يتعرض عدد لا يحصى من الأطفال في مختلف أنحاء العالم يوميًا إلى مخاطر تعيق نموهم وتقف عائقًا أمام تنمية قدراتهم؛ ومن بين هذه المعيقات تشغيل الأطفال في أعمال شاقة لا تناسب قدراتهم الجسدية، تحت ظروف صعبة؛ ما يؤثر سلبًا على مستقبلهم.
ويشير مفهوم "عمالة الأطفال" إلى كل عمل يضر بصحة الطفل أو بنموه أو رفاهيته؛ إذا لم يكن هذا العمل من الأعمال النافعة التي تتناسب مع عمر الطفل، ويساعد على تطوره الجسمي والعقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي، دون أن يؤثر على دراسته أو راحته أو متعته؛ وهنا يجب التمييز بين العمل النافع والعمل الضار.
وقد عدت منظمة الأمم المتحدة عمل الأطفال استغلاليًا، إذا اشتمل على: أيام عمل كاملة، أو ساعات عمل طويلة، أو أعمال مجهدة، أو إذا كان هذا العمل في الشوارع في ظروف صعبـة، أو إذا كان أجره غير كاف، أو مسؤولياته تفوق الحد الطبيعي، أو إذا كان عملًا يؤثر على التعليم، أو إذا كان عملًا يحط من كرامة الأطفال مثل الاسترقاق، وكافة الأعمال التي تحول دون تطور الأطفال الاجتماعي والنفسي.
وفي محاولة لتعريف عمالة الأطفال، يشار عادة إلى مفهومين؛ أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، وهما:
أ – المفهوم السلبي لعمالة الأطفال: يقصد بهذا المفهوم، ذلك العمل الذي يضع أعباء ثقيلة على الطفل؛ أي العمل الذي يهدد سلامة الطفل وصحته ورفاهيته؛ بحيث يكون أساس العمل هو الاستفادة من ضعف الطفل، وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه؛ والاعتماد عليه كعمالة رخيصة بديلة عن عمالة الكبار، أو بعبارة أخرى: "العمل الذي يحول دون تعليم الطفل وتدريبه".
ب – المفهوم الإيجابي لعمالة الأطفال: ويتضمن هذا التعريف كافة الأعمال التطوعية أو المأجورة التي يقوم بها الطفل، والتي تناسب عمره وقدراته، والتي يكون لها آثار ايجابية تنعكس على نموه العقلي والجسمي والذهني؛ إذ يتعلم الطفل من خلال العمل المسؤولية والتعاون والتسامح.
وبهذا، تكون عمالة الأطفال غير المرغوبة، والتي يعمل العالم بأسره على مواجهتها والقضاء عليها، هي العمالة التي يكون لها أثر سلبي على الطفل في حاضره أو مستقبله، بأي شكل من الأشكال.
العوامل التي تحدد مدى انتشار عمالة الأطفال:
أ- العوامل الاقتصادية:
يعد الفقر أهم العوامل التي تؤدي إلى انتشار عمالة الأطفال؛ فعمل الأطفال هو سبب للفقر ونتيجة له كذلك؛ إذ إن عمالة الأطفال تعتبر معمل تفريخ يخرج أجيالًا واقعة في مستنقع الجهل، لا تستطيع النهوض بأمتها ولا المساهمة في تطورها؛ لا في ميدان الاقتصاد ولا في غيره من الميادين؛ ما يجعل المجتمع بأسره يقع بين فكي كماشة الفقر والجهل. ولا يخفى على أحد أن الأزمات الاقتصادية والمالية التي تمر بها البلاد تدفع بالأطفال إلى العمل من أجل الحفاظ على كيان الأسرة وإشباع الحاجات الأساسية لأسرهم؛ ما يجر البلاد نحو هذه الهاوية.
ب - العوامل التعليمية:
مما لا شك فيه أن ما تواجهه النظم التعليمية في معظم الدول النامية وفي فلسطين خاصة - يحرم العديد من الأطفال من التعليم، ويزيد من معدلات انخراطهم في سوق العمل، وأهم هذه العوامل:
- عدم مناسبة المناهج التعليمية لأعمار الأطفال ونموهم العقلي، وافتقارها إلى أساليب التعليم الحديث، وحشوها بمعلومات هائلة على حساب المهارات والمعلومات الأساسية التي ينبغي التركيز عليها؛ ما يؤدي إلى التسرب من التعليم وارتفاع نسبة الأمية؛ لذى سعت وزارة التربية والتعليم في دولة فلسطين عام 2017 إلى إجراء مراجعة شاملة للمناهج التعليمية لجميع المراحل وإعادة صياغتها من جديد، على أمل الخروج من هذه المعضلة.
- ارتفاع نفقات التعليم الجامعي الذي يشكل عبئاً كبيراً على الأسر محدودة الدخل؛ ما يؤدي إلى عزوف الآباء عن تعليم أبنائهم، ودفعهم إلى العمل لمساعدتهم في تحمل أعباء الحياة
ج- العوامل الاجتماعية: هناك عوامل اجتماعية تؤثر تأثيراً مباشراً في عمالة الأطفال، من أهمها ما يأتي:
- التفكك الأسري الذي يعد عاملاً مساعداً في بروز عمالة الأطفال، وينتج التفكك عن وفاة أحد الوالدين أو كليها؛ وزواج أحد الوالدين مع عدم القدرة على الإنفاق، والطلاق الذي يضع عبء تعليم الأطفال على عاتق الأم بحكم قوانين الحضانة؛ ما يدفع بالطفل إلى سوق العمل لإعالة نفسه وأسرته.
- زيادة عدد أفراد الأسرة وعدم تنظيم النسل؛ ما يثقل كاهل رب الأسرة ويؤدي إلى عجزه عن توفير متطلبات الحياة لأسرته.
الآثار المترتبة على عمالة الأطفال:
- 1-حرمان الطفل من الحصول على قدر مناسب من التعليم.
- 2-حرمان الطفل من التمتع بطفولته.
- 3-التعرض لظروف عمل صعبة، قد لا تناسب حالة الطفل الجسمية والعقلية.
- 4-التعرض لأمراض العمل وإصاباته وأخطاره؛ نتيجة ظروف العمل التي تعرضه للضوضاء، والحرارة الشديدة، والمواد الكيماوية، والمخاطر الميكانيكية والأبخرة والأتربة؛ ما يؤدي إلى خطر الإصابة بأمراض عديدة.
- 5-تفشى بعض العادات والظواهر السيئة بين الصغار، مثل التدخين وتعاطي المخدرات.
- 6-انتهاك حقوق الطفل العامل على أيدي أرباب العمل، واستغلاله بالعمل ساعات طويلة.
- 7-التأثير على طباع الطفل وجعله عدوانيًا؛ يميل إلى العنف ضد المجتمع؛ نتيجة الإحساس بالقهر الاجتماعي.
- 8-قلب ميزان القيم عند الطفل؛ إذ يصبح المال أغلى من بعض ما تعارف عليه المجتمع من القيم النبيلة.
- 9-تعزيز حالة الفقر المجتمعي؛ نتيجة القضاء على فرصة إيجاد قيادات متعلمة قادرة على التخطيط والتنمية لرقي المجتمع.
- 10-إعاقة خطط التنمية، من خلال توجيه الإنفاق الحكومي لمواجهة آثار عمالة الأطفال.
المكافحة الدولية لعمالة الأطفال:
- العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العهد في عام 1966.
وقد تصدى هذا العهد لعمالة الأطفال من خلال النص في المادة العاشرة منه على إلزام الدول الموقعة على حماية الصغار من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، ومن تشغيلهم في أعمال تؤذى أخلاقهم أو تضر صحتهم أو حياتهم. كما ألزمت الدول الأطراف في العهد المذكور على تحديد حد أدنى لسن العمل المأجور، بحيث يمنع دونه تشغيل الأطفال.
نص البند الثالث من المادة 10 من العهد الدولي: "وجوب اتخاذ تدابير حماية ومساعدة خاصة لصالح جميع الأطفال والمراهقين، دون أي تمييز بسبب النسب أو غيره من الظروف. ومن الواجب حماية الأطفال والمراهقين من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي. كما يجب جعل القانون يعاقب على استخدامهم في أي عمل من شأنه إفساد أخلاقهم، أو الإضرار بصحتهم، أو تهديد حياتهم بالخطر، أو إلحاق الأذى بنموهم الطبيعي. وعلى الدول أيضًا أن تفرض حدودًا دنيا للسن، يحظر القانون استخدام الصغار الذين لم يبلغوها في عمل مأجور، ويعاقب عليه."
- الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل لعام 1989:
وهي اتفاقية اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989، لتضع مجموعة من الحقوق المختلفة (الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية) للأطفال، وذلك إلى جانب المادة 32 منها، والتي تعترف بحق الأطفال في الحماية من الاستغلال الاقتصادي، ومن الأعمال التي تهدد صحتهم، أو تؤثر على نموهم؛ فضلاً عن إلزام الدول الأعضاء بوضع حد أدنى لسن العمل.
المادة 32
1- تعترف الدول الطراف بحق الطفل في حمايته من الاستغلال الإقتصادي، ومن أداء أي عمل يرجح أن يكون خطيرًا، أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو أن يكون ضارًا بصحة الطفل أو بنموه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي.
2- تتخذ الدول الاطراف التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتربوية التي تكفل تنفيذ هذه المادة، ولهذا الغرض، ومع مراعاة أحكام الصكوك الدولية الاخرى ذات الصلة، تقوم الدول الأطراف بوجه خاص بما يأتي:
أ- تحديد عمر أدنى أو أعمار دنيا للالتحاق بعمل.
ب- وضع نظام مناسب لساعات العمل وظروفه.
ج- فرض عقوبات أو جزاءات أخرى مناسبة؛ لضمان إنفاذ هذه المادة بفعالية.
واقع عمالة الأطفال في فلسطين
تحظر المادة 14 من قانون الطفل الفلسطيني، والمادة 93 من قانون العمل الفلسطيني، تشغيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة؛ ويسمح بعمل الأطفال 15-17 سنة بشروط معينة منها: أن لا تكون هذه الأعمال خطرة، وأن تكون ساعات العمل قصيرة، وتوفير الكشف الطبي للأطفال كل 6 أشهر. وقد تم تعديل قانون الطفل الفلسطيني، وإدراج عمل الطفل لدى الأقارب من الدرجة الأولى ضمن عمالة الأطفال.
إذ ينص قانون الطفل الفلسطيني المعدل، المادة (14) على الآتي:
- 1-مراعاة المعايير والضوابط الواردة في قانون العمل واللوائح الصادرة بموجبه.
- 2-يحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم سن الخامسة عشرة.
- 3-يحظر تشغيل الأطفال أو استخدامهم أو تكليفهم بأي أعمال أو مهن خطرة أو غيرها من الأعمال والمهن التي تحددها وزارة العمل ومن شأنها إعاقة تعليمهم أو إلحاق الضرر بسلامتهم أو بصحتهم البدنية أو النفسية؛ بما في ذلك العمل لدى الأقارب من الدرجة الأولى.
- 4-يعاقب بغرامة لا تقل عن ألف دينار أردني، ولا تزيد عن ألفي دينار أردني، كل من يخالف أحكام هذه المادة؛ وتتعدد العقوبة بتعدد الأطفال الذين وقعت في شأنهم المخالفة وتضاعف في حالة التكرار. وفضلاً عن ذلك يجب على وزير العمل في حال التكرار وبتنسيب من وزير الشؤون الاجتماعية إغلاق المنشأة كلياً أو جزئياً.
وفي المقابل تنص المادة 37 من قانون الطفل على أن: لكل طفل الحق في التعليم حتى المرحلة الثانوية (18 سنة)؛ وأنه على الحكومة أن تتخذ التدابير اللازمة لمنع تسرب الأطفال من المدارس؛ إلا أن الكثير من الأطفال العاملين، وخصوصاً ممن يكون تحصيلهم الأكاديمي متدن، يميلون للتسرب من المدارس للعمل، وخصوصاً إذا كان العائد مرتفعًا.
تصعب الإحاطة بمدى تفشي عمالة الأطفال بفلسطين، والخروج بإحصائيات دقيقة عن أعداد الأطفال الذين ينخرطون في أعمال تدخل ضمن الأعمال الواجب منع الطفل من خوض غمارها؛ وذلك لعدة أسباب، أهمها ما يأتي:
- عدم استقرار عمالة الأطفال؛ ما يجعل حصرها أمرًا صعبًا؛ نظرًا لانتقال الأطفال من عمل إلى آخر بسهولة.
- انخراط أغلبية الأطفال في أعمال اقتصادية غير منتظمة؛ ما يجعل الوصول إليهم أمرًا صعبًا.
ولكن يمكن الاستدلال على حجم عمالة الأطفال في فلسطين من خلال إحصاءات "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني" الصادرة في شباط 2023 (النتائج الاساسية لمسح القوى العاملة، للعام 2022)؛ وجاء فيها: "حوالي 2.5% نسبة الأطفال العاملين في الفئة العمرية (10-17) سنة خلال 2022؛ وذلك بواقع 3.8% في الضفة الغربية؛ و0.9% في قطاع غزة.