المقاومة الشعبية الفلسطينية

المقاومة الشعبية عنوان لحديث الأوساط الفلسطينية في أيامنا هذه.  ويعود ظهور هذا المفهوم إلى تجربة غاندي في المقاومة المدنية السلمية في الهند ضد التاج البريطاني، وتجربة المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا ضد نظام الفصل العنصري.

لم يكن طرح خيار المقاومة الشعبية ذو الطابع السلمي وليد اللحظة؛ إذ كان مطروحاً طيلة المرحلة الماضية؛ وكان أساسيًا في الانتفاضة الأولى عام1987؛ إلاّ أن الزخم الذي حظيت به المقاومة المسلحة إبان انتفاضة الأقصى حشر هذا الخيار في زاوية هامشية، وأضعف فاعلية الدعوة إليه، في ظل أشكال العدوان الإسرائيلي القمعية والعنيفة التي مورست ضد الفلسطينيين صباح مساء.

وبدأ خيار المقاومة الشعبية يستعيد زخمه وأهميته في الآونة الأخيرة؛ وذلك في ظل غياب المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وحالة التهدئة السائدة نسبياً في قطاع غزة؛ ما جعل المقاومة الشعبية القاسم المشترك والحل التوافقي المتاح، في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ القضية الفلسطينية.

 وفي ظل الجمود الذي تمر به عملية السلام، وتعثر المفاوضات؛ بسبب إصرار قيادة الاحتلال على مواصلة التوسع الاستيطاني؛ كان لزامًا على القيادة الفلسطينية اللجوء إلى خيارات أخرى شعبية ودبلوماسية مقبولة دوليًا لكسر هذا الجمود الذي رافقته سياسة الاحتلال الإسرائيلي القائمة على القتل والاغتيالات؛ للتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال.

كان الرئيس محمود عباس سبّاقاً في تبنيه لخيار المقاومة الشعبية السلمية؛ وأظهر دعمه وتأييده المطلق لهذا النهج في مواجهة سياسات الاحتلال؛ وذلك بهدف ممارسة الضغط على قيادة الاحتلال، من خلال إعادة تفعيل العنصر الشعبي، الذي يشكل عامل إزعاج حقيقي لسياسة ومخططات الاحتلال، الذي ألِف سياسة القتل والقمع المسلح؛  فوقف عاجزًا أمام هذا النوع من المقاومة.  ومن هنا جاء خيار توجه الرئيس محمود عباس إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي توّج بحصول فلسطين على صفة "دولة غير عضو" في الأمم المتحدة.

ويهدف إتّباع هذا النهج إلى محاولة تحريك المجتمع الدولي، بهدف إعادة العمل على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي، والتدخل لتليين المواقف الإسرائيلية المتشددة، وحشد التأييد الدولي لمناصرة القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين جميعًا، في كافة أماكن وجودهم.

على صعيد الاحتلال الإسرائيلي، فإنه لا يُخفي خشيته من اعتماد هذا الخيار؛ إذ إن قدرته على إسباغ الشرعية على قمع المقاومة السلمية، أضعف من قدرته على مواجهة المقاومة المسلحة؛ فذلك يعني نزع الصفة الأخلاقية والإنسانية عن المواجهة غير المتكافئة التي يستخدم فيها الاحتلال أدوات القمع والقتل ضد الفلسطينيين، وضد الحجر الفلسطيني المجرد.

وإذا حاولنا التمعن في مبرارات المقاومة الشعبية؛ نلاحظ عدة أسباب أهمها:

ضرورة مسايرة روح وواقع الثورات الشعبية العربية، التي قدمت أروع النماذج في كيفية تغيير الواقع عبر استنهاض البعد الجماهيري، بعيداً عن اللجوء إلى العنف المسلح وأدواته.

انشغال الشعوب العربية في ترتيب بيتها الداخلي، يجعل التعويل على دور عربي شعبي واسع لمساندة القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال، خارج السياق، ويفرض على القيادة الفلسطينية ضرورة التعاطي الذكيّ مع المعادلة الراهنة في الصراع مع الاحتلال عبر انتهاج أساليب غير عنفية.

ضرورة إبقاء روح المقاومة حية ومتقدة في نفوس الفلسطينيين.

ضرورة إحراج الاحتلال دولياً، والعمل على تشويش وإرباك مخططات التهويد والاستيطان؛ فكل يوم يمر دون فعل كفاحي فلسطيني يُنقص قدرة الفلسطينيين على مواجهة مخططات وإجراءات وجرائم الاحتلال، ويجعل مهمتهم في كبح التوغل الإسرائيلي على الأرض والمقدسات أكثر صعوبة.

الخروج من مأزق تناقض البرامج والأجندات الفصائلية، عبر التوافق على برنامج عملي لمواجهة الاحتلال يلقى تأييداً وتجاوبًا من الجميع، ويضمن قبول ومشاركة الفصائل الفلسطينية دون استثناء.

وقد حققت المقاومة الشعبية الآن، وفي ظل ما يجري، الكثير من الإنجازات على صعيد مقاومة الاحتلال والتصدي لجدار الفصل العنصري في نعلين، وبلعين، وقرية النبي صالح، والمعصرة، وكفر قدوم، وغيرها من القرى والأماكن الفلسطينية؛ فسطرت هذه المقاومة الكثير من الإبداعات، وفرضت نفسها على عناوين الصحافة العالمية، وعززت الرأي العام العالمي ضد شراسة الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخطورته على تحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي خطوة جديدة ومبدعة، ابتكرت المقاومة الشعبية طرقًا جديدة، وأساليب عديدة في مواجهة الاحتلال ونهجه القائم على العنف والقتل؛ فقد أظهرت إقامة قرية “باب الشمس” التي لم يطل عمرها عن 48 ساعة، براعات وابتكارات المقاومة الشعبية السلمية المشرقة ضد الاحتلال الإسرائيلي لمنع تنفيذ مخطط احتلالي يقضي ببناء 4 ألاف وحدة استيطانية استعمارية في منطقة ” E 1 ” هدفه عزل مدينة القدس عن محيطها الفلسطيني وفصل شمال الضفة عن جنوبها ولإفشال حل الدولتين على أساس حدود 1967م _ أسطورة غير مسبوقة، ورمزية جديدة وحقيقية في المقاومة الشعبية السلمية في مواجهة الاحتلال؛ فقد تسابقت وكالات الأنباء العربية والعالمية في عناوينها لإبراز القرية كأول تجمع سكاني مهدد بالتدمير والمصادرة بعد ساعات على إقامتها. 

 وقد أظهرت هذه الخطوة شجاعة المقاومين الذين اختاروا المكان المناسب لإقامتها؛ فأقاموها على مشارف أراضي القدس المحتلة المهددة بالمصادرة؛ ما شكل ضوءًا يظهر حجم المعاناة التي يلقاها شعبنا الفلسطيني جراء النهج الاحتلالي الإسرائيلي القائم على سرقة الأرض وابتلاعها.  قد دقت هذه المحاولة ناقوسًا نبه العديد من الضمائر في العالم، وهدد الدعاية الإسرائيلية التي تدّعي التحضر والديمقراطية؛ فقد أراد هؤلاء المقاومين المبدعين المدججين بسلاح الإرادة والصبر، تحت البرد القارس، والذي لم يسبق له مثيل في العشر سنوات الأخيرة، أن يقولوا لدولة الاحتلال: إننا نستطيع الرد عليكم بأسلوبنا الحضاري، ولا نخاف تهديدكم وبطش قوتكم العسكرية؛ وأن "باب الشمس" ولدت لتعزز الحق الفلسطيني في إقامة دولته وعاصمته القدس.

 لقد أزعجت قرية باب الشمس دولة الاحتلال كثيرًا؛ ولهذا أرادت إسرائيل أن تقضي على هذا النموذج؛ لكن سرعان ما ابصرت النور قرية جديدة أخرى وهي “باب الكرامة” وهي تقع شمال غربي القدس، قرب قرية بيت إكسا؛ وهي أيضًا أراضٍ مهددة بالمصادرة لصالح بناء جدار الفصل العنصري.

بهذا قدمت المقاومة الشعبية السلمية، ومن خلال رمزية وبراعة إقامة قرية "باب الشمس" دليلًا قويًا للمواطن الفلسطيني يظهر أن الاستمرار في مقاومة الاحتلال بطريقة سلمية وبأقل الخسائر، يشكل إزعاجًا وتحديًا كبيرًا لقواته وللمستوطنين الغاصبين؛ ما يدفع الشباب الفلسطيني إلى كل تلة محيطة لإقامة باب شمس جديدة عليها.

ومن أساليب المقاومة الشعبية المقاطعة الاقتصادية للاحتلال، التي تعدّ خطوة تدق مساميرها في نعش الاحتلال دون عنف؛ فالشعب الذي يريد مقاومة عدوه مقاومة مستمرة وجادة يبدأ أولًا بالمقاطعة الاقتصادية التي تلحق ضررًا باقتصاد الاحتلال الغاصب، أو تحول دون إفادة العدو اقتصاديًا من أموال ومقدرات ضحيته؛ وتشجع المنتج المحلي الذي يعتبر أحد أركان استمرار المقاومة؛ ما يحتم ضرورة نشر الوعي الوطني الذي يرسخ المسؤولية الفردية والجماعية لدى أبنا هذا الشعب المنكوب؛ لتغليب القيم الوطنية على القيم الاستهلاكية، والتي تتوارى معها مبررات شراء المنتج الصهيوني.

تجلت المقاومة الشعبية الفلسطينية في أروع صورها عندما هبت الجماهير الفلسطينية، وفي مقدمتها أبناء مدينة القدس، لمواجهة قرار سلطات الاحتلال الإسرائيلي إغلاق المسجد الأقصى المبارك في الرابع عشر من تموز 2017م وللمطالبة بإزالة البوابات الإلكترونية والممرات الحديدية والجسور والكاميرات الذكية، وغيرها من الإجراءات الإسرائيلية التي أعقبت عملية الإغلاق؛ إذ سارع المواطنون إلى تنظيم المسيرات والاعتصامات والمرابطة وإقامة الصلوات على عتبات المسجد الأقصى؛ وكان باب الأسباط العنوان الأبرز لهذه للمقاومة الشعبية السلمية على مدار 14 يومًا. 

وقد صمد المواطنون الفلسطينيون صمودًا أسطوريًا بتلاحم عز نظيره بين كل الأشقاء دون الالتفات للاختلافات الفصائلية والفكرية رغم لجوء جنود الاحتلال إلى العنف والعنجهية في محاولتهم فض اعتصام المواطنين ومرابطتهم في محيط المسجد الأقصى، باستخدام الرصاص الحي والمعدني المغلف بالمطاط وقنابل الصوت والغاز والهراوات والمياه العادمة والاعتداء على الطواقم الطبية والصحفية؛ ما أدى إلى ارتقاء عدة شهداء وإصابة المئات بجروح انتهت بتراجع السلطات الإسرائيلية عن كافة إجراءاتها؛ ليدخل المواطنين المسجد الأقصى منتصرين بإرادتهم وصمودهم، وبدعم القيادة الفلسطينية، وعلى رأسها الرئيس محمود عباس باتخاذ سلسلة من القرارات والاجراءات العاجلة، وفي مقدمتها دعم صمود المقدسيين، والمباشرة بحملة دبلوماسية واسعة النطاق، وقطع التنسيق الامني بكافة أشكاله مع الجانب الإسرائيلي.

ولعل حالة الالتفاف الشعبي حول الموقف الرافض لأي تغير قامت به سلطات الاحتلال بعد الرابع عشر من تموز 2017 تجاه المسجد الأقصى وتناغم الموقف الرسمي الفلسطيني مع الموقف الشعبي والمرجعيات الدينية كان له الأثر الواضح في تحقيق هذا الانتصار.

مدرسة التحدي الأساسية المختطلة في جب الذيب التابعة لمديرية تربية بيت لحم شكلت عنوانًا آخر من عناوين المقاومة الشعبية لمواجهة الاستيطان وسياسة التطهير العرقي التي يمارسها الاحتلال بحق الفلسطينيين عندما أقدمت سلطات الاحتلال على هدم هذه المدرسة في أيلول 2017؛ فسارع المواطنون، وبمشاركة رسمية، إلى إعادة بنائها في ظل تواجد قوات الاحتلال التي اعتدت على المشاركين في عملية البناء؛ ولكن إصرار الأهالي والجهات الرسمية الفلسطينية (المحافظة ووزارة التربية والتعليم وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان) نجح في إتمام بناء المدرسة، خلال ساعات الليل؛ ليبدأ الطلاب عامهم المدرسي في الصباح على مقاعد مدرستهم رغم أنف الاحتلال.