منذ أن داست أقدام الاحتلال الإسرائيلي أرض فلسطين، انطلقت ملحمة قاسية من القهر الوجودي والمعاناة اللامتناهية، فُرضت على الشعب الفلسطيني بأكمله، كقدرٍ مكتوب بالحديد والنار، لم يكن الاحتلال مجرد حدث سياسي عابر، بل كان مشروعاً استعمارياً ممنهجاً، استهدف الإنسان الفلسطيني في جذوره، وتاريخه، وذاكرته الجمعية، وسعى بكل السبل إلى اجتثاث هويته ومحو معالم وجوده. إذ انهمرت على الفلسطينيين وفي سياقنا هذا الطفل الفلسطيني سلسلة لا تنتهي من أدوات البطش والإرهاب الرسمي، سُخرت فيها آلة القمع الإسرائيلية لترتكب كل صنوف الانتهاك والإبادة الرمزية والمادية: من الاغتيالات والقتل المتعمد، إلى الجرح والإعاقة، والاعتقال بلا محاكمة، والتشريد القسري، والإبعاد، والحصار، وسلب الأراضي، واستنبات المستوطنات كالطفيليات على جسد الجغرافيا، وامتداد الجدران الخرسانية كندوبٍ دامية على وجه الأرض، ونشر الحواجز والبوابات والاقتحامات الليلية، حتى أصبح الفلسطيني محاطاً بسياجٍ من الخوف، وسجيناً في وطنه، مطارداً في كل تفاصيل حياته اليومية.
وفي قلب هذا الجحيم المستعر، برز الطفل الفلسطيني كأشد الضحايا هشاشةً، وأكثرهم تعرضاً للخذلان الإنساني. فبينما ينص القانون الدولي، وفي مقدمته "اتفاقية حقوق الطفل"، على حق الأطفال في الحياة، والحرية، والتعليم، والرعاية، والأمان النفسي، والترفيه، والنمو السليم… لم يُمنح الطفل الفلسطيني إلا نصيبه من الرعب، والحرمان، والدم، والدمع، لقد وُلد الطفل الفلسطيني تحت قصف الطائرات، وتربى في ظلال القتل، والعنف، والسفك، والترويع، وتعلّم نطق حروفه الأولى في حضرة الحواجز العسكرية، فكان شاهداً صغيراً على جريمة كبرى تُرتكب بحقه وبحق شعبه كل يوم وما تزال مستمرة.
ويمكن استعراض أبرز الجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الأطفال الفلسطينيين، والتي تندرج في إطار "جرائم ضد الإنسانية" و"جرائم الحرب" على النحو التالي:
الأطفال الشهداء:
لقد شكلت عمليات استهداف الأطفال الفلسطينيين وقتلهم سياسة ثابتة اتبعتها القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، واعتُمدت على أعلى المستويات؛ ما يفسر ارتفاع عدد الشهداء الأطفال؛ حيث وثَّقت المؤسسات الحقوقية للدفاع عن الأطفال في فلسطين استشهاد 2270 طفلاً على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2000م؛ أي مع بدء انتفاضة الأقصى؛ وحتى الاول من أيار/حزيران 2023؛ منهم 546 طفلًا فلسطينيًا خلال عام 2014م؛ معظمهم ارتقوا خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بما في ذلك جريمة إحراق وقتل الطفل المقدسي الشهيد محمد أبو خضير، بعد أن اختطفه المستوطنون؛ وجريمة إحراق عائلة دوابشة في داخل منزلهم قرية دوما جنوب مدينة نابلس، واستشهاد الطفل محمد هيثم التميمي (عامان ونصف) من قرية النبي صالح، شمال غرب رام الله، بعد ان استهدفه قناص من جنود الاحتلال أثناء تواجده ووالده بباحة منزلهما، واصابة والده برصاصة بالكتف في حزيران 2023.
وتعج الذاكرة بآلاف الأطفال الذين قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي، مثل: قصف طائرة إسرائيلية دون طيار ثلاثة أطفال (خالد بسام محمود سعيد (13عاما)، وعبد الحميد محمد عبد العزيز أبو ظاهر(13عاما)، ومحمد إبراهيم عبد الله السطري (13عاما)، بصاروخ، شمال شرق مدينة خان يونس، ما أدى إلى استشهادهم). وهذا يعد جريمة حرب، يجب أن تعاقب عليها إسرائيل، والرضيعة إيمان حجو في قصف دبابات الاحتلال لخان يونس عشوائيا سنة 2001؛ ومحمد الدرة الذي استهدفه جنود الاحتلال وهو يحتمي بحضن والده في شارع صلاح الدين بالقطاع سنة 2000. وفي عدوان قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في أيار 2021 "والذي استمر 11 يوماً" كان أطفال فلسطين في رأس قائمة بنك الأهداف الإسرائيلي، حيث أرتقى نحو 72 طفلاً جراء قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية منازلهم بكل وحشية، لدرجة أن بعض العائلات أبيدت بكاملها رجالاً نساء وأطفال كعائلة أبو حطب، وأبو عوف، واشكنتنا، وعائلة القولق.
اما الجريمة الأكثر بشاعة المرتكبة بحق الأطفال الفلسطينيين هي كانت إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في تشرين الأول من العام 2023، إذ واجه الأطفال خلالها كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث شكلوا مع النساء أكثر من 60% من إجمالي الضحايا حتى شهر نيسان 2025، حيث أسفر العدوان عن استشهاد 50,021 فلسطينياً، بينهم 17,954 طفلاً، منهم 274 رضيعاً ولدوا واستشهدوا تحت القصف، و876 طفلاً دون عام واحد، و17 طفلاً ماتوا جراء البرد في خيام النازحين، و52 طفلاً قضوا بسبب التجويع وسوء التغذية الممنهج. أما في الضفة الغربية، فقد استشهد 923 مواطناً، بينهم 188 طفلاً حتى تاريخ 4/4/2025.
وكشفت التقديرات عن أن 39,384 طفلاً في قطاع غزة فقدوا أحد والديهم أو كليهما بعد 534 يوماً من العدوان الإسرائيلي، بينهم حوالي 17,000 طفل حرموا من كلا الوالدين، ليجدوا أنفسهم في مواجهة قاسية مع الحياة دون سند أو رعاية. يعيش هؤلاء الأطفال في ظروف مأساوية، حيث اضطر الكثير منهم للجوء إلى خيام ممزقة أو منازل مهدمة، في ظل غياب شبه تام للرعاية الاجتماعية والدعم النفسي. إلا أن المعاناة لا تقتصر على فقدان الأسرة والمأوى، بل تمتد إلى أزمات نفسية واجتماعية حادة؛ إذ يعانون من اضطرابات نفسية عميقة، مثل الاكتئاب والعزلة والخوف المزمن، في غياب الأمان والتوجيه السليم، إضافة إلى ضعف التعلم والتطور الاجتماعي، ليجدوا أنفسهم فريسة لعمالة الأطفال، أو الاستغلال في بيئة قاسية لا ترحم.
ولعل قصص الأطفال في قطاع غزة ابان العدوان تفوق الخيال من شدة الوحشية التي حلت بهؤلاء الأطفال، فالمئات منهم ماتوا من الجوع والبرد، وآخرين استشهدوا لأنهم لم يستطيعوا تحمل حجم الألم اثناء اجراءهم لعمليات جراحية وبتر لأطرافهم من دون بنج إثر اصابتهم واستهدافهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي. ولعل قصة الطفلة هند التي استشهدت في 29 يناير 2024، كانت دليلاً صارخاً على مدى بشاعة الجرائم المرتكبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي بحق الأطفال الفلسطينيين، حيث استُهدفت سيارة تقلّ الطفلة هند رجب، البالغة من العمر ست سنوات، مع أفراد من عائلتها في حيّ تل الهوى بمدينة غزة، بنيران دبابة إسرائيلية، نجت هند في البداية، وحاولت هند الاستغاثة بفريق الهلال الأحمر الفلسطيني لثلاث ساعات متواصلة ولكن دون جدوى، فلفظت أنفاسها الأخيرة ولكن بقيت كلماتها الأخيرة محفوظة في ذاكرة التاريخ، عندما قالت "أمانة تعالوا خذوني، الدنيا صارت ليل، أنا بخاف". إلا أن رصاصات الاحتلال كانت أسرع وأشد فتكاً بالطفلة هند التي تم العثور عليها وقد استشهدت وأظهرت التحقيقات بأن 355 رصاصة تم اطلاقها تجاه الطفلة هند وعائلتها مما أدى في نهاية المطاف الى استشهادهم جميعاً.
الأطفال الجرحى:
استهداف أطفال فلسطينيين بالقتل والجرح على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين، خلف قائمة طويلة من الجرحى في صفوفهم. وتشير معطيات مؤسسة الجريح الفلسطيني إلى أن عدد جرحى الانتفاضة الأولى خلال الفترة (1987- 1993) يزيد عن 70 ألف جريح، معظمهم من الأطفال؛ يعاني نحو 40% منهم من إعاقات دائمة، 65% يعانون من شلل دماغي أو نصفي أو علوي أو شلل في أحد الأطراف، بما في ذلك بتر أو قطع أطراف مهمة؛ فيما بلغ عدد جرحى انتفاضة الأقصى (من 29 أيلول 2000م وحتى نهاية كانون الأول 2007م) حسب "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني" 31,873 جريحاً؛ أما عدد الجرحى منذ عام 2008 وحتى نيسان 2022 بما فيهم الجرحى الأطفال حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة ومؤسسات ومراكز حقوق الإنسان. أما في المحافظات الشمالية فأن شهر كانون الأول 2017 كان الأعلى من حيث أعداد الجرحى، إذ أصيب وجرح نحو (5400) مواطن على خلفية الاحتجاجات على قرار الرئيس الأمريكي "ترامب" اعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال؛ يليه شهر تموز 2017؛ حيث أصيب خلاله وجرح نحو (1400) مواطن نتيجة الاحتجاجات على قيام سلطات الاحتلال بوضع بوابات إلكترونية على مداخل المسجد الأقصى.
اما عدد الجرحى الأكثر في تاريخ الاحصائيات بحق الأطفال الفلسطينيين كان إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في تشرين الأول من العام 2023، إذ تم تسجيل أكثر من 113,274 جريحاً، 69% منهم أطفال ونساء، بينما لا يزال أكثر من 11,200 مواطناً مفقوداً، 70% منهم من الأطفال والنساء. و660 جريحاً في الضفة الغربية من الأطفال منذ بدء العدوان الإسرائيلي.
وفي أحدث التقارير الصادرة في عام 2025 كشف تقرير صادر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) عن واقع كارثي عاشه أطفال قطاع غزة ذوو الإعاقة نتيجة العدوان الإسرائيلي، حيث أصيب 15 طفلاً يومياً بإعاقات دائمة بسبب استخدام أسلحة متفجرة محظورة دولياً، ليصل إجمالي الإصابات إلى 7,065 طفلاً، بينهم مئات فقدوا أطرافهم أو بصرهم أو سمعهم. كما سجل 4,700 حالة بتر، 18% منها (ما يعادل 846 حالات) بين الأطفال، ما زاد من تعقيد المأساة. هؤلاء الأطفال يواجهون كارثة مزدوجة بسبب الإعاقات الجسدية والنفسية، إضافة إلى انهيار النظام الصحي نتيجة تدمير المستشفيات، ومنع دخول الإمدادات الطبية والأطراف الصناعية. كما أدى انتشار سوء التغذية إلى تفاقم التشوهات العظمية وإعاقة التئام الجروح. إلى جانب ذلك، يحاصر خطرُ الموت نحو 7,700 طفل من حديثي الولادة بسبب نقص الرعاية الطبية، حيث عملت المستشفيات المتبقية بقدرة محدودة جداً، ما يعرّض حياة الأطفال للخطر. ومع نقص الحاضنات وأجهزة التنفس والأدوية الأساسية، تدهورت الظروف الصحية، ما يزيد من احتمالات وفاتهم. فيما شهد قطاع غزة تفشي فيروس شلل الأطفال للمرة الأولى منذ 25 عاماً في تموز 2024، بسبب انخفاض نسبة التطعيم من 99% إلى 86% نتيجة الأوضاع الصحية الصعبة.
ولعل كل هذه الأرقام تشير بوضوح إلى استمرار إسرائيل في استهداف الطفولة الفلسطينية بدمٍ بارد، في تحدٍ سافر لكل الأعراف الإنسانية. فسجلّها حافل بانتهاكات جسيمة تجسّد أبشع صور الإرهاب، في ظل تنكّر تام للقوانين الدولية، والأخلاق، والضمير العالمي.
اعتقال الأطفال:
اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967م حسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين في 20 تشرين الثاني 2022 نحو 50 ألف من الأطفال الفلسطينيين؛ منهم نحو 20 ألفا تعرضوا للاعتقال منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر2000، ومن بينهم (9) آلاف طفل تعرضوا للاعتقال منذ هبة القدس في الأول من أكتوبر 2015، وهؤلاء يُشكلّون 20% من إجمالي الاعتقالات خلال الفترة المستعرضة، نسبة كبيرة منهم كانوا من القدس المحتلة، فيما اعتقلت سلطات الاحتلال نحو (770) طفلاً منذ مطلع العام 2022، علماً بأن هناك نحو (160) طفلاً لا يزالوا رهن الاعتقال في سجون الاحتلال حتى تاريخ 17 نيسان 2023.
وقد كانت نسبة الاعتقال الأكثر والأعنف بحق الأطفال هي إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية عام 2023، إذ شهدت قضية الأطفال الأسرى تحولات هائلة منذ بدء حرب الإبادة، وذلك في ضوء تصاعد حملات الاعتقال بحقّهم. وقد كشف تقرير صادر عن مؤسسات حقوق الأسرى عن تصاعد غير مسبوق في اعتقالات الاحتلال الإسرائيلي للأطفال الفلسطينيين، حيث وثّق خلال العام 2024، وحده، اعتقال ما لا يقل عن 700 طفل، ليرتفع إجمالي الأطفال المعتقلين منذ اندلاع الحرب إلى أكثر من 1,055 طفلاً. حرم هؤلاء الأطفال من طفولتهم وحقهم في التعليم، وتعرضوا لانتهاكات جسيمة أثناء الاعتقال، شملت اقتحام منازلهم ليلاً، والاعتداء عليهم بالضرب أمام ذويهم، وإطلاق النار عليهم، إضافة إلى تقييد أيديهم وأرجلهم وتعصيب أعينهم وحرمانهم من المساعدة القانونية، في انتهاك واضح للقانون الدولي، واتفاقية حقوق الطفل. وحتى بداية آذار 2025، لا يزال الاحتلال يحتجز أكثر من 350 طفلاً أسيراً. إضافة إلى أطفال من غزة لم تتمكن المؤسسات من معرفة أعدادهم في ضوء استمرار جريمة الإخفاء القسري، والتحديات التي تواجه المؤسسات في متابعة قضية معتقلي غزة، ومنهم قضية الأطفال المعتقلين.
وهؤلاء الأطفال يتعرضون لما يتعرض له الكبار من قسوة التعذيب والمحاكمات الجائرة، والمعاملة غير الإنسانية، التي تنتهك حقوقهم الأساسية، وتهدد مستقبلهم بالضياع، بما يخالف قواعد القانون الدولي و"اتفاقية الطفل"؛ حيث إن سلطات الاحتلال تحرم الأطفال الأسرى الفلسطينيين حق عدم التعرض للاعتقال العشوائي، والحق في معرفة سبب الاعتقال، والحق في الحصول على محامٍ، وحق الأسرة في معرفة سبب ومكان اعتقال الطفل، والحق في المثول أمام قاضٍ، والحق في الاعتراض على التهمة والطعن بها، والحق في الاتصال بالعالم الخارجي، والحق في معاملة إنسانية تحفظ كرامة الطفل المعتقل.
ولا يراعي الاحتلال حداثة سن الأطفال أثناء تقديمهم للمحاكمة؛ ولا تشكل لهم محاكم خاصة؛ بالإضافة إلى أن الاحتلال يحدد سن الطفل بما دون ال16 عاماً؛ وذلك وفق الجهاز القضائي الإسرائيلي الذي يستند في استصدار الأحكام ضد الأسرى الأطفال إلى لأمر العسكري رقم "132"، والذي حدد فيه سن الطفولة، حتى سن السادسة عشرة؛ ما يشكل مخالفة صريحة لنص المادة رقم "1" من "اتفاقية الطفل" التي عرفت الطفل بأنه (كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة). لم يتوقف الأمر على الأوامر العسكرية بل أقرت الكنيست يوم 25/11/2015 مشروع قانون يسمح بمحاكمة وسجن من هو أقل من 14 عامًا من الأطفال الفلسطينيين الذين يخضعون لقانون الأحداث الإسرائيلي المدني كأطفال القدس، وينص القانون على أن المحكمة تستطيع أن تحاكم أطفالا ممن بلغوا سن 12 عامًا؛ لكن عقوبة السجن الفعلي تبدأ بعد بلوغهم سن 14 عامًا؛ بحيث يصبح جيل المسؤولية الجنائية هو 12 عامًا. ويمكن اعتقال طفل والتحقيق معه، وبعد إدانته يرسل إلى إصلاحية مغلقة، ويبقى فيها إلى أن يبلغ 14 عامًا.
من جهة أخرى، فإن سلطات الاحتلال العسكري الإسرائيلي ضربت بعرض الحائط حقوق الأطفال المحرومين من حريتهم، وتعاملت معهم "كمشروع مخربين"؛ فأذاقتهم أصناف العذاب والمعاملة القاسية والمهينة، التي تتضمن الضرب والشبح، والحرمان من النوم ومن الطعام، والتهديد والشتائم، والتحرش الجنسي، والحرمان من الزيارة؛ واستخدمت معهم أبشع الوسائل النفسية والبدنية لانتزاع الاعترافات، والضغط عليهم لتجنيدهم للعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية.
ووفقاً لتقرير صادر عن هيئة شؤون الاسرى والمحررين عام 2025 فان هنالك عدد من الجرائم التي يتم ارتكابها بحق الأطفال في المعتقلات، لعل أبرزها تعرضهم للضرب المبرح، والتهديدات بمختلف مستوياتها، حيث تشير الإحصاءات والشهادات الموثّقة للمعتقلين الأطفال؛ إلى أنّ غالبية الأطفال الذين تم اعتقالهم تعرضوا لشكل أو أكثر من أشكال التّعذيب الجسدي والنّفسيّ، عبر جملة من الأدوات والأساليب الممنهجة المنافية للقوانين، والأعراف الدولية، والاتفاقيات الخاصة بحقوق الطّفل. هذا إلى جانب عمليات الإعدام الميداني التي رافقت حملات الاعتقال، وكان من بينها إطلاق الرصاص بشكل مباشر، ومتعمد على الأطفال، عدا عن توثيق لعدد من الحالات خلالها استخدم الاحتلال الأطفال رهائن للضغط على أحد أفراد العائلة لتسليم نفسه، إضافة إلى عمليات الاستدعاء من قبل مخابرات الاحتلال، حيث يجبر الاحتلال ذوي الأطفال على جلبهم من أجل إجراء مقابلات خاصّة معهم، وفي ظل التصاعد الكبير لعمليات التحقيق الميداني، فإن الأطفال لم يكونوا بمعزل عن هذه السياسة، فقد تعرض العشرات من الأطفال لعمليات تحقيق ميدانية. واحتلت جريمة التّجويع التي تُمارس بحق الأسرى ومنهم الأطفال، السطر الأول في شهاداتهم بعد الحرب، فالجوع يخيم على أقسام الأطفال بشكل –غير مسبوق- حتى أنّ العديد منهم اضطر للصوم لأيام جراء ذلك، وما تسميه إدارة السّجون بالوجبات، هي فعليا مجرد لقيمات، ففي الوقت الذي عمل الأسرى فيه وعلى مدار عقود طويلة من ترسيخ قواعد معينة داخل أقسام الأسرى، من خلال وجود مشرفين عليهم من الأسرى البالغين إلا أنّ ذلك فعليا لم يعد قائما واستفردت إدارة السّجون بالأطفال دون وجود أي رقابة على ما يجري معهم، وفعليا الرعاية التي حاول الأسرى فرضها بالتضحية، انقضت عليها إدارة السّجون كما كافة ظروف الحياة الاعتقالية التي كانت قائمة قبل الحرب.
هذا كله جعل الأطفال الفلسطينيون الأسرى يعانوا بشكل كبير في السجون والمعتقلات الإسرائيلية من ظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية، تفتقر إلى مراعاة الحد الأدنى من المعايير الدولية لحقوق الأطفال وحقوق الأسرى؛ فهم يعانون نقص الطعام ورداءته، وانعدام النظافة، وانتشار الحشرات، والاكتظاظ، والاحتجاز في غرف لا يتوفر فيها تهوية وإنارة مناسبتين، والإهمال الطبي وانعدام الرعاية الصحية، ونقص الملابس، عدم توفر وسائل اللعب والترفيه والتسلية، والانقطاع عن العالم الخارجي، والحرمان من زيارة الأهالي، وعدم توفر مرشدين وأخصائيين نفسيين، والاحتجاز مع البالغين، والاحتجاز مع أطفال جنائيين إسرائيليين، والإساءة اللفظية، والضرب والعزل والتحرش الجنسي، والعقوبات الجماعية، وتفشي الأمراض، وهذا ما ترصده تقارير العديد من المؤسسات المحلية والدولية؛ وفي مقدمتها "الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال"/ فرع فلسطين، و"اليونيسف".
حرمان الاحتلال للأطفال من التعليم، والتسبب لهم بتشوهات نفسية عميقة
على مدار سنيّ الصراع الممتدة، حاول الاحتلال الإسرائيلي بشتى الطرق من حرمان الأطفال من حقهم في التعليم ومحاولة تجهيلهم وتسطيح وعيهم بشتى الطرق وكيّ عُمقهم التعليمي، ولعل حالة قطاع التعليم في غزة كانت ضحية رئيسية للعدوان الإسرائيلي الذي بدأ عام 2023، حيث دمرت قوات الاحتلال وفقاً لأحدث التقارير الصادرة حتى أوائل العام 2025 حوالي 111 مدرسة حكومية بشكل كامل، و241 مدرسة حكومية تعرضت لأضرار بالغة، إضافة إلى تعرض 89 مدرسة تابعة للأونروا إلى قصف وتخريب، ولذلك حرم 700 ألف طالب/ة من حقهم الأساسي في التعليم للعام الدراسي 2024/2025، كما حُرم حوالي 39 ألف طالب/ة من حقهم في تقديم امتحان شهادة الثانوية العامة للعام الدراسي 2023/2024. لم يقتصر الدمار على المباني، بل طال الأرواح: فقد ارتقى 12,441 طالباً/ة و519 معلماً/ة شهداء تحت القصف، بينما أصيب 19,819 طالباً/ة و2,703 معلماً/ة بجروحٍ متفاوتة الخطورة. ولا توجد حتى الآن معلومات دقيقة حول عدد طلبة المدارس والكوادر التعليمية الذين تم اعتقالهم من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال العمليات البرية في مختلف مناطق قطاع غزة.
فقد تسبب العدوان في انقطاع الدراسة النظامية لمدة عامين دراسيين متتاليين، حيث توقفت الدراسة لمدة 300 يوم دراسي حتى تاريخ 28/01/2025. وعلى الرغم من اعتماد وزارة التربية والتعليم لمسارات تعليمية بديلة مثل التعليم الإلكتروني المتزامن وغير المتزامن والمدارس المؤقتة، تشير بيانات وزارة التربية والتعليم العالي إلى أن أكثر من 298 ألف طالب وطالبة في قطاع غزة ملتحقون بالمدارس الافتراضية. إلا أن العديد من هؤلاء الطلاب لم يتمكنوا من تلقي تعليمهم بشكل فعّال طوال هذه الفترة، بسبب عدم وجود مناطق آمنة، إضافة إلى انقطاع الكهرباء والإنترنت، وقلة توفر الأجهزة اللازمة، ما يُنذر بفجوة تعليمية تهدد مستقبل جيل بأكمله. في الضفة الغربية، لم تكن الأوضاع أفضل، حيث سجل استشهاد 90 طالباً/ة وإصابة 555 آخرين، بالإضافة إلى اعتقال 301 طالباً/ة و163 كادراً تعليمياً، في سياسة ممنهجة لتفكيك البنية التعليمية
أفاد تقرير حديث صادر عن مجموعة التعليم بتدهور حاد في إمكانية حصول مئات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، على التعليم خلال العام 2024، بسبب معيقات متشابكة تشمل القيود الإسرائيلية على الحركة، وهدم المنازل، وعنف المستوطنين، والعمليات العسكرية المكثفة. وسجلت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية 2,274 حادثة عنف طالت المنظومة التعليمية، منها 109 هجمات استهدفت مدارس بالتخريب أو الاعتداء المباشر، حيث اقتحم مستوطنون مسلحون فصولاً دراسية واحتجزوا طلاباً ومعلمين، أو تنكيلاً بالتلاميذ خلال تنقلهم إلى المدارس. وأشار التقرير إلى تعرّض أكثر من نصف الطلبة في المناطق الأكثر تضرراً للمضايقات أو التأخير القسري أثناء ذهابهم إلى مدارسهم، ما أدّى إلى حرمان نحو 806,000 طالب/ة من الوصول الآمن إلى التعليم. ومنذ انطلاق العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة في شمال الضفة الغربية، بتاريخ 21 كانون الثاني 2025، تعطلت العملية التعليمية في نحو 100 مدرسة.
وفي سياق التشوهات النفسية الحاصلة لدى الأطفال الفلسطينيين، فقد حذرت الجمعيات والمؤسسات التي تُعنى في حقوق الأطفال من خطورة التبعات النفسية المستقبلية على الأطفال في قطاع غزة، نتيجة العدوان الإسرائيلي عليها، إذ تنعكس الحرب على الأطفال بآثار وصدمات نفسية جسيمة على صحتهم النفسية والإدراكية والسلوكية والاجتماعية، سواء أكان ذلك في الوقت الحالي أم على المديين المتوسط أو البعيد. وأشارت التقارير إلى أن تلك الصدمات والآثار النفسية على الأطفال تتمثل في عدد من الأعراض أهمها: التوتر والقلق الشديدان، والخوف من الموت أو الإصابة أو فقدان أفراد العائلة، ومشاكل في النوم والكوابيس والأحلام المزعجة والمخيفة، بسبب الذكريات والمشاهد المؤلمة التي يتعرض لها الأطفال، والتبول اللاإرادي، والحزن الشديد، وحالات الاكتئاب، والغضب الشديد، وسرعة الانفعال، وهذا ناتج عن استخدام الاحتلال للقوة المفرطة، ونتاج القصف العشوائي والإعدامات وما ينتج عنها من مشاهد تبقى عالقة في الأذهان. وحذرت تلك التقارير من تبعات وآثار الصدمات النفسية على الأطفال في المستقبل، في ظل تدمير المستشفيات والأقسام الخاصة بالصحة النفسية فيها، وتدمير المراكز الطبية والمؤسسات المتخصصة في مجال الصحة النفسية في قطاع غزة، إضافة إلى استهداف الجامعات والمختصين في العلاج النفسي والاجتماعي، وتوقف الجامعات عن التعليم، واستشهاد عدد من المختصين من الأساتذة والمعالجين في مجال الصحة النفسية، ما يفاقم تلك المشكلة أكثر فأكثر، ويجعل كل المصابين بالصدمات النفسية من الأطفال دون علاج، بسبب عدم توفر المؤسسات المختصة وعدم توفر الكادر الطبي أيضاً، إلى جانب عدم توفر الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة، بسبب العدوان الإسرائيلي.
ومما لا شك فيه، يُعتبر المساس بالأطفال وتعريضهم للخطر وحرمانهم من حقوقهم من الأمور التي تتنافى كلياً مع كل القوانين والأعراف الدولية، وهي جرائم حرب مكتملة الأركان، وخروقات وانتهاكات صارخة للقانون الدولي الإنساني بِرُمته ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، والبروتوكولين الأول والثاني لاتفاقيات جنيف (1977)، واتفاقية لاهاي (1954)، وإعلان حقوق الطفل عام (1959)، واتفاقية حقوق الطفل عام (1989)
فالقانون الدولي الإنساني والمعاهدات المناسبة المتعلقة بحقوق الطفل تمنح حماية خاصة للأطفال الذين يواجهون جملة من المخاطر في ظل وجود النزاعات المسلحة، ويحظى هؤلاء بالحماية العامة التي يتمتع بها المدنيون غير المقاتلين، إلا أن احتياجاتهم الخاصة للمساعدة الطبية والغذاء والمأوى والملبس معترف بها في اتفاقيات جنيف وبروتوكوليهما لعام 1977.ويجب التعرف على الأطفال الذين تيتّموا أو انفصلوا عن عائلاتهم وحمايتهم بالإضافة إلى توفير المرافق الخاصة التي تضمن سلامتهم البدنية. كما يجب تلبية احتياجاتهم في مجال التعليم. ومن الضروري في الوقت ذاته، اتخاذ كل التدابير الملائمة لتسهيل لمّ شملهم مع عائلاتهم في ظل حالات النزوح. فيجب معاملة الأطفال المحتجزين بسبب نزاعات مسلحة معاملة إنسانية، وينبغي عدم تفرقتهم عن أفراد أسرتهم. حيث يهدف القانون الدولي الإنساني بِرُمته إلى الحد من أثر الحرب على الأطفال. ومن المؤسف أن تكون طبيعة نزاعات اليوم نفسها تعني ضرورة بذل المزيد من الجهود الحثيثة في الميدان من أجل إنقاذ الأطفال من براثن الحرب ومساعدتهم على بدء حياة جديدة بعد انتهاء النزاع.
وبشكل فظ وعلني تضرب إسرائيل بكل القرارات الدولية بعرض الحائط، وتخرق القانون الدولي دون أن يرف لها رمش، وتنتهك القرارات والمواثيق الدولية والأممية بكل عنجهية وغطرسة وفجاجة. ولعل ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي تجاه الأطفال الفلسطينيين من قتل وقصف وحرمان من كل مقومات الحياة والترويع والتنكيل بهم بصورة فظيعة، هي أفعال تعتبر بمثابة حقائق دامغة ووصمة عار تُعبر عن مدى ديمومة إسرائيل في التنكر لكل القوانين والاحكام والقرارات الدولية بكل عنجهية احتلالية ممكنة وغطرسة، وهذه حقيقة ماثلة لمن يريد أن يرى.