دأب الإنسان منذ أقدم العصور على تسجيل وقائع حياته اليومية على جدران الكهوف على هيئة رموز ورسوم تعبر عن ما يجول في نفسه من مخاوف وآمال وقد استمر هذا التعبير المنغرس في طبيعة الإنسان البسيطة على مر العصور، ولم يتوقف باختراع الكتابة أو بالتقدم التكنولوجي المتنامي، بل ركب موجة التطور في الأساليب والوسائل، في سبيل بث الأفكار والمعتقدات والمشاعر، كما هدف في أحيان كثيرة إلى تزيين المنازل والمؤسسات ودور العبادة. وتعد الرسوم الجدارية من أهم الوثائق التاريخية التي يعتمد عليها في سبيل الحصول على معلومات قيمة عن تاريخ الأمم وأساليب حياتها وثقافاتها، وعن معتقداتها والأديان التي تدين بها، وعباداتها.
وقد شكلت الجداريات في أيامنا هذه إحدى أهم وسائل الاتصال الجماهيري، إذ تعرض في أماكن عامة لا تلتزم بمنصات المعارض والمسارح التي يرتادها المهتمون، بل تعرض رسالتها على الجدران لكافة الناس كوسيلة فعالة لتحقيق مآرب سياسية، أو اجتماعية، أو غيرها، وأصبحت وسيلة تستخدم لتزيين المدن والساحات والحوائط في الأماكن العامة والخاصة، وفي العديد من الأحيان وسيلة دعائية ناجحة.
تزخر الكهوف في مختلف أصقاع العالم بتصاوير جدارية رسمتها يد الإنسان من أقدم العصور، باستخدام الحجارة الملونة، فما زال العديد من صور الحيوانات ظاهر للزائرين على أسقف وجدران الكهوف شمال أسبانيا وجنوب فرنسا، وعلى الواجهات الخارجية لمعابد المصريين. وأدى ظهور المسيحية إلى إعطاء الفن شخصية جديدة، ومنحه روحاً وهدفاً جديدين، يناسبان جدية الديانة وقدسيتها، فاستخدمت الألوان البراقة والأنماط الهندسية، كما استخدمت الفسيفساء في تزيين الأسطح الداخلية لقباب الكنائس البيزنطية. وقد امتد هذا التأثير ليشمل كافة مناطق السيطرة البيزنطية.
وفي القرن الحادي عشر، تطور هذا الفن ليواكب تطور الفن الرومانسي في الرسومات الحائطية في الكنائس، مستفيدًا من سعة المساحات، ما أدى إلى ظهور أشكال تتميز بالفخامة والروعة.
وفي العصر الحديث يعتبر فن الجرافيتي أو الجداريات بنوعيها المكتوب والمرسوم، من أهم وسائل الاتصال الجماهيري، حيث أنها غالبا ما تكون في أماكن عامة لجأ لجدرانها العديد من الفنانين للتعبير برسوماتهم عن آرائهم السياسية والاجتماعية وغيرها. وقد نشأ فن الجرافيتي الحديث على أيدي بعض الأفارقة الذين يعيشون في نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانوا يستخدمونه بالإضافة إلى موسيقى الراب للتعبير عن معاناتهم من الفقر والعنصرية، وما إلى ذلك من مشاكلهم الخاصة، وكانوا يرسمون على الجدران والقطارات القديمة.
وقد تعددت الأساليب الفنية لفن الجرافيتي الحديث، فاستخدمت فيه الألوان الزيتية والكريليك أو البخاخات العادية، وبخاخات الهواء، والأصباغ المختلفة، وبلاط الموزاييك (الفسيفساء)، كما تعددت استخداماته وأهدافه، فأصبح أداة للتعبير عن الآراء، وتعدى ذلك فدخل في التصميم الداخلي للمنازل والمكاتب والقاعات، والساحات العامة. كما إن تطور أساليب الاتصال واستخدام الانترنت الذي زاد من انتشار هذا الفن، إذ انتشرت المواقع التي تهتم به، وازداد الوعي العالمي بأهميته.
خصائص فن الجرافيتي:
الصدق: أي أنه يوثق شهادات إنسانية، تؤرخ أحداث المرحلة بأمانة لا تزيف الحقائق، لأنها لقطات تولد بوجود الجماهير التي تعايش الحدث، وتصحح المحتوى والكذب في لحظة الولادة. - الحيوية والتجدد: فما أن يمسح عن الجدران حتى تصبح هذه الجدران صفحات تغري الفنانين بالرسم عليها من جديد.
العفوية: أي أنه لا يقتصر على طبقة دون أخرى، فيمكن لأي كان أن يدون أحاسيسه على الجدران كتابة أو رسما، مهما كانت قدراته الفنية.
فن ناقد: ينتقد كافة الظواهر التي تعيشها المرحلة.
سهولة عرض الفكرة: إذ لا يتقيد الفنان بقواعد، ولا تحكمه ضوابط الفنون الأخرى.
يتداخل مع حياة الناس اليومية: أي أنه يتفاعل مع محيطه، فيسجل كل ما يمر به الشارع من أزمات وصعاب على الجدران العامة والخاصة.
أنه ملك للجميع، يعرضونه بلا معارض، ويشاهدونه بلا تذاكر.
فن الجرافتي في فلسطين:
ظهر فن الجرافتي الحديث في فلسطين بشكل واضح مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة). تعد فلسطين من أوائل الدول العربية التي ظهر فيها فن الجرافيتي الحديث، حيث لجأت التنظيمات الفلسطينية إلى استخدام هذا الفن كأحد أساليب مقاومة المحتل، حيث تنازعت مختلف التنظيمات السيطرة على هذا المنبر من خلال رسم الرسوم وكتابة الشعارات الوطنية، التي غطت جدران المنازل والمحال التجارية في الأزقة والحارات والميادين العامة ودعت الفلسطينيين للمشاركة في الفعاليات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، بهدف رفع المعنويات، ببث روح الصمود والتحدي لمواجهة بطش المحتل، عبر تمجيد الشهداء والأسرى والجرحى، ونشر الوعي الوطني، فكانت سلاحًا فعالاً بيد فصائل الثورة الفلسطينية، ما دفع قوات الاحتلال إلى مطاردة كتبة وراسمي الشعارات الجدارية وسجنهم ومحاكمتهم، وتغريم أصحاب الجدران وإجبارهم على مسح هذه الشعارات بالقوة.
وبالتالي يمكن اعتبار الفن الجرافتي في هذه الفترة فناً حمل بعداً مقاوماً أربك المحتل، ووسيلة إعلامية أثبتت فعاليتها على المستوى المحلي، وسلطت أنظار العديد من المهتمين إلى مواطن الصراع، ووجهت أنظار وسائل الإعلام الإقليمية والدولية إلى الحقيقة. ومن هنا يمكن القول أن فن الجرافيتي في فلسطين أدى دوره بأن نزل عن المسرح التقليدي لباقي الفنون، وخرج من صلب المعاناة التي يعيشها الشارع المقهور من ظلم الاحتلال، ليصافح آمال الجماهير فيلتحم معها في دعوة مفتوحة، لا تقتصر على طبقة دون أخرى، وليستحيل إلى فن يسمو إلى درجات غيره من الفنون، دون أن يسيء إليها، لسمو رسالته، وعمق ما يحتشد فيه من مشاعر، وليضع كفه على آلام الشعب وهمومه، وما يحتشد في خاطره من صراع وأحلام وتطلعات، يدق أبواب كل أفراد الشعب، صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، المثقف منهم والبسيط. يجازف الفنان بنفسه فيرسمه ليلا ليظهر إلى الجماهير نهارًا، ليوصل رسالة ناصعة تنبض بحقيقة المشاعر إلى الإعلام العالمي، دون أن تنال منه قبضة الاحتلال، فأصبحت الجدران منبرًا جمع الهواة والمحترفين، ليعبروا عما يجول في مكنونهم في فضاء مفتوح، حتى غدت جدران المباني خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى غابة تزخر بفن واع يعبر عن المرحلة التي تعيشها الجماهير الفلسطينية. ومن أبرز الشعارات والرسوم التي ظهرت على الجداران في هذه المرحلة: خريطة فلسطين، والعلم الفلسطيني، وقبضة شعار النصر، ورسم الكلاشنكوف، وحنظلة، وسفينة العودة، وقضبان السجان. ومن الشعارات فلسطين حرة عربية"، و "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"، و "المجد والخلود للشهداء الأبرار"، و "ثورة حتى النصر "، و "الحرية لأسرى الحرية"، و "الموت للعملاء"، وشعارات أخرى تدعو لتصعيد المقاومة في وجه الاحتلال والحشد والتحريض والتعبئة وتحديد أيام الإضراب، فلم يبق مكان لم يرسم أو يكتب فيه شعار.
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى في عام 2000 اتسع نطاق الرسم الجداري، لا سيما عندما أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على بناء الجدار الفاصل، فتحولت جدرانه إلى مساحات واسعة لرسامي الجداريات الفلسطينيين وحتى الدوليين ومنهم فنان الجرافيتي الاحتجاجي المعروف روبرت بانكسي البريطاني الجنسية والتي عبرت عن التمسك بالثوابت الفلسطينية ورفضها للاحتلال والاستيطان وبناء الجدار الفاصل، وتظهر الوجه القبيح للمحتل الغاصب، الذي استباح كل الأعراف الدولية، دون أن يعي للأخلاق معنى، فتصدى له في بيئة مفتوحة، ليحفز ذوي البصائر للتفاعل النفسي والمنطقي، الذي يخاطب القلوب والأذهان. وقد تنوعت أساليب التعبير الغرافيتي الفلسطيني مستغلة تنوع الألوان ودلالاتها، فاستخدمت الألوان الثورية الجريئة التي تظهر للعالم أجمع وحشية احتلال سادي يوجه ترسانته لصدور عارية إلا من حقوق مغتصبة.
المعيقات أمام فناني الجرافيتي في فلسطين:
بالرغم من الانتشار الواسع لفن الجرافتي في فلسطين، الذي لا تكاد مدينة أو قرية أو مخيم تخلو من حضوره على جدرانها، إلا أن فناني الجرافيتي في فلسطين ما زالوا يواجهون مشكلة تتمثل في رفض الكثيرين وعدم سماحهم برسم وتطبيق فن الجرافيتي على جدرانهم وهذه المشكلة لا يواجهها فنانو الجرافيتي في فلسطين فحسب، بل في شتى أرجاء العالم.