرا دعت فيه إلى إنهاء أعمال العنف وبدء فترة تهدئة واتخاذ إجراءات بناء للثقة واستئناف محادثات السلام، وقد قبل كلا الطرفين بنتائج التقرير، ولكن بتفسيرات متباينة لما ورد به.
ثم أجرى جورج تينيت رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سى آي إيه" مفاوضات مع مسؤولي الجانبين (الفلسطيني والإسرائيلي) للتوصل إلى إطار لوقف إطلاق النار، وعلى إثره انخفضت أعمال العنف غير أن تلك الهدنة لم تتماسك.
توالت المبادرات الدولية والإقليمية الهادفة إلى وقف هذه الدوامة التي توجها ارئيل شارون بالشروع بتشييد جدار الفصل العنصري وسلب آلاف الدونمات من أراضي المواطنين، واجتياح المدن الفلسطينية في ما سمي بعملية السور الواقي التي انتهت بإقامة مئات الحواجز العسكرية بين المدن والقرى حولت حياة الفلسطينيين إلى جحيم. فضلا عن الحصار الذي ضربته قوات الاحتلال على الفلسطينيين وزعيمهم الراحل ياسر عرفات الذي حوصر لسنوات في رقعة ضيقة من مقره في مدينة رام الله لينتهي به الحصار إلى الموت مسموما.
فرضت انتفاضة الأقصى نفسها في فلسطين و الكيان الإسرائيلي والمنطقة العربية فظهرت مواقف الأطراف متباينة إذ اعتبر الكيان الإسرائيلي أن استمرار الانتفاضة عناد فلسطيني لابد من القضاء عليه فلجأت إلى استخدام آلات الحرب مثل طائرات الاباتشي وال اف 16 والدبابات، ولم تقف عند رد أحجار الأطفال الفلسطينيين بل تجاوزتها إلى هدم البيوت وجرف الأراضي الزراعية وإغلاق المعابر، ومنع أكثر من 120 ألف عامل فلسطيني يعملون داخل الخط الأخضر من الوصول إلى أماكن عملهم.
واعتبر الفلسطينيون، سلطة وشعبا أن انتفاضتهم إنما قامت صدا للعدوان، وبرغم محاولات السلطة الفلسطينية مد يدها باستمرار للإسرائيليين بقصد استئناف مفاوضات عملية السلام إلا أن الإسرائيليين لم يكترثوا بتلك الأيادي الممتدة وكان آخرها في 23 سبتمبر/ أيلول 2001 عندما منع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون وزير خارجيته من الاجتماع إلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
أما الشارع العربي فقد تفاعل مع الانتفاضة لدرجة أن دولا لم تعرف المظاهرات منذ نشوئها مثل دول الخليج انطلقت على أراضيها مظاهرات تأييد لانتفاضة الأقصى، الأمر الذي أحرج الأنظمة العربية التي عقدت بعد ما يقرب من شهر على اندلاع الانتفاضة القمة العربية الطارئة في القاهرة وخرجت ببيان لم تصل فيه إلى مستوى آمال الشارع العربي، وإن كان فيه دعم وإعطاء صبغة شرعية أعمق لانتفاضة الأقصى. وبالمثل تحرك الشارع الإسلامي في مظاهرات حاشدة ودفع نحو تسمية مؤتمر الدوحة الإسلامي المنعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني بقمة الأقصى وخرج بيان القمة ناقما على الكيان الإسرائيلي ومنتقدا، لأول مرة الموقف الأميركي المتسامح مع القمع الإسرائيلي.
أحيت الانتفاضة جوانب منسية في المجتمع العربي فعادت من جديد الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية، ونشط مكتب المقاطعة العربية وعقد اجتماعا في العاصمة السورية دمشق وإن لم يسفر الاجتماع عن كثير يذكر. كما شهدت الحركة الفنية عودة الأغنية الوطنية وشعر المقاومة وامتلأت الفضائيات العربية بمواد غزيرة عن انتفاضة الأقصى واحتلت الانتفاضة المساحة الأكبر في أغلب الفضائيات العربية. حتى المجتمع الدولي خرج عن صمته وأدان الاعتداءات الإسرائيلية والاستخدام غير المتوازن للقوة العسكرية وصدرت العديد من القرارات والمقترحات الدولية التي تعتبر وثائق إدانة للجانب الإسرائيلي.
لم تتوقف الانتفاضة نظريا، أو انه لم تعلن أي جهة، رسمية أو غير رسمية عن نهايتها. وعلى الرغم من استئناف المفاوضات الجزئية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وانتظام الحياة العامة بشكل شبه روتيني؛ وعلى الرغم من انخفاض وتيرة المواجهات الحربية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وندرة العمليات التفجيرية في العمق الإسرائيلي إلا أن تداعيات الانتفاضة لا زالت ماثلة أمام أعيننا بدءا باستمرار الاعتقالات والحصار المفروض على القطاع ومئات الحواجز المقامة على مداخل المدن والبلدات والقرى وانتهاء باعتداءات المستوطنين على المواطنين، مرورا بتدمير المنازل ونهب الأراضي عبر سياسة منهجية ترمي إلى التضييق على السكان ومعاقبتهم على "جريرة" المطالبة بالحرية والاستقلال أسوة بكل بني البشر.