يحيي شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات، الذكرى الستون لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، انطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي وحدت الفلسطينيين حول الهوية والهدف، وارتقت بهم من حالة الشتات والتشتت إلى مستويات الكفاح من أجل تحقيق الأماني بالتحرر من نير الاحتلال.
تعود جذور نشأة حركة "فتح" إلى أواخر العام 1957، حيث تم عقد لقاء ضم ستة أشخاص هم: ياسر عرفات، وخليل الوزير، وعادل عبد الكريم، وعبد الله الدنان، ويوسف عميرة، وتوفيق شديد؛ واعتبر هذا اللقاء بمثابة اللقاء التأسيسي الأول لحركة "فتح "، وصاغ المؤسسون ما سمي "هيكل البناء الثوري" و"بيان حركتنا"، وتبع ذلك انضمام أعضاء جدد منذ العام 1959 كان أبرزهم: صلاح خلف، وخالد الحسن، وعبد الفتاح حمود، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار، وعبد الفتاح إسماعيل، ومحمود عباس.
في العام 1959 ظهرت "فتح" من خلال منبرها الإعلامي الأول مجلة "فلسطيننا – نداء الحياة"، التي صدرت في بيروت منذ شهر تشرين ثاني/ نوفمبر، والتي أدارها توفيق خوري، وقامت مجلة "فلسطيننا" بمهمة التعريف بالحركة ونشر فكرها ما بين 1959 – 1964 واستقطبت من خلالها العديد من المجموعات التنظيمية الثورية الأخرى، فانضم للحركة خلال تلك الفترة كل من: ماجد أبو شرار، وأحمد قريع، وفاروق قدومي، وصخر حبش، ويحيى عاشور، وزكريا عبد الحميد، وسميح أبو كويك، وعباس زكي، وغيرهم الكثير إلى صفوف هذه الحركة الناشئة؛ ثم بدأت بالتوسع سراً، فلم يكن هناك شروط لاكتساب العضوية في التنظيم سوى الاستعداد للتوجه بالعمل نحو فلسطين، والنقاء الأمني والأخلاقي، وعدم التبعية لأي نظام عربي؛ فكان لها امتدادات تنظيمية في الوطن والشتات.
جاءت النشأة إثر نكبة عام 1948م وما تلاها من أحداث ولدت شعوراً بالمرارة من عدم إقدام الزعامات الفلسطينية التقليدية على التحرك، وانشغال الدول العربية بمشاكلها القطرية.
ففي الفاتح من كانون الثاني-يناير عام 1965م كانت البداية وكانت الطلقة الأولى، حيث تسللت المجموعة الفدائية الأولى لحركة "فتح" إلى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وفجرت نفق عيلبون الذي يتم من خلاله سحب مياه نهر الأردن لإيصالها إلى صحراء النقب، لبناء المستوطنات من أجل إسكان اليهود المهاجرين فيها، وعادت المجموعة الفدائية إلى قواعدها بعد أن قدمت شهيدها الأول أحمد موسى أثناء العملية لتعمّد بالدم باكورة مقارعتها للاحتلال، وكان البلاغ العسكري رقم واحد:
"اتكالاً منا على الله، وإيماناً منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيماناً منا بموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج، وإيماناً منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم، لذلك تحركت أجنحة من قواتنا الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964م، 1/1/1965م وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملةً ضمن الأرض المحتلة، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمةً. وإننا لنحذر العدو من القيام بأية إجراءات ضد المدنيين الآمنين العرب أينما كانوا؛ لأن قواتنا سترد على الاعتداء باعتداءات مماثلة، وستعتبر هذه الإجراءات من جرائم الحرب. كما وأننا نحذر جميع الدول من التدخل لصالح العدو، وبأي شكل كان، لأن قواتنا سترد على هذا العمل بتعريض مصالح هذه الدول للدمار أينما كانت. عاشت وحدة شعبنا وعاش نضاله لاستعادة كرامته ووطنه'. القيادة العامة لقوات العاصفة 1/1/1965م.
وكان البلاغ الأول إيذانا بانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة لتكون "فتح" أول من تبنّى الكفاح المسلح، باعتباره السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، في ظل عالم كان لا يفهم لغة غير لغة القوة.
وقد شكل انطلاق حركة "فتح" بالكفاح المسلح، في يناير 1965، ولادة حقيقية لحركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة بعد النكبة، لتعيد معه حركة "فتح" الاعتبار لهوية الشعب الفلسطيني وشخصيته الوطنية، وتلفت كل الأنظار إلى القضية الفلسطينية وعدالتها ومكانتها بين حركات التحرر في أرجاء العالم.
لم يرق ذلك لبعض الأنظمة العربية التي كانت تخشى على نفسها من عدوان إسرائيلي؛ في ظل إفلاسها وانشغالها بالمهاترات السياسية في ذلك الوقت؛ فشنت حملة إعلامية واسعة النطاق على حركة "فتح"، وشرعت بحملة اعتقالات طالت معظم قيادات الحركة، وعلى رأسهم قائدها ومؤسسها الراحل الشهيد ياسر عرفات. ولم تمنع كل إجراءات القمع والملاحقة والتضييق هذه الحركة من مواصلة مسيرها.
ولم يكن الكفاح المسلح مجرد شعار فضفاض ترفعه الثورة الفلسطينية؛ بل كان جملة من المضامين والتوجهات المثمرة. بحيث تواصلت العمليات الفدائية في عمق الكيان المحتل لتقض مضاجعه، وراحت 'فتح' تدير جملة من المسارات الهادفة إلى بلورة الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني عبر منظومة متكاملة من الأنشطة السياسية والإعلامية والنقابية والثقافية التي حولت واقع الشتات البائس الى كينونة وطنية ترقى، في بعض تجلياتها إلى مصاف الكيانات السياسية الراقية في العالم.
في حزيران- يونيو عام 1967 هزمت إسرائيل الجيوش العربية الرسمية، واحتلت ما تبقى من الأرض الفلسطينية وأجزاء واسعة من الأراضي العربية المتاخمة؛ فسارعت حركة 'فتح' في أعقاب الهزيمة إلى إعادة تشكيل الخلايا والمجموعات السرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ونفذت أكثر من 130 عملية فدائية خلال الشهر الأول بعد الاحتلال؛ وكانت عملياتها البطولية تشكل نموذجا نضاليا أثقل كاحل الاحتلال.
لم تكن معركة الكرامة في 21 آذار- مارس 1968 انعطافة حاسمة في المسار الكفاحي لحركة 'فتح' وجناحها الضارب 'قوات العاصفة'، بل علامة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني بشكل عام؛ اذ تمكنت ثلة من الفدائيين تناهز الـ 300 مقاتل، وبمشاركة وحدات من الجيش الأردني من صد عدوان عسكري إسرائيلي مدجج بأحدث أنواع العتاد؛ فتراجع الجيش الإسرائيلي الغازي بعد معركة شرسة مني خلالها بخسائر فادحة.
بالنصر الذي أحرزته حركة "فتح" في معركة الكرامة، تعزز الرصيد الكفاحي والسياسي لنهج الكفاح المسلح وتبخرت ريبة البعض في جدوى هذا المسار؛ فتصاعد الالتفاف الجماهيري العربي والفلسطيني إلى حدوده القصوى. ووجد هذا الالتفاف ترجمة له في انضمام آلاف المتطوعين في صفوف الحركة ليشكلوا ذخرا لمواصلة العمل المسلح في الضفة الغربية وقطاع غزة وعبر الحدود بشكل مكثف، وليعززوا مكانة الحركة وباقي فصائل العمل الوطني، ليس في أوساط الفلسطينيين فحسب، بل بين الجماهير العربية ولدى أحرار العالم أجمع.
بعد معركة الكرامة، زار ياسر عرفات مصر - وكانت قيادة 'فتح' قد انتخبته متحدثا رسميا باسم الحركة-وعندما سأله الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) عن صمود المقاتلين في معركة الكرامة وصد العدوان الإسرائيلي، أجابه أبو عمار قائلاً: 'نطعم لحومنا لجنازير الدبابات ولا نركع'؛ ما دفع الزعيم جمال عبد الناصر إلى إطلاق عبارته الشهيرة بصدد الثورة الفلسطينية: انها 'وجدت لتبقى، وهي أنبل ظاهرة عرفها التاريخ'.
قادت الانتصارات العسكرية التي أحرزتها فصائل الكفاح الفلسطيني المسلح وتعاظُم التأييد الجماهيري لنهجها المقاوم- إلى تحقيق نصر سياسي تجلى في سيطرتها على دفة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في4 شباط-فبراير 1969م؛ لتحررها من قيود الاحتواء والهيمنة العربية. وباتت المنظمة تشكل بالقيادة الجديدة وطناً معنوياً واحداً حراً مستقلًا للفلسطينيين جميعاً، وممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني؛ واتخذت 'فتح' دورها حاضنة للوحدة الوطنية الفلسطينية، وضامنة للسلم الأهلي، وصمام الأمان في وجه الفتنة والاقتتال.
على الرغم من النجاحات الكبرى التي حققتها حركة "فتح" منذ انطلاقتها، إلا أنها تعرضت لكثير من الانتكاسات؛ فبعد معركة الكرامة ومرحلة النهوض الثوري، كان الخروج المدوي من الساحة الأردنية إثر الأحداث الدامية من منتصف 1970م؛ نتيجة للاختلاف الاستراتيجي بين النظام السياسي والحركة الفدائية، وأهدافهما المتباينة والذي غذته عوامل إقليمية وعالمية مختلفة؛ ففقدت الحركة وباقي فصائل النضال الفلسطيني إحدى أهم ساحات العمل الوطني، التي كانت تشكل، لما تحتويه من سمات استراتيجية وذخرا جماهيريا- رافعة قوية للعمل الكفاحي.
بتاريخ 14 آذار- مارس 1978م، شنّت إسرائيل هجوماً على الجنوب اللبناني، أطلقت عليه 'عملية الليطاني'، شارك فيها أكثر من 25 ألف جندي؛ بهدف إبعاد المجموعات الفدائية الفلسطينيةً عن الحدود؛ واستمرّ الهجوم سبعة أيام احتلت إسرائيل خلالها أراض لبنانية بعمق10 كيلومترات، لتنسحب بعدها إثر تشكيل قوات الفصل الدولية (اليونيفيل)، وتسلم جيش لبنان الجنوبي المنطقة؛ إلا أن هذا لم يمنع أبناء حركة "فتح" وغيرها من التنظيمات الفلسطينية من مواصلة عملياتها الفدائية ضد إسرائيل؛ ففي العام 1981م كانت الكاتيوشا الفتحاوية تدك المستوطنات الشمالية .
الهزة الأخرى التي تعرضت لها الثورة الفلسطينية تمثلت في الاختلاف الفلسطيني الذي أعقب تبني المنظمة في 8 حزيران- يونيو 1974م "برنامج النقاط العشرة" الداعي إلى الموافقة على إقامة السلطة الوطنية على أي شبر يتم تحريره او الجلاء عنه، أو ما أطلق عليه "مرحلية النضال"؛ من منطلق النظرة الواقعية، وفهم طبيعة المرحلة، وتوازن القوى، وتعبيراً عن القدرة على التواصل والتجدد. ونشوب الحرب الأهلية في لبنان واندفاع قوى المقاومة الفلسطينية، لأسباب عديدة ومتنوعة، إلى أتونها؛ الأمر الذي شتت وجهة الكفاح الفلسطيني وبث الاضطراب في بوصلته. ومع هذا حققت قوات الثورة الفلسطينية خلال وجودها على الساحة اللبنانية الكثير من النجاحات والانجازات الباهرة.
عسكريًا، شنت قوات الثورة المرابطة في الجنوب اللبناني سلسلة من العمليات المميزة، كان أشهرها "عملية سافوي" عام 1976، ثم عملية دلال المغربي عام 1978، وغيرها الكثير من العمليات التي استهدفت المستوطنات الشمالية القريبة من الحدود اللبنانية، والتي أوجعت اسرائيل وأقضت مضاجع مؤسستها العسكرية والأمنية.
وعلى الصعيد السياسي حققت الثورة، من خلال العمل الدؤوب جملة من النجاحات تمثلت في انتزاع اعتراف معظم دول العالم بشرعية النضال الفلسطيني، واحتل مندوبو منظمة التحرير الفلسطينية المراكز المرموقة في المؤسسات والمحافل الدولية الفاعلة. وتتوجت هذه النجاحات يوم 13/11/1974 بوصول الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة حاملًا غصن الزيتون بيد وبندقية الثائر باليد الأخرى، ليلقي على مسامع زعماء العالم إحدى أهم الكلمات في تاريخ الدبلوماسية في العالم.
لم تنشغل حركة "فتح" أثناء ممارستها العمل العسكري والسياسي عن بناء المؤسسات المختلفة كالمنظمات الشعبية، والاتحادات النقابية، والأجهزة الإعلامية والثقافية والاقتصادية؛ لتكون روافد ودعائم أساسية للثورة الفلسطينية ونشاطاتها في شتى الميادين، ولتساهم في بلورة الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، لتشكل رافعة متينة للكيان الفلسطيني تمهيدًا لقيام الدولة.
في عام 1982م خاضت الثورة الفلسطينية معركة أسطورية في مواجهة الجيش الإسرائيلي، فبتاريخ 6 حزيران 1982م بدأ الجيش الإسرائيلي بقصف جوي ومدفعي لمدن الجنوب اللبناني، ثم تحرك براً؛ وكان الهدف المعلن من قبل إسرائيل تدمير منظمة التحرير الفلسطينية. وبدأت المواجهة التي استبسل فيها أشبال ورجال الفتح؛ فكانت قلعة شقيف شاهداً، وكان الصمود الأسطوري في بيروت والذي استمرّ 88 يوماً من الحصار والقصف البري والجوي والبحري للمقاومة الفلسطينية التي فضّلت الموت على الاستسلام؛ لكن أمام الأوضاع الداخلية التي كان يعيشها الشعب اللبناني، ولوقف العمليات الإسرائيلية التي استهدفت المدنيين أيضاً؛ اضطرت منظمة التحرير للخروج من بيروت؛ فرحل ما يقارب 12 ألف مقاتل فلسطيني إلى بعض الدول العربية بتاريخ 30 آب- أغسطس 1982م، وبدورها انتقلت القيادة الفلسطينية إلى تونس.
تلقت حركة "فتح" خلال مسيرتها الكثير من الضربات، فقادتها كانوا هدفاً لعمليات الاغتيال، وعلى رأسهم أعضاء اللجنة المركزية؛ فكان الشهيد أحمد موسى، وأبو على إياد، وأبو يوسف النجار، وكمال ناصر، وكمال عدوان، وعبد الفتاح الحمود، وسعد صايل، وماجد أبو شرار، وهايل عبد الحميد، وممدوح صبري صيدم، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف، والرمز ياسر عرفات، الذين ارتقوا شهداء على دروب الحرية والاستقلال.
واجهت الثورة الفلسطينية مؤامرات كثيرة، وتلقت ضربات قاسية بعد خروجها من بيروت؛ لكنها في كل مرة كانت تصمد وترفض الركوع؛ واستطاعت أن تحافظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل مقابل السعي العربي الرسمي للسيطرة على القرار الفلسطيني، أو إلغائه أو طمسه.
في عام 1987م اندلعت انتفاضة الحجارة التي انطلقت شرارتها من أزقة مخيم جباليا، لتعم باقي المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية الأخرى. وقد جاءت الانتفاضة امتداداً للرؤية الفتحاوية المتمثلة في الثورة الشعبية التي تشعل الأرض تحت أقدام الغزاة، وتعيد للوطن حريته وللمواطن كرامته. وتصدرت حركة "فتح" الجماهير الفلسطينية لتدير دفة الانتفاضة، وكان الشهيد خليل الوزير أبو جهاد هو الموجه والقائد؛ ما دفع رجال الموساد الإسرائيلي إلى استهدافه واغتياله في تونس؛ إلا أن هذا لم يوقف لهيب الانتفاضة، فقبل أن تكمل عامها الثاني، كان المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر بتاريخ 15 تشرين الثاني 1988م يعلن بلسان الرئيس الراحل أبو عمار "وثيقة الاستقلال".
خاضت فتح في مطلع التسعينات حرباً سياسية فرضت من خلالها تواجداً وتمثيلاً للشعب الفلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في تشرين الثاني 1991م، عندما شكّلت وفداً فلسطينياً بزعامة الدكتور حيدر عبد الشافي، وعضوية شخصيات فلسطينية من داخل الأراضي المحتلة، لتمثيل الشعب الفلسطيني في هذا المؤتمر.
بتاريخ 13 أيلول 1993م، وقعت اتفاقية "أوسلو" بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، وكانت عودة كوادر وقيادات الثورة من الخارج إلى أرض الوطن بتاريخ 4 أيار 1994م، ثم الرئيس الراحل ياسر عرفات في الأول من تموز من نفس العام، لتبدأ مرحلة بناء مؤسسات الشعب الفلسطيني، بعد أن أقر المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة في تونس بتاريخ 10 تشرين الأول 1993م قيام أول سلطة وطنية فلسطينية على أرض الوطن، وانتخب أبو عمار من قبل الشعب الفلسطيني رئيساً لها في انتخابات ديمقراطية نزيهة في 20 كانون الثاني 1996م، إلى جانب انتخاب أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني والذي حصدت "فتح" غالبية مقاعده.
لقد كان لحركة "فتح" وسلوكها السياسي بعد انتقالها من المنافي إلى أرض الوطن أثراً كبيراً على الحياة السياسية والاجتماعية لشعبنا الفلسطيني من خلال ما كرسته من مفاهيم ديمقراطية، من خلال إشراكهم في عملية بناء الوطن ونهضته، واختيار قادتهم وممثليهم عبر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة بشهادة جميع المراقبين المحليين والدوليين، حققت من خلالها حركة "فتح" فوزًا كبيرًا على صعيد انتخابات رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية والمجلس التشريعي الفلسطيني في 20 كانون الثاني 1996 لتدور عجلة مرحلة جديدة من تشييد أركان الدولة المستندة إلى الشرعية القانونية الدستورية.
في الثامن والعشرين من أيلول عام 2000، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي سميت اصطلاحا "انتفاضة الأقصى"؛ احتجاجًا على الزيارة الاستفزازية التي قام بها زعيم المعارضة اليميني المتطرف آنذاك (أرئيل شارون) لباحة المسجد الأقصى بحماية زهاء ألفين من الجنود وحرس الحدود الإسرائيليين وبموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي "أيهود باراك". وكان ردّ الجنود المرابطين بنوايا تصعيد مبيّته في الحرم القدسي عنيفًا ضد المحتجين على الزيارة؛ ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من المدنيين الفلسطينيين.
وكانت هذه الواقعة بمثابة الشرارة التي ألهبت الأراضي الفلسطينية بسلسلة من المواجهات الدامية امتدت لتشمل جميع المدن والبلدات الفلسطينية، وكعادتها، تصدرت حركة "فتح" المواجهة وقدمت الشهداء من خيرة أبنائها؛ وكان الصمود الأسطوري لأبو عمار إذ حاصرته مجنزرات الاحتلال في مقره في مدينة رام الله لنحو ثلاث سنوات (13 كانون الأول 2001 حتى 11 تشرين الثاني 2004)، ليمثل حالة التحدي والصمود في معركة كسر الإرادات مع سلطات الاحتلال، وجاءت الهبة الجماهيرية لرفع الحصار عن الرئيس ياسر عرفات لحظة تهديد حياته في19 أيلول 2002 لتمثل تلاحم القيادة والجماهير في خندق واحد في ساحة المعركة انسجاما مع استراتيجية حركة "فتح" أم الجاهير.
في 11 تشرين الثاني 2004 استشهد الرئيس والقائد والرمز والمؤسس ياسر عرفات؛ مخلفًا أثرًا بالغ الألم على حركة فتح، التي سرعان ما رتبت أوراقها ليعتلي سدة القيادة رفيق دربه الرئيس محمود عباس حسب الأصول الحركية الناظمة لبنائها التنظيمي لتعود حركة "فتح" كطائر الفينيق، الذي ينبعث من تحت الرماد.
في 9 كانون الثاني 2005 جرت الانتخابات الرئاسية، وفاز فيها الرئيس محمود عباس (مرشح حركة "فتح") للرئاسة بنسبة 62.52%، ليؤكد من جديد على ما جاء في برنامجه الانتخابي المعروف ببرنامج العمل الوطني، والذي يتضمن أربعة عشر عنواناً رئيسياً هي: التمسّك بالثوابت الوطنية، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ووقف العدوان الإسرائيلي بكافة أشكاله، والتمسك بخيار السلام الاستراتيجي، وتعميق العلاقات القومية والدولية، واستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، والدفاع عن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، وحرية الأسرى والمعتقلين أولوية وطنية وشرط لا غنى عنه لإنجاز السلام العادل، وبناء دولة القانون والمؤسسات والمساواة والتسامح، ومواصلة مسيرة الإصلاح في مختلف المجالات، وإطلاق ورشة لإعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد وتعزيز دور القطاع الخاص، وإطلاق خطط تطويرية في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والثقافية، وحماية حقوق المرأة، ورعاية الأجيال الشابة.
بذل الرئيس "أبو مازن" جهوداً مضنيةً من أجل إعادة إطلاق عملية السلام مع الجانب الإسرائيلي برعاية دولية؛ لتحصيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض الابتزازات الإسرائيلية والأمريكية الهادفة لفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، والتنازل عن الثوابت الوطنية، وعمل الرئيس محمود عبّاس على حشد المواقف الدولية الداعمة للقضية الوطنية، وزار في سبيل ذلك عشرات الدول، وشارك في مختلف المحافل والمناسبات التي يمكن أن تشكّل منبراً لشرح معاناة الشعب الفلسطيني وتأكيد حقه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
بنظرة شمولية معمقة للأمور نجح الرئيس محمود عباس وبدعم مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية (المجلس الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية) وبدعم من اللجنة المركزية والمجلس الثوري لحركة "فتح" من تحقيق انتصارات دبلوماسية، أبرزها حصول فلسطين في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة السابع والستين، في 29 نوفمبر 2012، على صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، في خطوة تعد انتصارًا دبلوماسيًا ومكسبًا قانونيًا للفلسطينيين، ترتب عليه انضمام "دولة فلسطين" إلى العديد من المؤسسات والمنظمات والمواثيق والبروتوكولات الدولية.
أما على صعيد الوضع الداخلي لحركة فتح، فإن نجاحها في عقد مؤتمرها السادس ( من 4 إلى 15 آب 2009) ومن ثم عقد مؤتمرها السابع (2016) في ظل التعقيدات والمعيقات التي رافقت ذلك، أكدت على حيويتها وقدرتها على النهوض بأعباء ومتطلبات المرحلة؛ كونها الرافعة الأساسية للمشروع الوطني، بما في ذلك إعادة إنتاج التجربة الديمقراطية بما يتلاءم مع طبيعة شعبنا وتطلعاته للحرية والاستقلال.
بعد 60 عاماً من النضال والتضحية والفداء، ما زالت حركة "فتح" التي نسجت خيوط الحلم الفلسطيني هي المعبرة عن ضمير الشعب بأفكارها الوطنية والوحدوية والواقعية، وما زالت بيدها الدفة، وبوصلتها اليوم تتجه نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، بعد أن تمكنت من المحافظة على الهوية الفلسطينية، واستقلالية القرار الوطني، وإعادة القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء؛ وما زالت تتمسك بالثوابت الفلسطينية، ولن ترضى ولن تسمح بالحلول المؤقتة أو أي صفقات لا تلبي طموحات الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها ما يسمى "بصفقة القرن"؛ وستبقى حركة "فتح" الدرع الذي يصون فلسطين والشعب الفلسطيني.